حركة حماس منشأها و منبتها الحقيقة الأولى : ( تشكيل الجماعة الأم )
محمود عبد اللطيف قيسي /
حركة الأخوان المسلمون العالمية حركة دينية سياسية وجدت في فلسطين كما في جميع البلاد والأراضي العربية بعد العام 1928م ، حيث أنّ حضورها القوي كان أولا في بلاد مصر الخاضعة في تلك الفترة للاحتلال البريطاني ، فعلى عهد القنصل البريطاني العام فيها السير هنري مكماهون ، الذي كان مسؤولا عن رسم سياسات الإنجليز في مصر والمشرق العربي ، اتفق مع حكومة بلاده على ضرورة البحث عن أوتأسيس حركة دينية إسلامية سياسية ، تقف إلى جانبه بمواجهة القوى العربية السياسية في البلاد العربية الراغبة بإقامة خلافة عربية إسلامية ، ضد الملك فؤاد الأول في مصر الذي كان من أضعف المطالبين بها ، وضد الملك عبد العزيز آل سعود في السعودية الذي كان من أشد المطالبين بها ثم ضد توجهات الشريف الحسين بن علي مُفجّر الثورة العربية الكبرى في المشرق العربي ، الذي كان من أقوى المطالبين بها والأقرب لإعلانها عمليا ، لما له من حضور قومي وأحقية شرعية ودستورية ونفوذ عند كل القوى الثورية والشعبية في المنطقة ، وايضا لمواجهة المد والنفوذ لبعض القوى الإسلامية الأصولية والعربية القومية ، المقاومة للزحف التبشيري الصليبي القادم من الغرب باللباس العسكري ، والراغبة بوقف الإرهاب والزحف الاستيطاني اليهودي المتغلغل بالثوب التلمودي الصهيوني ، كالفكر الوهابي السلفي الموشك على الولوج والتوسع في البلاد المصرية ، والذي تمكن الإعلام البريطاني المقروء والمسموع ، والورقي الإعلاني لحركة الإخوان بتصويره العدو الأول للمصريين وتوجهاتهم الوطنية والقومية وحتى لتوجهاتهم وعقائدهم الدينية .
لقد نجحت الحركة التي أخذت طابعا سلفيا بأول نشأتها من التجذر داخل المجتمع المصري بفعل قادة رياديين كان همّ البعض منهم الرقي بالفكر الإسلامي والوصول لمجموعة دول إسلامية مستقلة إن تمكنت من التجذر فيها كمصر والسودان واليمن والحجاز ودولة المشرق العربي ، ولكن لا ترقى لدولة الخلافة الواحدة الموحدة ، وذلك لعجزهم ولمعرفتهم بعدم قدرة الحركة الوليدة على قيادة دولة اسلامية موحدة ، ولعدم وجود شخصية قوية من بينهم تحظى بالشرعية والجماهيرية تأهلهم للنجاح ، أو تكون قادرةعلى اقتناص الدعم والتأييد الشعبي اللازم لتحقيق ذلك ، ولتيقنهم برفض الداعم البريطاني لمثل هذه النتائج التي ربما أملوا بها من وراء تشكيل حركتهم والتي ما كان البريطاني أوجدها لمثلها .
كان من بين هؤلاء القادة المؤسسين المدرس حسن البنا ، وحافظ عبدالحميد وأحمد الحصري وفؤاد إبراهيم وعبدالرحمن حسب الله، وإسماعيل عز وزكي المغربي ، الذين اتفقوا على منهج ورؤية الحركة الوليدة ، التي أسموها فور تشكيلها ونيلها موافقة الملك البريطاني وخاتم ممثله في مصر ( جماعة الإخوان ) .
لقد تمكنت الجماعة من التجذر في المجتمع المصري بفعل الموقف السياسي البريطاني في لندن الضاغط على مؤسسته العسكرية الاستعمارية في مصر لغض الطرف عن نشاطاتها وتحركاتها حتى وأن تعارضت مع سياساتها ، ثم بفعل المال السياسي الكبير المقدم مباشرة من الحكومة البريطانية في لندن ومن مُمثليّتها في مصر لمساعدتها على الانتشار في مصر ، خاصة بصفوف الفلاحين المصريين الذين هم بطبعهم ومسلكهم وتربيتهم مسلمين بالفطرة ، ويعانون من الفقر والمرض والجهل والأمية ، والذين كانوا مستعدين لتقبل أي فكر أو طريقة دينية أخرى توازي طرق الصوفية التي كانت انتشرت بين صفوفهم في تلك المرحلة ورغبوا بالتخلص منها لعجزها عن التفاعل السياسي ، ولمواجهة المد والغزو الثقافي الغربي واليهودي الذي كان دخل مصر بقوة وسرعة من البوابة الفنية بواسطة رأس المال والأيادي اليهودية .
ومن أجل النجاح بالتجذر بشكل سرطاني أخطبوطي داخل المجتمع المصري ، عملت الجماعة على التوسع الهرمي بصفوف المثقفين المصريين ومن بينهم المعلمين ، وفي صفوف طلبة العلم بالجامعات المصرية الكثيرة خاصة الأزهرية منها ، التي كانت مرتعا خصبا لكل القوى السياسية والدينية ، كما ونجحت باستقطاب عددا كبيرا من العناصر الشابه في الجيش المصري ، بطلب وبدعم مباشر من بريطانيا وأمريكا ، لإغلاق الطريق أمام القوى القومية العربية الراغبة بالتغلغل في صفوف الجيش المصري ، لمعرفتهما وتيقنهما بمدى خطورة تواجد الشباب القومي في صفوف الجيش المصري الذي بدأ يتململ ويتحسس أوضاع شعب فلسطين ، ويخطط للحرية والاستقلال التام .
بعد نجاح تجربة المحتل البريطاني في مصر الذي صنع وأدار الجماعة وصقل أفعالها ، ومسك ردات أفعالها بما يتناسب ومواقفه السياسية وخاصة المصيرية منها التي تتعلق بفلسطين ، ورؤيته المستقبلية لرسم الجغرافيا السياسية العربية ، اتجه لتعميم الفكرة في فلسطين ذاتها ، خاصة بعد ظهور مؤشرات قوية على بروز الحركة الجهادية القسامية التي انطلقت من ذات الفكر الإسلامي السلفي ، والتي كانت تتعارض بالمطلق مع توجهات جماعة الإخوان ، بهدف اجتثاثها لنجاحها بكسب التعاطف الجماهيري العربي والفلسطيني لأنّ هدفها الرئيسي كانّ انهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين ، وإزاحة الخطر الصهيوني اليهودي عنها ، ولنجاحها بتأسيس الجمعيات الإسلامية الشبابية وبتأليب جميع الحركات الإسلامية العربية والدولية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية ضد الوجود اليهودي في فلسطين ، والذي ترجم بقدرتها على لم شمل المؤتمر الإسلامي الكبير الذي انعقد بالقدس برئاسة مفتي القدس ورئيس اللجنة العربية العليا أمين الحسيني ، الذي كان حتى قبيل الثورة الفلسطينية الكبرى التي اشتعلت عام 1936م متأرجحا بمواقفه بين دعم المطالب الشعبية الفلسطينية ، وكمتلقي للمطالب الاستعمارية البريطانية التي طالبته دائما بدعوة الشعب الفلسطيني للهدوء .
وعلى عكس حركة القساميين وباقي الحركات الجهادية الأخري في فلسطين التي ارتكزت على النخب الاجتماعية والثورية والسياسية في بنائها التنظيمي والقيادي ، وعلى بعض المتطوعين العرب العابرين للحدود الراغبين بإداء فريضة الجهاد ، ارتكزت جماعة الإخوان ببنائها التنظيمي وتمددها الأفقي على فئة المراهقين والشباب من ابناء الفقراء وأسرهم الملتزمة دينيا بالتجمعات السكانية المكتظة كمناطق قطاع غزة في حين عجزت عن التغلغل في شمال ووسط وشرق وغرب فلسطين ، بهدف صقلهم دينيا وسياسيا بما يتناسب وأيدولوجية الجماعة الدينوسياسية المرتكزة على قاعدة ( النشىء الصالح لغايات إدراك السياسة وإفرازاتها لاحقا ) ، دون تعليمهم أي مسلكيات أو قواعد ثورية ضد المستعمر البريطاني والمغتصب المستوطن اليهودي خاصة في المرحلة الأولى لتشكيلها .
وعندما تفجرت الثورة الجماهيرية الفلسطينية الكبرى التي عرفت بثورة العام 1936م والتي استمرت لمدة ثلاث أعوام متقطعة الفعاليات ومتباينة بالشدة، لم يكن لجماعة الإخوان أي دور أو مشاركة ظاهرة فيها ، سواء على المستوى الحزبي أو القيادي ، بسبب رضوخها للموقف البريطاني الذي منعهم من ذلك ، وبسبب عدم قبولها الاجتماعي وعدم وجود قاعدة جماهيرية تحتضنها ويتحصن خلفها قادتها وكوادرها ، ويستغلونها لإبعاد غيرهم عن واجهة الأحداث ، وبسبب الضعف التنظيمي الذي كان ما زال هو سيد الموقف أمامها ، وبسبب الخيار الحركي وقناعة قادتهم أنّ شكيمتهم لم تقوى لاقتناص المكاسب والنتائج السياسية والوجودية التي تيقنوا أنها لم يحن موعدها ، ولم يكن بالمقدور ضمانها ، ولأجل ذلك بقيت الخيارات المرغوبة أمامهم هي بالتخفي لواذا من البريطاني واليهودي ومن المواطن الفلسطيني على حد سواء ، من أجل انجاح العمل التنظيمي ومفرزاته من تحت الأرض ، للخلاص من ضغط المستعمر المسيطر على قراراتهم المصيرية ، وللهروب من مواجهة المستوطن اليهودي الحاصل على حماية من ذات المستعمر الداعم والضامن لكليهما وللفرار من المسائلة الجماهيرية والحزبية الفلسطينية والعربية والإسلامية الأخرى التي تأكدت من التزاماتهم التأسيسية تجاه المستعمر ، فقد كان الأهم عندهم هو انجاح التمدد الأفقي السري للاستئثار بالتأييد الشعبي المؤيد في تلك الفترة لظاهرة الثورة والثوار ، وظاهرة المطاردة والمطاردين ، وهي العادة التي أحسنوا استغلالها بكل مراحل تطورهم من خلال تركيزهم على الظهور دائما بمظهر الضحية ، وإقناع الشعب أنّ ما دونهم هو إما الجلاد أو العميل ، مستفيدين من العلاقات المتوترة التي كانت تربط وتحدد العلاقات بين الجماعات الفلسطينية السياسية وشبه العسكرية القائمة أساسا على أرضية التشكيك بالغير أو تخوينه ، حيث كان الاقتتال والتصفية الجسدية هو سيد الموقف بينها .
