القدس المحتلة غازي ابوكشك
يبدو أن الرئيس أوباما يقود الولايات المتحدة إلى خارج "الأرض الموعودة". نسمع دوماً أن الأحداث في الشرق الأوسط خرجت عن سيطرة الولايات المتحدة وأن نفوذنا يتلاشى في المنطقة وهو أمر إيجابي. يُفترض أن يكون الأميركيون مسرورين عند الاكتفاء ببذل المساعي الدبلوماسية بعد أن استثمروا الكثير من الدم والأموال في العراق وأفغانستان من دون تحقيق أي نتيجة فاعلة، كذلك، تسري شائعات مفادها أننا قد لا نحتاج قريباً إلى النفط السعودي.
لا شك أن هذا التحليل يفتقر إلى الرؤية العميقة. على الأرجح، سيتابع الشرق الأوسط مواجهة الاضطرابات خلال السنوات المقبلة، وكلما تراجعت التزاماتنا في تلك المنطقة، فلن نتمكن من التأثير في الأحداث، لكن في الحد الأدنى، يعني التزامنا تجاه إسرائيل أننا لا نستطيع التخلي عن تلك المنطقة نهائياً.
على صعيد آخر، قد تشير مصالحنا الخاصة إلى تعمّق التزامنا في المنطقة، إذ تشهد دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط تنامياً متسارعاً وقد تصبح شريكة اقتصادية مهمة للولايات المتحدة: قد تساهم هذه الفرصة في ترسيخ الاستقرار وتوفير أسواق مستقبلية أساسية أيضاً. يكفي أن نفكر بالمعطيات الديمغرافية القائمة، أي تلك العوامل المؤثرة التي تتبلور بوتيرة بطيئة على أرض الواقع.
في ظل تقلّص نطاق هذا العالم، يمثّل الشرق الأوسط المتنامي فرصة مهمة على المدى الطويل. صحيح أن "مكتب المراجع السكانية" ذكر في تقاريره أن مجموع شعوب شمال إفريقيا وغرب آسيا (تشمل الفئة الثانية إسرائيل، والأردن، والمملكة العربية السعودية، ودولا شرق أوسطية أخرى، بالإضافة إلى أرمينيا وأذربيجان) كان يشمل 451 مليون نسمة فقط في عام 2011، لكن من المعروف أن معدل النمو في المنطقتين هو الأعلى في العالم. بحلول عام 2050، من المتوقع أن يرتفع العدد السكاني في شمال إفريقيا بنسبة 150% ليبلغ 323 مليون نسمة، بينما سيرتفع العدد السكاني في غرب آسيا بنسبة 170% ليبلغ 402 مليون نسمة. في عام 2050، ستضمّ المنطقتان عدداً سكانياً يفوق العدد الموجود في أميركا الجنوبية والوسطى معاً، وسيكون ذلك الرقم أكبر من عدد سكان أوروبا كلها وأميركا الشمالية طبعاً حيث سيقتصر العدد على 470 مليون نسمة فقط.
على صعيد آخر، من الملاحظ أن الشعب في المنطقتين ينتمي إلى فئة الشباب عموماً، ما يطرح تحديات وفرصا في آن. من المعروف أن 5% من سكان شمال إفريقيا فقط هم فوق عمر الخامسة والستين و31% منهم هم تحت سن الخامسة عشرة. الأرقام مشابهة في غرب آسيا. في المقابل، من المعروف أن 13% من سكان أميركا الشمالية هم فوق سن الخامسة والستين بينما يقتصر عدد السكان تحت عمر الخامسة عشرة على 19%. تواجه اليابان وضعاً مزرياً أيضاً، إذ يناهز عمر 23% من سكانها الخامسة والستين عاماً. تترافق هذه الأرقام مع عواقب متوقعة.
في الولايات المتحدة، يعني توسّع فئة كبار السن أن برامج التقاعد والرعاية الصحية ستكون أبرز محاور الميزانية المحلية. تواجه أوروبا مشاكل مماثلة. يتراجع معدل الولادات في كل بلد أوروبي وقد انخفض العدد السكاني في إيطاليا خلال خمس سنوات متلاحقة. في اليابان، من المتوقع أن يتقلّص العدد السكاني بنسبة 26% بحلول عام 2050 و30% بحلول عام 2060. كذلك، يوشك العدد السكاني في روسيا على التراجع من 143 مليون إلى 107 ملايين نسمة في عام 2050. حتى اليد العاملة في الصين ستبلغ ذروتها قريباً (حوالي مليار نسمة) قبل أن تبدأ مرحلة التراجع.
أمام هذا الوضع، لا بد من التساؤل: من سيكوّن الأُسَر ويشتري المركبات والأجهزة في العقود المقبلة؟ بحثاً عن النمو، يجب أن ننظر إلى آسيا طبعاً وإلى الشرق الأوسط أيضاً.
لن يصبح الشرق الأوسط فئة استهلاكية مهمة من دون أن يشهد تطوراً اقتصادياً لافتاً. يجب أن تنشط الولايات المتحدة في تلك المنطقة وأن تزرع بذور الطلب المستقبلي وتعمل على تقليص مظاهر التطرف أيضاً. هل يشك أحد في أن الوضع قابل للاشتعال بسبب مشكلة البطالة التي تطاول ربع شباب مصر وتراجع مستوى المعيشة هناك إلى أقل من دولارين يومياً بالنسبة إلى 20% من السكان؟
تطرّق الرئيس أوباما إلى بعض المسائل المشابهة خلال خطابه الشهير في القاهرة في عام 2009 حيث تعهد بـ"إعادة ضبط العلاقات" مع المسلمين. وعد الرئيس بتوفير مجموعة جديدة من المتطوعين في قطاع العمل كي يقيموا شراكات مع نظرائهم في الدول ذات الأغلبية المسلمة، بالإضافة إلى إنشاء صندوق جديد لتعزيز التطور التكنولوجي ومراكز جديدة لدعم التميّز العلمي وإرسال علماء جدد من أجل تحقيق الإنجازات.
لكن لسوء الحظ، لم تحصل متابعة جدية لتلك الاقتراحات، وكجزءٍ من التزامنا الاقتصادي، تراجع حجم الاستثمارات الأميركية المباشرة في مصر إلى 1.4 مليار دولار في عام 2010 بعد أن ارتفع من 0.2 مليار إلى 6.4 مليارات دولار بين عامي 2004 و2008. نجم ذلك جزئياً عن حالة الركود، لكن ما كانت تلك النزعة كفيلة ببناء الجسور بين الفريقين.
تتعدد الأسباب التي تفسّر انهيار مكانتنا في الشرق الأوسط خلال ولاية أوباما مقارنةً بعهد الرئيس جورج بوش الابن، منها عدم متابعة هذا الملف: في مصر، كشف استطلاع رأي أجراه المعهد العربي الأميركي في عام 2011 أن 5% من الشعب فقط لديهم نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة بعد أن كانت هذه النسبة 30% في عام 2009 و9% في عام 2008. تراجعت شعبيتنا إلى أقل من المستويات المسجلة في عام 2008 في كل بلد شارك في الاستطلاع باستثناء تركيا. أكثر ما يثير الصدمة هو أنّ شعبية الولايات المتحدة هي أقل من شعبية إيران في معظم البلدان.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن البطالة هي المشكلة الأساسية في تونس ومصر ولبنان والأردن وحتى المملكة العربية السعودية، تماماً مثل الولايات المتحدة. يمكننا أن نقدم المساعدة في هذا المجال. حتى لو لم نتمكن من تحمّل كلفة ما يشبه "خطة مارشال" في الشرق الأوسط، يمكن أن يقتنع القطاع الخاص بأن دعم المشاريع والاستثمارات المشتركة في المنطقة يصب في مصلحته.
لكن يتطلب ذلك الأمر للأسف حساً قيادياً من الرئيس أوباما وتواصلاً مستمراً مع قطاع الأعمال (وهو قطاع لا يدعمه البيت الأبيض في هذا العهد). من المعروف أن أوباما يتجاهل القطاع الخاص، لا بل يعارضه أحياناً، لكن ما لا يفهمه الكثيرون هو أن هذا الأداء أعاق التعافي الاقتصادي محلياً وأساء إلى خياراتنا في الخارج أيضاً
التعليقات (0)