سواد الراحة وبطلان الكل في رواية " كأنة نهار"لأحمد الشريف
كأنة نهار,,رواية جديدة صدرت مؤخرا عن دار الحضارة للنشر في القاهر ومن خلال صفحاتها السبعين يلج مؤلفها عالم الحكي الروائي الزاخم لأول مرة بعد انجازه مجموعة قصصية بعنوان " مسك الليل,, دار ميريت 2002.
يوحي بداية عنوان الرواية " كأنة نهار" بان المشار إلية هو الليل وتؤكد الأحداث ذلك الإيحاء,فالمقصود بالفعل هو الليل بمعناه الخصب الثري وبما يتضمنه من دلالات وعناصر وإيحاءات ورموز متعددة. الليل هو مسرح معظم الأحداث الروائية التي قام بها شخوص الرواية, سواء في القرية الصغيرة القريبة من الفيوم ومن بحيرة قارون الشهيرة أو من القاهرة العاصمة حيث مكتب السياحة الذي يعمل فيه الراوي مرشدا سياحيا وظيفة مصاحبة الأفواج السياحية إلي أماكن أثرية وطبيعية متعددة, من بينها بحيرة قارون والقرية الصغيرة القريبة منها, مسقط رأس الراوي ومرتع صباه وشبابه, الليل هو الصديق الصدوق لمعظم الشخوص الذين لم ينج احد منهم من المأساة ولواعج الأحزان وسحابات القلق, الليل هو الدنيا التي لا يري غيرها إسحاق يونان الذي فقد بصرة بعد أن أكل السرطان جسم وروح حبيبته ثريا. والليل هو الطقس الذي لا يعرف غيرة شخص مثل عبد الله أبو الحمد, الذي لا يكف في الليل بعد إشعال البخور عن البحث في كتب السحر القديمة عن دواء لحالته بعد أن اخبره أطباء الدنيا بعدم وجود دواء عندهم له يمكن أن يعيده رجلا طبيعيا الليل أذن هو السواد الذي لايحيد عنة معظم الشخوص والأبطال. وهو المناخ المناسب لحلول وانتشار الأساطير والخرافات والطقوس الشعبية والممارسات القروية في البلدة الصغيرة المليئة بالحوادث والأشجار والأشباح التي تنام في حضن بحيرة قارون المفعمة بالأسرار. والليل هو السروال النفسي الملائم الذي يرتديه علي طول الخط الراوية_ البطل في شوارع القاهرة والمستشعر للغربة والفراغ المادي والمعنوي, وسط صخب العمل الارتجالي غير الدائم, والقلق الحاد من الغد. لقد أراد الراوي إذن أن يرسم خريطة العلاقات الخفية بين الأشخاص وان يرصد خطاياهم الغامضة في دروب المجهول. الأشخاص كثيرون في النص بما لم يتح التعمق الراسي في دراسة وتحليل كل شخصية علي نحو تفصيلي, فهذا أمر لا يعني الراوي الذي أراد بسط طاولة أفقية ممتدة مليئة بالنقاط المكانية والزمنية التي يتحرك كل شخص بينها عدة حركات قليلة محسوبة بدقة. ولكن هذه الحركات كافية لإبراز مفاتيح فهم هؤلاء الشخوص ورصد علاقاتهم بالراوي, ويبعضهم البعض, بما يؤدي في المحصلة الي رسم صورة كلية كبيرة للمشهد من خلال تجميع نثارات الأحداث المجتزأة التي يحكيها الراوية العليم والمشارك في الأحداث في الوقت ذاته. وتبدو الصورة الكلية التي حرص الكاتب علي إخراجها ببساطة وتلقائية للتلقي أو المشاهد علي نحو أدق , عبارة عن رثائية عظيمة لأحوال مجموعة من البشر من أعمار مختلفة, ولدوا ونشؤ في تلك القرية الصغيرة وانتقل بعضهم الي العمل في القاهرة. في حين ظل البعض في قريتهم. مع مرور الزمن متحركا للأمام وانتقال الشخوص الجزئي بين نقاط المكان, يلاقي كل شخص مصيره الذي لا يخلو من إظلام وسواد, ويكتشف الراوي إن معظم الشخوص قد تلونوا بلون قريتهم, فهم يبدون هادئين مسالمين, في حين أن اليأس يأكلهم والنيران تشتعل بداخلهم. أما القرية ذاتها فان الراوي يصفها قائلا,
, هذه البلدة رغم أنها تبدو هادئة مسالمة, إلا إنها تفور وتغلي بالأحقاد والضغائن. إباء يقتلون أبناء, أبناء لأ يهتمون بمشاعر الآباء,,
أما المحور الجوهري الذي تدور حوله حركة الشخوص والأحداث فيمكن تلخيصه في أن الليل أو, ,,السواد,,, هو وسادة الراحة التي يلجا إليها الأشخاص اليائسون من اجل تحقيق الاستكانة الأبدية, وفي ان كل شي باطل, وحثي الأفعال المبهجة والنزوات التي لا يقبل عليها الشخوص في بعض مواضع الرواية, فأنها تكون من قبيل التشفي اللحظي من الجراح الغائرة, والهروب المؤقت من الجحيم المقيم إلي حفنة من الماء البارد لأتلبث أن تتلاشي بضياع النشوة الزائلة. والحقيقة أن حضور الشخصيات المتعددة في النص لا يخدم وجود هؤلاء الشخصيات أنفسهم بالقدر الذي يفيد في تعميق حضور البطل_الراوي الذي يري مواضع ونقاطا جديدة من ملامحه النفسية في هؤلاء الأشخاص المشروخين أو المرايا المكسورة التي تعكس ماساته الخاصة. فكل مأساة جزئية يحكيها الراوي سريعا عن احدي الشخصيات أو كل واقعة مؤسفة تقتل الأمل في نفس شخصية ما فإنما هي في حقيقة الأمر تلخص جانبا من جوانب الإحباط وترسم سحابة من سحابات الليل في نفس الراوي الذي صار بوتقة مليئة بالمشاكل, والراوي نفسه يعترف بذلك قائلا ,, تنامت المشاكل حولي. اكتشفنا ان ديون أبي أكثر مما توقعنا. يوما ما سوف اشتكي علي طريقة رجب. رجب أيضا زادت شكواه من الديون التي لأ تنتهي ومن مضايقات مدير المكتب. مدير المكتب هو الأخر يشكو من قلة عدد الأفواج وازدياد نفقات المكتب. سلسلة من الشكاوي,, ويؤمن الراوي بان مصير كل ما يمتلكه إلي فناء وكيف لأ , وقد افني الزمن اعز ما يملكه سكان القرية. ويقول وهو يمعن النظر في أحوال بعض الرجال الكبار في بلدته ,, الأرض , المال , الأبناء. أشياء يقوم الزمن بسرقتها من الإنسان كل دقيقة. لذا يجب علي البني ادم أن يستكين ويهدا ويبحث عن ساعة سلام وصفاء بين أصدقائه قبل أن يسرقهم الزمن أيضا,,, المتعة إذن لحظية لا مفر من وجهة نظر الشاب الراوي, وهو ليس متشائما بل واقعي. فهو غير مستقر في العمل , وانتهي الأمر فعلا بإغلاق مكتب السياحة وتسريح المشتغلين به وغير مرتاح للإقامة فى القاهرة, وغير مستقر في الحب, حبيبته تزوجت وطلقت ولا يعلم أخبارها بانتظام, وهو يعاني من عشرات المسببات للكآبة والاسوداد إغلاق المكتب , قلة المحاصيل , موت الأسماك, زيادة الديون, زهق الناس , تعقد الحياة . ترددي بين السفر والبقاء, أشياء عندما تجتمع في وقت واحد تدعو لليأس والإحباط أو الاضطراب علي أسوا الفروض ومن اجل ذلك كله فان الراوي يحاول مداوة نفسه بالارتماء في أحضان حبيبته ,, حياة سعيد,.. التي قابلها بالمصادفة في الطريق العام بعد أن علم أن زوجها طلقها و..حياة سعيد... كما يوضح اسمها الدال ليست مجرد أنثي أو حبيبة ولكنها ..الحياة.. التي قد تجلب السعادة كما يظن الراوي بشرط أن يقتحمها مباشرة بلا تردد أو تحفظ وبدون ادني تفكير. ومن هنا جاء الحدث الختامي في الرواية مشتملا علي المضاجعة الجنسية النهمة بين الراوي وحياة التي قالت له ..,, حاول تنسي شوية أمبارح وبكرة وقبل ما نتقابل . خلينا مع بعض الساعة ذي.. فكأنما يؤكد الراوي لنفسه وللآخرين أن اللجوء اللحظي للحياة ومتعها أفضل من اللاشيء. وان الهروب المؤقت من الموت المحيط والواقع الكابوسي المطبق عبر بوابة الجنون أفضل من الضياع في متاهات العقل والمنطق.
شريف عبد الله الخميس العرب الثقافي 15 7 2004 .,.
التعليقات (0)