مع اقتراب موعد الانتخابات بدأت نار الاحتجاجات في التصاعد و ارتفعت معها درجة الحرارة داخل "مطبخ" وزارة الداخلية ومقرات الاحزاب السياسية، وتحولت، بعد مرور الوقت، الى عدوى ما لبثت ان دقت ابواب الحزب الاشتراكي الموحد، المشارك ضمن حركة 20 فبراير، وهو الامر الذي تطور لديه الى حمى نتج عنها مضاعفات خطيرة جعلت احد أبرز قيادييه يفقد، على اثرها، "وعيه" السياسي المعهود. .
واذا كان المجلس الوطني للحزب الاشتراكي قد خيب امال تيار المناضل الكبير، سعيد ايت ادر، الذي عبر عن موقفه الرافض لمقاطعة الانتخابات التشريعية، فان القرار بحد ذاته لم يمر دون ان يخلف تداعيات على هياكل الحزب، حيث رحل عنه العديد من الغاضبين ، كما سلط الضوء على مواقف مفاجأة عبر عنها، محمد الساسي، خلال الدورة الاستثنائية التي عقدها برلمان حزبه.
مداخلة محمد الساسي، التي لم تعكس موقفا مبدئيا ضد المشاركة في الانتخابات، في ضوء انخراط حزبه في حركة ترفض الدستور أصلا، عزت موقف المقاطعة الى اسباب ذاتية ، حين قال ان العدد الذي يتوفر عليه الحزب، في ظل العزوف عن المشاركة السياسية، لا يمكنه من الخوض في المعارك الانتخابية، واضاف انه يأمل في اقناع 20 فبراير لمرافقته نحو البرلمان.
لا ندري ان كانت كلمات محمد الساسي، بمناسبة انعقاد المجلس الوطني، تعبر بالفعل عن قناعاته الحقيقية، ام هي مجرد نفث دخان لمناورة سياسية تهدف الى احتواء الغاضبين والظهور بمظهر المعارض المعتدل الذي لا يستبعد الاصلاح من خلال ولوج المؤسسات من باب الانتخابات . الا انه و كيفما كان، فالحزب ليس في احسن الاحوال، حيث بدأ يلوح في الافق موسم رحيل نحو "الكلأ السياسي"، على اثر القرار الذي اتخذ مجلسه الوطني، قرار ينسجم في كل الاحوال مع السلوك الذي جسده الحزب حين اختار السير الى جانب جماعة العدل والاحسان والنهج الديمقراطي في الشارع العام للضغط من اجل اقرار ملكية برلمانية هنا والان.
وبعيدا عن الشك المنطقي الذي لا يرى في الاصلاحات الدستورية سوى مجرد مناورة مخزنية يراد منها ذر الرماد في عيون الراي العام المغربي لالهائه قصد تامين خروج النظام بسلامة من عاصفة الاحتقان الشعبي التي يعرفها العالم العربي كله، فالاقتراب من منطق الواقع يقود الى الاقتناع بوجود مقاومة شرسة ترفض التنازل عن مواقع التحكم وتلجا، من اجل ذلك، الى كل الضربات الاستباقية في محاولة لردع أي قوة سياسية ناشئة.
ولهذا، فان واحدة من اهم الاشكال، التي تلجا اليها هذه القوى الخفية في معركتها من اجل استدامة الفساد والافساد والتحكم والاستعباد، هي تحجيم قبْلي للقوى السياسية المزعجة من خلال تقييد حركتها بقوانين محددة تمنحها القدرة على رسم حدود ضيقة للعبة الانتخابية بحيث لا تسمح بذهاب الكرة بعيدا نحو "مربع العمليات" وذلك لإعاقة "المهاجمين المحترفين" من الوصول الى المواقع المتقدمة حيث الفرص الحقيقية للتهديد.
وما نشهده اليوم من حرص لوزارة الداخلية على الاسراع في التحضير من اجل عبور محطة الانتخابات التشريعية، دون الاخذ باعتبار المطالب الملحة، التي تعبر عنها بعض الاحزاب السياسية، والتي من شانها ان تضمن مرورا سليما لاستحقاق 25 نونبر، ماهو الا دليل اخر على استماتة القوى النافذة في الدفاع عن موقع التحكم من خلال هجومها على أي محاولة "تهديد" من جانب الخصم .
ولعل هذا ما دفع حزب العدالة والتنمية، الذي اتهم الداخلية ضمنيا بوقوفها حجر عثرة امام انجاح الاستحقاق القادم وذلك بهدف التقليص من حظوظه في الفوز في الانتخابات التشريعية و عرقلة طموحه المشروع الى رئاسة الحكومة القادمة، الى رفع صوته في وجهها والتعبير عن مخاوفه من الاستعانة بلوائح انتخابية مضى عليها ما يقارب العشرين سنة قد تتحكم مسبقا في رسم حدود الخارطة السياسية المقبلة.
دخان الاصلاحات الدستورية لا يجب ان يحجب الرؤية عن الدخان المنبعث من "مطبخ" الداخلية، حيث يصر محترفوه على اعتماد "مقادير" عفى عنها الزمن، والتي لم تعد تصلح، على الاقل، لتحضير الوصفة الحالية التي ستعرض على مائدة المرحلة السياسية القادمة في 25 نونبر.
فاذا كانت غالبية الاحزاب السياسية قد رحبت بالدستور المقترح و اعتبرت ان الاصلاحات الدستورية خطوة مهمة تمهد لانتقال ديمقراطي يقطع مع الملكية التنفيذية ويعيد السلطة كاملة للشعب، الا ان اصرار الدولة على الاستمرار في نهج الاسلوب ذاته والابقاء على اعتقال الصحافي رشيد نيني وباقي المعتقلين السياسيين و الاستعانة بلوائح الراحل ادريس البصري، لا يشجع فقط على التشكيك في الشعارات المعلنة، بل يعيد بث مزيد من شكوك حول ارادة الدولة في التخلص من عاداتها القديمة و يبرر قراءة، من منظور سلبي، لنواياها وهي التي ما فتئت تعلن عن رغبتها في التقدم على المسار الديمقراطي وتكريس قيم الديمقراطية و ثقافة حقوق الانسان.
ولهذا فالطريق الى غاية 25 نونبر معبدة بالنوايا الحسنة فقط ، كما ان إنجاح اول معركة انتخابية بعد التصويت على الدستور المعدل اصبح موضع شك من قبل الكثير من المتتبعين، بعد ان التحق حزب العدالة والتنمية، الذي صوت ضد قانون اللوائح الانتخابية في البرلمان، الى قافلة المتخوفين من ان يزيغ قطار الداخلية عن سكة التزاماته المتكررة في غياب واضح لقواعد اللعبة النزيهة والشفافة
و من الطبيعي جدا ان لا تحتج احزاب الادارة على هذه الخروقات الواضحة، من قبيل رفض تجديد اللوائح الانتخابية، لان من شان وقوعها ووجودها ان يضمن لها موقعا آمنا على الخريطة السياسية التي لم تكن لتتموقع عليها الا بفضل الدعم الواضح الذي منحته اياها مدرسة ادريس البصري، التي لايزال خريجوها اوفياء لمعلمهم الراحل، معتصمين بحبل التحكم من وراء الستار.
واذا كانت بعض الاحزاب السياسية، التي لم يتردد بعضها في منح تزكيات لذوي السوابق و المغضوب عليهم والضالين، في حين تلجا اخرى الى اعتماد الكولسة لإقصاء اسماء بارزة!، متسرعة لقطع تذكرة في المحطة المقبلة طمعا في امتطاء قطار الحكومة، فعليها ان تدرك ان حفرا كثيرة لاتزال في طريقها ستعيق حتما وصولها المأمول.
فاستمرار الدولة في التخفي وراء شعارات التنزيل و"الاصلاحات الدستورية التاريخية" و الدستور الذي صُنع محليا لدفع الجميع الى التوقف عن الحركة في اتجاه المطالبة بإجراءات حقيقية تحمي مصير اصوات الناخبين، لا يبتعد كثيرا عن سلوكات بعض الاحزاب السياسية التي تجد المبررات الكافية لتشتيت انتباه الرأي العام عن حقيقة الازمة الداخلية التي تعيشها بسبب اغلاقها الباب امام رياح التغيير الهادئة. انها السلوك نفسه الذي يعبر عنه الانكليز بلغة المجاز بالدخان والمرايا.
التعليقات (0)