سنوات اللاحسم
من كتاب "البرادعي وحلم الثورة الخضراء" المنشور قبل ثورة 25 يناير- كمال غبريال
ثلاثة عقود هي عمر المرحلة الحالية للنظام الحاكم المصري، والتي هي الحلقة الثالثة من نظام الحكم الذي أرساه النظام اليوليوي، ونحن لا نزمع هنا أن نبدأ تقييماً لتلك المراحل، ولا أن نُقَيَّم الحلقة الثالثة التي لازالت ممتدة لأجل مجهول حتى الآن. . كما لا يجوز احتراماً للدقة العلمية والموضوعية، أن نختزل أياً من هذه المراحل في جملة واحدة، نتخذها عنواناً لهذه المرحلة أو لتلك. . لكننا نستطيع أن نرصد ملمحاً أساسياً أو أكثر في كل من هذه المراحل، يصلح بدرجة مقبولة، أن يكون العمود الفقري لتوجهات وسياسات تلك المرحلة، والذي يعد الوصف المشترك لكثير من الحالات العملية التي سادت البلاد، وحكمت رؤية القائمين على الأمور.
كان الاختلاف بين المراحل الثلاث بالطبع مرتهناً بشخصية الزعماء الثلاثة، وبطبيعة المرحلة التي حكم كل منهم فيها، سواء طبيعة الأوضاع في الداخل المصري، أو الأحوال العالمية وموازين القوى وعلاقاتها، وأيضاً تأثر أداء زعيمي المرحلتين الأخيرتين، بأداء من قبله وتجاربه ومصيره. . ورغم أن جوانب التشابه بين المراحل الثلاث عديدة، إلا أن أهم معلم للتشابه بينها، هو إدارة الحكم بمنهج يكفل البقاء على كرسي السلطة مدى الحياة، ولا يخفى أن ذلك النهج وحده كفيل بتأسيس وترسيخ مساحة واسعة من التشابهات، رغم الاختلاف البين والجذري بينها.
إذا استطعنا أن نضع المرحلة الناصرية، التي امتدت ثمانية عشر عاماً، تحت عنوان مثل: "المغامرة والتمرد والقبضة القوية". . المغامرة بالمبادرة بأفعال وتوجهات غير مسبوقة بالنسبة للحكم في مصر، وربما أيضاً في الكثير من الدولة قريبة الشبه بالحالة المصرية، أو ما يسمى بالعالم الثالث. . والتمرد المتمثل في العداء للعالم الغربي، واللعب الخطر على المسافة بين المعسكرين الشرقي والغربي، في أوج الحرب الباردة. . والقبضة القوية في حكم الداخل، بنظام بوليسي أحصى على المصريين حتى الأنفاس، وأرسل بأغلب قواهم السياسية إلى ما عُرف "بوراء الشمس". . فإننا نستطيع على ذات النمط أن نضع عنواناً للمرحلة الساداتية مثل: "الواقعية والتغيير والتلاعب". . الواقعية في الحركة على هدى حقائق الواقع، وليس وفق رؤى ثورية راديكالية. . والتغيير النابع من محاولة لإخراج مصر مما ورطها فيه العهد السابق (سواء سياسياً أو اقتصادياً)، ومن محاولة السادات في معرض "البحث عن الذات"، السير في خط مضاد لذاك الذي سار عليه سلفه. . والتلاعب بكل الأوراق ليجد لنفسه وسياساته مكاناً ومكانة، سواء الأوراق العالمية، أو الأوراق المحلية، بالتلاعب بمجموعات الانتهازيين والمستغلين وبالإخوان المسلمين وبغيرهم، وهي اللعبة التي أوصلته لنهايته المأساوية.
