مواضيع اليوم

سأحبُّكِ يا بغدادُ ؛ سأشتمُكِ بمرارةٍ .. !!

سعد الياسري

2009-08-11 23:51:03

0

 سأحبُّكِ يا بغدادُ .. سأشتمُكِ بمرارةٍ
(في الذِّكرى الحاديةِ عشرةَ لمغادرتي الحياةَ)


(هيَّا ؛ كلانا أساءَ للآخرِ ،
لنجرحْ أصابعَنا كيفما اتفقَ ،
و ليشربْ كلٌّ منَّا قطرةً من دمِ الآخرِ .. و لنتآخَ .
لنخلطْ دموعَنا و همومَنا كالنُّقودِ المسروقةِ ،
و لنمضِ وحيديْنِ)

محمَّد الماغوط : بكاءُ السُّنونو .



سأحبُّكِ ؛
مذعورًا ؛ كعاشقٍ سرِّيٍّ .. كلصٍّ ،
حانقًا ؛ كثوريٍّ شهدَ ثراءَ رفاقهِ ،
دافقًا ؛ كرعافٍ أمامَ وهجِ المدفأةِ ،
بسيطًا ؛ كسلوكِ القرويِّ في المدينةِ ،
حزينًا ؛ كأبٍ في مقبرةٍ عائليَّةٍ ،
ناطفًا ؛ كحليبٍ من حَلمةٍ ،
خليعًا ؛ كقصائدَ الأنقياءِ و الصَّعاليكِ ،
راجفًا ؛ كالطَّيِّبينَ قبلَ الضَّغطِ على الزِّنادِ ،
عاريًا ؛ ككفٍّ بلا خواتمَ أو شَعرٍ ،
معقولاً ؛ كغيمةٍ صيفيَّةٍ تعبرُ .. تعبرُ و حسبْ ،
مالحًا ؛ كحدقيتْنِ في الفقدِ ،
مرعوبًا ؛ كسنجابٍ في الزِّحامِ ،
قانعًا ؛ كضريرٍ اعتادَ التَّعرُّفَ باللَّمسِ ،
عالقًا ؛ كلحمٍ على أنيابِ الفهدِ ،
سائلاً ؛ كدمٍ على النَّصلِ ،
باكيًا ؛ كأختيْنِ تصالحتا للتَّوِّ ،
لزجًا ؛ كفخذيْنِ في الصَّيفِ ،
عاتبًا ؛ كنظرةِ المشلولِ نحوَ السَّماءِ ،
رائبًا ؛ كلعابٍ على لجامٍ ،
فاضحًا ؛ كأثرِ الفمِ على ساقٍ أو رقبةٍ ،
كاملاً ؛ كوردةٍ في شَعرِ صبيَّةٍ ،
نافرًا ؛ كنهديْنِ في إزارٍ من السَّتانِ الأسودِ ،
ماجنًا ؛ كعراةٍ في مناسبةٍ عامَّةٍ ،
ناجزًا ؛ كمسمارٍ في تابوتٍ ،
صارخًا ؛ كآخرِ جنديٍّ في الكتيبةِ المُبادةِ ،
فاحشًا ؛ كغزلٍ وقحٍ بالأصابعِ ،
جائعًا ؛ كعينيْنِ تتلصَّصانِ من ثقبٍ في بابٍ .

سأحبُّكِ ؛
و لا شأنَ لي بالزُّناةِ ..
بالنَّخَّاسينَ و بضائعهم الوطنيَّةِ ؛
لا طاقةَ لي بالصُّمودِ خمسَ دقائقٍ أمامَ استدرارِ الشَّوقِ الماكرِ ..
أمامَ وصلاتِ الانتماءِ الرَّادحِ و الاسترزاقِ من فوَّهةِ جُرحكِ .

سأحبُّكِ ؛
لا شيءَ يتلفُني إلاَّكِ .
أنتِ الحزينةُ كمحراثٍ صدئٍ ،
البتولُ البغيُّ ،
الجريحةُ لا يخلو شبرٌ في جلدِكِ من مخلَّفاتِ الطَّعنِ و التَّقبيلِ ،
الجنايةُ و الشَّهيدةُ و العقابُ ،
أنتِ قربانُ العصرِ علَّ الآلهةَ تخجلُ من كسلِها ،
فيما عيناكِ الذَّاهلتانِ توزِّعانِ النَّظراتِ باستغرابٍ ..
كناقةٍ تمَّ حشرُها عَنوةً في عربةِ نقلِ المواشي .

سأحبُّكِ ؛
أنتِ مَن أورثَني الحنينَ الأبكمَ ،
و أنا مَن سيَّجَكِ بالشِّعرِ ..
بالشَّتائمِ و اللَّعناتِ ،
أنا مَن يعرفُ أماكنَ و شكلَ الحصى و الشَّاماتِ على ظهرِكِ الأحدبِ ..
أنا مَن يعرفُ أسبابَ انعطافِ كلِّ شارعٍ أو لثمةٍ على غمَّازتيْكِ و الآجُرِّ ..
أنا مَن يعرفُ وقتَ ضمورِ سعفِ السُّلاَّفِ و الحاجبيْنِ .

سأحبُّكِ ؛
و ترينني واقفًا بينَ عينيْكِ بعدَ أنْ ينفضَّ السَّامرُ و يرحلَ الجميعُ ..
لنبكي معًا كصديقيْنِ قديميْنِ التقيا صِدفةً على متنِ سفينةِ مهاجرينَ .
سأظلُّ أدحرجُ الشَّوقَ و الغضبَ لناحيتِكِ ..
كما تدحرجُ الحيَواناتُ السَّعيدةُ البذورَ و الفاكِهةَ بأنوفِها و وجوهِها .

سأحبُّكِ ؛
حتَّى لو علَّقوني مِن مثانتي فيما جسدي يسبحُ في الفراغِ ،
حتَّى لو حطَّموا أسناني الأماميَّةَ بمطرقةِ البنَّائينَ ،
حتَّى لو خلَعوا أظافري عن اللَّحمِ .. و رموشيَ عن جفنيَّ .

سأحبُّكِ يا بغدادُ ؛
سأشتمُكِ بمرارةٍ .. كالجدَّاتِ ،
كالأطفالِ المخذولينَ ،
كزوجٍ عادَ إلى بيتِهِ متلهِّفًا ؛
فوجدَ قُصاصةَ ورقٍ - كُتبتْ بعُجالةٍ - تغفو على طاولةِ الطَّعامِ !



كُتبَ النصُّ بينَ شُباطَ – تمّوزَ | 2009 ..
في الذِّكرى الـ 11 لمغادرتي العراقَ الذي فارقتُهُ سنةَ 1998 .

نُشر النصُّ في صحيفة "القبسِ" الكويتيَّةِ ..
عدد 12 | آب | 2009

سَعْد اليَاسِري
السُّوَيْد
آب | 2009
الموقع الشّخصيّ




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !