هذا آخر ما كتبته في مجلة العربي عدد نوفمبر 2009
تكشف هذه الرواية عن واقع لم تسلط عليه الأضواء بشكل كاف وهو احتفاظ كتاب أخبار الملوك والأمراء ببعض الوقائع التي يكره أصحاب السلطان رواجها بين الناس، ولضمان استمرار حظوتهم والأهم بقاء رؤوسهم على أكتافهم يكتب رواة السلاطين كل ما يسر ولي النعم ويغضب خصومه ويعظمون أفعاله ولو صغرت، ويحطون من إخفاقاته ولو سطعت، وراوي قرطبة تعد خروجا من بطل الرواية عن خط أسلافه، إذ باح في هذه الرواية ببعض الأسرار التي شاء القدر أن يكون قريبا منها إبان مجد الأندلس أيام الخليفتين الناصر وابنه الحكم المستنصر في قرطبة الأموية.
من حمير في اليمن خرج، أبي قريب، أسعد باهر بن عبدالرحمن القلعي، مع طلائع المسلمين في جيش حسان بن النعمان حتى وصلوا الى إفريقيا، وهناك التحق مع جيش موسى بن نصير الذي فتح بلاد الأندلس، ونال القلعي شرف الجهاد في معركة بلاط الشهداء (732م) مع الشهيد الأمير عبدالرحمن الغافقي في بلاد الفرنجة، كان عمره آنذاك ستة وخمسين عاما، وما ميز القلعي عن باقي رفاقه هو إتقانه علم الرواية الإخبارية وتسجيل الأحداث، وقد أورث هذه المهنة وأسرارها إلى أبنائه وأحفاده، وسليمان كاتب أحداث هذه الرواية هو الحفيد العاشر لأبي قريب أسعد القلعي، وقد جلس يحبر أحداث هذه الرواية وهو جالس بعد ثلاثة قرون وربع القرن على خرائب مدينة الزهراء التي دمرتها فتن الأيام الأخيرة من عهد الأمويين في الأندلس.
ويحكي سليمان أنه تعلم كما تعلم أسلافه من تجربة ووصايا جدهم الأكبر أسعد كيف نكتب ونروي، لدينا الرواية الرسمية العلنية التي تقال وتخط لتناسب الأمراء والخلفاء، ويوضح، من دون التزامنا بهذا النهج لم نكن لنصل الى مصدر الأخبار في دواوين الأمراء والحكام، علما بأن الجزء الأكبر من بعض الأحداث لم يكن سرا وقت وقوعها، لكن الأمراء والوزراء لا يريدون سماعها في أي حين إلا إذا كانت ضد خصومهم. ومن يخالف فمصيره الأهون هو قطع اللسان، ومنذ الفتنة الأولى بين الفاتحين من عرب وبربر، استقر رأي أسعد القلعي على كتابة سرية للرواية الحقيقية، يورثها لأبنائه عند بلوغهم الرشد والتأكد من حسن فهمهم وحفظهم للسر واتقان مهنة الرواية. وقد تولى جد سليمان خالد سقايته من علم الرواية وشحنه ما وسعه بالمعلومات وإرشاده نحو قطفها كما عمل جهده في تحسين خط سليمان كي يكون جاهزا لتسلم مهنة الأجداد وإتقانها فقد يصبح كاتبا من كتاب الخليفة أو أحد الوزراء. وبعد أن أعلن سليمان عن نيته مخالفا وصايا جده الأكبر طلب السماح والصفح من أجداده لخروجه عن المنهج، وكشف بعض الصفحات من روايتهم السرية الحقيقية.
الميدان خير معلم
خاض سليمان ثلاث تجارب غنية في كيفية تدوين أحداث رحلاته، كل واحدة منها كانت في مرحلة عمرية مختلفة، أول مرة خرج في صائفة الحاجب المنصور وعمره كان قد شارف على الخمس عشرة سنة، والثانية إلى بلاد الفرنحة والأخيرة إلى مصر إبان الحاكم بأمر الله.
الصائفة المتجهة للشمال كانت بحاجة الى إقناع الوالدين بأن مهمة ابنهما الصبي خالد مقصورة على تسجيل الوقائع وليس المشاركة في المعارك، وقد نجح الجد خالد في تلك المهمة على أكمل وجه، ويكتب راوينا الصغير أولى كلماته: «خرجنا باتجاه الشمال يصاحبنا صدى الطبول، وكانت البغال المحملة بخيام قد سبقتنا، وقبلها بأيام خرج البريد إلى كور الوسط والشرق والغرب الأندلسي بموعد المسير كما خرج جواسيس وكشافة لمراقبة الطرق التي نسلكها... وبلغ عدد الجند أكثر من 12 خيالا ولم يكن بينهم جنود مشاة».
لم يكن أحد يعرف وجهة هذه الصائفة والمنطقة التي ستتلقى الضربة الاولى ولكنها اتضحت أنها سمورة وهي مقامة على جزيرة وسط النهر وعمِّرها العرب منذ الفتح لكن جند مملكة ليون أخذوا ينازعونها العرب، ومن حسن حظ سليمان أنه التقى صدفة مع الحاجب المنكوب جعفر المصحفي وسجل منه بعض الحوادث عندما كان في منصبه يخدم الدولة الأموية واليوم يسير مرغما في كل صائفة للحاجب محمد أبي عامر.
بعد ثلاثة أيام من الحصار دكت المجانيق أسوار سمورة إلى أن تهدم أحدها ثم قذفت كرات النار المشتعلة وسط المدينة ليهرب السكان والجنود منها ليجدوا جنود العامري بانتظارهم، وبعد ثلاثة أسابيع من إعادة فتح سمورة استقبلت قرطبة جنودها العائدين بالأفراح والبهجة وانتهت بذلك الرحلة الاولى لسليمان.
رحلة إلى ريمس
الرحلة الثانية كان سليمان فيها في أشد الحاجة إلى السفر والخروج من قرطبة وكل الأندلس لتسجيل ملاحظاته عن العالم الخارجي بنفسه وليس عبر مطالعة ما كتبه الرحالة والجغرافيون، وكانت ريمس في أقصى بلاد الفرنجة هي وجهة سليمان بهدف زيارة صديقه والتلميذ القديم في مدارس قرطبة جربير أسقف ريمس، هذه المرة لم يكن سليمان بحاجة الى إذن للسفر فقد بلغ أشده.
تزود بخمسة بغال حُمِّلت ثلاثة منها بالكتب ومبيعات تجارة العائلة للكتب ولوازم الكتب، وصحبه مسئول التوزيع في قرطبة وأشبيلية الذي يعرف وكلاء البيع على طول الطريق حتى جزيرة دانية جنوب شرق الأندلس، قناني الحبر الزجاجية وأوراق الكتابة وبعض الكتب حملت للاستخدام والإهداء.
الرحلة من دانية تحولت إلى رحلة بحرية شاهد سليمان من خلالها جزيرة ميورقة وأختها منورقة وبعدها جزيرة سردينه وصقلية، وتعرف على خطر القراصنة وأنواع المراكب وأسرعها. وبعد عدة أيام وصل ميناء بلرم أو باليرمو في صقلية وأقام عند أبي النعيم الذي عرفه على صقلية وكانت تحت حكم المسلمين آنذاك ومنها سيبحث عمن يوصله إلى ريمس.
كان تاجر العبيد جعلص ذو العلاقات الواسعة مع القراصنة هو من سيوفر الطريق الآمن إلى ريمس، سليمان لم يكن يعرف أن سمر ستقاسمه الرحلة وهي متنكرة بزي رجل، وسمر فتاة من ليون خطفت قبل خمس سنوات وتريد العودة لأهلها، كما انه لم يتخيل أنه سيكلف بمهمة عظيمة هي نقل رسائل البطارقة الأسرى في صقلية بعد معركة القيصر أتو والأمير أبي القاسم إلى البابا في روما، وركب سليمان وسمر التي أصبحت الخادم كارل الليوني مركب جنوى يتجه شمالا نحو مصب نهر الرون، طاف بهما على مدن أشبعت نهم سليمان في معرفة المزيد عن العالم الخارجي إلى أن وصل في نهاية الأمر ريمس وقابل أخيرا صديقه القديم جربير بعد سبعين يوما من انطلاقه من دانيه.
طريق العودة كان أكثر تشويقا إذ قرر سليمان الوصول إلى قرطبة عبر بوابتها الشمالية من مدينة برشلونة ولكنه احتاج الذهاب إلى ليون وأفنيون ثم السفر برا إلى نربونة ومنها إلى برشلونة على الطريق الروماني القديم، أولى المشاهدات كانت عبارة عن لاجئين يعودون إلى مدينتهم بعد إخلائها هربا من هجوم مفاجئ للحاجب المنصور في 375 هـ.
قبل الوصول الى طركونة لبس سليمان زيه العربي وتقلد سيفه على خاصرته وصادف في طريقه عبدالرحمن التجيبي وهو في طريقه إلى سرقسطة بعد انتهى من مشاركة المنصور في صائفة برشلونة. وحمل رسالة من التجيبي إلى صاحب طليطلة عبدالله المرواني وأخيرا فاحت روائح قرطبة معلنة وصول راويها سليمان القلعي.
رحلة مصر
الرحلة الثالثة لسليمان جاءت بعد أن تزوج وأنجب، وهذه المرة رافقه الوريث الجديد لمهنة العائلة وهو ابنه البكر خالد وزادا فردا ثالثا عندما تعلق بهما مروان ابن عم سليمان بعدما مرا عليه في مالقا، الوجهة الأولى كانت الإسكندرية في مارس 998. أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وكان الخطر الكبير الذي احتاطوا منه هو اتهامهم بالتجسس لجهات خارجية كونهم لم يأتوا بتجارة.
وصل الثلاثة إلى الإسكندرية أيام عيد شم النسيم وتفرجوا على عادات المصريين الاحتفالية بتلك المناسبة، ومن الإسكندرية ركبوا النيل قاصدين القاهرة ومروا على قرى كبيرة عامرة بالأسواق وحركة الناس توقفوا في محلة نفيدة وتعشوا للمرة الأولى دجاجا مطبوخا بملوخية خضراء وافطروا كما وصف سليمان «بيض مسلوق وفول مدمس ساخن ساحت فوقه سمنة بلدي طازجة، ولبن رايب في زبادي فخارية، وسمك بوري مقلي».
ثم واصلوا مسيرهم على ظهور الجمال جنوبا وشاهدوا الأهرام ثم حلوا ضيوفا على قبائل الهلالية ودخلوا الفسطاط ليلا وتعجبوا من كثرة الناس ونشاط حركتهم، وبين لهم حمدان صاحب فندق باب المدينة أن الناس اجبروا على العمل ليلا والسكون نهارا بأمر الخليفة الحاكم بأمر الله لأنه يقلق في الليل ويحب التجول بدل النوم، لذلك رأى أن يسهر معه الشعب وأن يضيئوا القاهرة والفسطاط والجيزة بمصابيحهم». وليس هذا القرار الغريب هو الوحيد للخليفة فقد منعهم من أكل الملوخية أيضا.
وفي نهاية هذه الرحلة الى مصر زار سليمان مدينة الفيوم قبل أن يعود من جديد الى الإسكندرية.
قرطبة بداية النهاية
مات المنصور وأورث لابنه منصب الحجابة وتدبير شئون الدولة بدلا عن خليفتها هشام المؤيد، وسار على نهج والده حتى مات وتولى شنجول الابن الثاني للمنصور نفس المهام إلا أنه لم يأخذ من حكمة ودهاء والده شيئا وبلغ به الحمق مداه عندما أجبر الخليفة هشام على توليته ولاية العهد وهو ليس ذا نسب قريب أو بعيد ببيت الخلافة. فثارت عليه العامة واختلف من حوله رجال الدولة حتى فلتت الأمور ولم يلبث الشنجول في موقعه ثلاثة أشهر حتى قتل وانتهت معه الدولة العامرية لتبدأ بعدها فصول مريرة من تنازع أمراء بني أمية على كرسي الخلافة وعمت الثورات كل أرجاء أرض الأندلس بين عرب وبربر تنافسوا كل في مكانه في اقتطاع جزء من الأندلس وجعله مملكة أو إمارة مستقلة بذاتها.
كان خالد هو من يدون ويسجل تفاصيل تلك الأحداث بعد أن أتقن تماما علم الرواية المتوارث من جده الأكبر أسعد القلعي الذي جاء من اليمن مجاهدا ومات في الأندلس
التعليقات (0)