الآن نذهب إلى المرحلة الثالثة الراهنة، والتي امتدت حتى الآن لما يوازي مجموع المرحلتين السابقتين، ومرشحة عن طريق الوراثة للبقاء لفترة مماثلة. . إن جاز التعميم والاختزال، فإننا نستطيع الزعم بأن هذه الفترة أشبه بمرآة انعكست فيها كل صور ماضي المرحلتين السابقتين وتجاربهما، ولأن الهدف المشترك كما قلنا للمراحل الثلاث، هو بقاء الجالس على كرسيه لأطول زمن ممكن، كان من الطبيعي أن يبحث الجالس عما أقض مضاجع سلفيه، ليفعل عكسه تماماً. . ليس مجال البحث أو الاهتمام إذن ما هو مفروض، أو ما هو صالح لهذا الوطن ومواطنيه، فهذا قد يأتي أو لا يأتي عرضاً، وإذا ما سمحت الظروف. . فالبقاء بأقصى درجة ارتياح ممكنة على الكرسي، هو الهدف الأسمى، الذي لا يصل إلى مرتبته من حيث الأهمية أي هدف آخر. . هكذا لا ينبغي لنا أن نتعجب، إذا كان الدرس هو النأي عن أي صراعات، وبالتالي عدم القيام بأي مبادرات لحسم أي قضية أو إشكالية، مهما كانت ملحة أو حتى مصيرية. . يستوي في ذلك الإشكاليات الموروثة أو المستحدثة. . الاستراتيجية (وليس فقط التكتيك) يكون هكذا هو التهدئة. . إطفاء الحرائق ليس أكثر. . دون الإقدام على بحث أسباب تلك الحرائق، أو محاولة العثور على حلول تصل بنا إلى القضاء على احتمالات تكرارها.
السياسة المميزة لهذه الأربعة عقود ليست سياسة "الوسطية"، أو حتى سياسة مسك "العصا من المنتصف"، ففي هاتين الحالتين تكون هناك سياسة محددة، يلتزم بها النظام وكافة أجهزته ومؤسساته، وهذا لابد وأن يتطلب مواجهة وردع كل من يحاول العصف بهذه السياسة أو تجاوزها. . ولأن مسالة المواجهة والردع هذه غير واردة في اعتبار النظام، إلا للذين يهددون الكرسي ومن يجلس عليه تهديداً مباشراً، فإنه من غير الوارد بالتالي أن يتخذ النظام موقفاً وسطياً، كما لن يتخذ موقفاً يجنح لليمين أو لليسار. . هكذا تحولت الساحة المصرية إلى بازار، تجد فيه ألف صنف وصنف، بعضها حديث التصنيع، وأغلبها يحمل تاريخاً يشير إلى انتهاء الصلاحية. . ليست هذه بالطبع حالة ليبرالية، فالملعب الليبرالي تحكمه قواعد اللعبة الليبرالية، لكننا هنا أمام حالة فوضى عشوائية، وربما كان أفضل توصيف لها هو المثل الشعب الشعبي: "مولد وصاحبه غايب".
في السياسة الخارجية تركت السياسة المصرية التوجهات غائمة والأوراق مختلطة، فلا تعرف إن كانت مصر مؤيدة حقيقة للسلام في المنطقة، أم أنها تتظاهر بذلك أمام القوى العالمية، ثم تعمل محلياً وداخلياً بعكس ذلك، وتجند منابرها الإعلامية للتحريض ضد السلام، وشحن الجماهير المصرية بالكراهية والتعصب. . فرموز ما يسمى بالكيان الصهيوني يأتون للقاهرة، للتباحث مع نظرائهم المصريين، والتبادل التجاري بين الطرفين "على قدم وساق" كما يقولون. . في ذات الوقت الذي تحاكم فيه مفكرة وصحفية، من قبل مؤسسات مصرية، على تهمة استضافة السفير الإسرائيلي في مكتبها، بجريدة يقال أنها قومية، ويسمح النظام الذي يفترض أنه يعبر عن الشعب المصري، وليس عن شعب "سيكو سيكو"، أن يكون هناك معاهدة سلام رسمي مع إسرائيل، وعداء شعبي لها، ليجرم بالعزل (وربما قريباً بإهدار الدم)، كل من يتجرأ على كسر طابو العداء المقدس.
تارة تدور الديبلوماسية المصرية تبحث عن دور للتوفيق بين فرقاء المنطقة (الأشاوس والمجاهدين)، دون أن تحدد لنفسها موقفاً، ودون أن تمتلك عناصر التأثير على هؤلاء الفرقاء، ترهيباً أو ترغيباً، لتكون النتيجة وكأنها تلعب لعبة "دوخيني يا لمونة"، أو لعبة "الكلب الحيران"، الذي يتردد بين الأطراف ساعياً خلف الكرة التي يتقاذفونها، متصوراً أنه بهذا يبذل جهداً لتحقيق التوافق المستحيل، كما يحدث في محاولة الصلح العبثي بين فتح وحماس. . وتارة أخرى تتدنى مصر إلى دور الوصيفة للدور القيادي السعودي المدعوم بالبترودولار، لتكون في الحلبة أشبه بأسد فقد أنيابه ومخالبه، ولم يعد يصلح إلا لأن يلهو الأطفال معه وبه.
داخلياً تجد بالبازار المصري من يعملون لتحديث الاقتصاد المصري، ولدفع عجلة التنمية، وبجانبهم الفاسدون الذي يمتصون عوائد التنمية ويستنزفون البنوك، ويتسببون في هروب المستثمرين الجادين والشرفاء، لينفرد بالساحة المحتالون والمتطفلون، وبين هؤلاء وأولئك نجد الإهمال والترهل في أجهزة الدولة ومرافقها، ليلعب الدور الأكبر في إعاقة التنمية واستنزاف القدرات المصرية باختلاف مجالاتها، وليس العجز عن جمع القمامة من شوارع العاصمة، بالنموذج الأوحد والأبلغ دلالة على تلك الحالة.
في مجال الحريات المدنية والشخصية للمصريين، نجد أجهزة الدولة الرسمية وشبه الرسمية، وبالتبعية الساحة المصرية عامرة بكل ألوان الطيف، مع التحفظ على هذا التشبيه، حيث أن ألوان الطيف رغم تعددها وتباينها، تشكل معاً لوناً أبيض، في حين أن ألوان قوس قزح المصري، لا تشكل أي لون، اللهم إلا إذا كان اللون الأسود، الذي تستحيل فيه إمكانية تبين مواقع الأقدام. . ومن المضحك المبكي أن يكون الدستور المصري ذاته على هذا الحال، فالدستور ينص في مادته الأولى على مبدأ المواطنة، الذي يقوم فيه الانتماء للوطن على أساس المواطنة، لتأتي المادة الثانية من الدستور لتنص على دين للدولة هو الإسلام، وعلى مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع. . يترتب على هذا تضارب مواقف مؤسسات الدولة من قضية المواطنة، ومن بينها السلطة القضائية، التي تأتي أحكامها أحياناً متسقة مع مبدأ المواطنة، وفي أحيان أخرى تأتي على خلفية أن الإسلام هو الدين الأعلى، وأن أي دين غير الإسلام، وأي مواطنين غير مسلمين هم في الدرجة الثانية على أحسن الأحوال، أو هم مهمشون مخونون مقموعون في أسوأها. . بل ونجد أن الأديان والعقائد التي لا يعترف بها أصحاب الفضيلة، يوضع أصحابها موضع المطاردة والاضطهاد، ونجد من يطالب في ساحات القضاء أو على منابر الدولة، بقتلهم أو صلبهم أو تقطيع أرجلهم وأيديهم من خلاف، كما حدث ويحدث مع البهائيين المصريين، وما يحدث ولو جزئياً للشيعة.
وإذا كانت المرحلة الأولى الناصرية من النظام اليوليوي قد اتخذت من جماعة الإخوان المسلمين موقف السيطرة الكاملة ثم القمع، في حين تميزت المرحلة الثانية الساداتية بالتحالف معهم واللعب بهم. . نجد أن مرحلتنا الراهنة، من قاعدة "اللاحسم" الذهبية، لا تتخذ من هذه الجماعة المحظورة قانونياً أي موقف محدد. . هي تترك الأمر للظروف، أو "للتساهيل" حسب الاصطلاح المصري الشعبي، ليكون لسان حال الجماعة الضليعة في التلون والحربائية: "مرة يهنيني، ومرة يبكيني"، لتكون العقود الثلاثة الماضية مساحة كافية، لتتوغل فيها فيروسات تلك الجماعة، في جميع شرايين وأعصاب الجسد المصري، العليل منذ بداية انقلاب المغامرين المشئوم.
الاعتداءات الطائفية على الأقباط، التي تقوم بها الغوغاء، بتحريض من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وأذرعها الأخطبوطية داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها، سواء هؤلاء المنضوين رسمياً تحت لواء الجماعة، أو المتشيعين والمروجين لفكرها، والذين اخترقوا كافة أجهزة الدولة. . يقوم هؤلاء بحرق المنازل والكنائس، ونهب متاجر المسيحيين، وقتلهم جماعات وفرادى. . هذه الحوادث التي صارت تقع الآن يومياً في مختلف أنحاء البلاد. . لا تقوم الدولة المصرية العتيدة والعريقة بدورها في تفعيل سيادة القانون، ليوضع الجاني خلف القضبان، ويحصل المجني عليه على التعويض المناسب، بما يليق بأقدم دولة مركزية في تاريخ الإنسانية. . كل ما تفعله الدولة الرشيدة أن ترسل سيارات الإطفاء لمكافحة الحرائق، بعد أن تكون النيران قد أكملت مهمتها المقدسة في حرق "أعداء الله" وممتلكاتهم. . تحاصر قوات الأمن المكان، ملقية القبض على أعداد متساوية من الطرفين، الجاني والمجني عليه، ليتوسل إليها المجني عليه بعد ذلك إطلاق سراحه، متنازلاً عما له من حقوق، وتتنازل الدولة سعيدة ومتهللة، عن حق المجتمع في معاقبة من يخترق قوانينه، متوسلة بمجالس إذعان (وليس صلح حقيقي) عرفية، يملي فيها الجاني القوي، شروطه على المجني عليه الضعيف، مستعينة في ذلك بحلفاء السلطة التقليديين، أصحاب القداسة والنيافة وفيالق الكهنة الجرارة، الذين يدعون أن الله قد فوضهم بسلطان الحل والربط. . الحل بالطبع لما يقوي أواصر علاقاتهم بالحاكم، والربط لأعناق الأقباط المنومين مغناطسياً، بخطاب التقوى الأرثوذكسي العتيد!!
لنا أن نتخيل حال مجتمع أو شعب فقد ثقته بنزاهة القضاء وبإقرار العدالة، وتم استقطاب مكوناته خلف خطابات تحريضية وعدائية مقدسة. . ألمثل هذا المجتمع مصير غير التفكك والتحلل، الذي لابد وأن يأتي بعده التعفن وما يتبعه من كوارث. . لنشهد عودة قانون الغاب، وتفشي الكراهية واليأس والفشل الاقتصادي والحضاري. . في ذات الوقت لا يتقدم أحد ليفعل أي شيء، ولسان حال السلطة يقول: فلتسر الأمور كما هو مقدر لها أن تسير، مادام الجلوس على الكراسي في أمان، يتوارثونها عبر الأبناء والأحفاد، ربما إلى يوم يبعثون!!
يضيق المجال عن حصر آلاف الأمثلة من الواقع المصري، تجسد ما وصفناه بسياسة "اللاحسم"، التي تحولت مصر بفضلها، إلى مقلب كبير للنفايات وللنفائس في آن. . ليكون تحسبنا وخشيتنا من التوريث، ليس فقط استشعار العار في أن نورث في الألفية الثالثة، في ظل نظام مفترض أنه جمهوري، وليس مجرد تحسبنا من قدرات شاب أهم مميزاته سلطان والده، وإنما بالأساس توقعنا أن يكون التوريث امتدادا لحالة "اللاحسم"، لمدة نصف قرن آخر.
التعليقات (0)