ومع كل الأجواء السلبية والإيجابية التي أحاطت بنشأة الجماعة ، ومن أجل النهوض بالوضع البنائي الذي كان يأمل منه لاحقا السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد العربية ، نجحت الجماعة ( الحركة ) من الانتشار كتشكيل سياسي بثوب ديني ، مرتكزة على السرية المطلقة تشكيلات واجتماعات وانتخابات ، وحتى على مستويات مجالس شورى الجماعات والمكاتب السياسية للحركة وفروعها وعلى مستوى القيادة العليا ، مستفيدين من تجارب حزبية ودولية مشابهة ، من أهمها تجربة حركة الماسونيين التنظيمية ، التي اعتمدت نفس الاسلوب التنظيري والبنائي السري ، والتي ما زالت انتخاباتها واجتماعاتها تجرى بمثل سريتها وبإسلوبها ، على عكس الأحزاب والحركات العربية الأخرى التي تعقد مؤتمراتها العامة بشكل علني وديمقراطي مشهود للخروج بتشكيلاتها وقياداتها وبرامجها .
أما بالنسبة لموقف الجماعة من القضية الفلسطينية حال صنعها فقد اتسم بالسلبية ووُصم جماهيريا بالمغيب أو بالمتواطىء ، فقبل وخلال وبعد قرار تقسيم فلسطين الذي أنجز دوليا وإسرائيليا سنة 1947م بظل غياب عربي وفلسطيني ، كان موقف حركة الأخوان من كل الأحداث الموشكة على صنع النكبة الفلسطينية سلبيا بالمطلق ، ويتقاطع مع مواقف اللجنة العربية العليا التي أخذت هي أيضا موقفا سلبيا من الحركة الجهادية القسامية ، حيث كانت إدارة اللجنة ( الهيئة العربية العليا ) وقيادتها ، للصراع مع المستعمر واليهودي المتغلغل بموقفين متضاربين ، القومي للتقرب من الأممي والعربي أو للنجاة من الطوق الإستعماري ومطالباته لها بضبط الأوضاع الأمنية في فلسطين ، وديني لقيادة الشعب ولقيادة الحوار العربي الإسلامي الفلسطيني ، وارتكازها بكلتا الحالتين على الإفتاءات الدينوسياسية لرئيسها والتي أضرت بالمصلحة العليا للشعب الفلسطيني ، وأوصلت القضية الفلسطينية لحافة الإنهيار والشعب لحالة التشرد داخل الوطن الفلسطيني وخارجه ، وساهمت بصنع النكبة .
وباشتعال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى وببدايتها عام 1948م وقفت الحركة على الحياد تلبية للطلب البريطاني لها بعدم التدخل الذي كانت ما زالت واقعة تحت ضغطه ، ورغبة منها بجمع الغنائم السياسية لحظة انهاء وحسم الحرب العربية الإسرائيلية الأولى ، وبسبب اعتقاد قادتها بإن النصر للجانب العربي غير مضمون لم تسمح لمنتسبيها التطوع لفلسطين ، سواء من خلال جيش الإنقاذ الذي شكل بناء على أوامر من جامعة الدول العربية وبموافقة عربية رسمية صريحة ، أو تحت راية قوات خاصة بها ، إلا أنها غضت الطرف عن المندفعين من كوادرها بالتحرك الفردي أو عبر مجموعات صغيرة قليلة العدد وضعيفة العدة ملتصقين باسم الحركة لتحاسبهم وتحملهم النتائج إن فشلوا ، وتجني النتائج كحركة إن هم نجحوا بمهاتهم التي أوكلوها لأنفسهم .
وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي والتي عرفت بسنوات التيه والتشرد والضياع الفلسطيني ، لم تبادر حركة الإخوان التي تمركزت في منطقة قطاع غزة لقيادة الدفة الفلسطينية الباحثة عن الذات والانطلاق لتحرير الوطن الفلسطيني المغتصب مع توفر جميع الإمكانيات لها ، بل بادر فلسطينيون رياديون عرف عنهم ميولهم وتعاطفهم السابق معها وولائهم الدائم لفلسطين ، والذين كان من بينهم وأهمهم ياسر عرفات الذي ومع مجموعة كبيرة من إخوته خرجوا على تحفظات الحركة وسلبياتها والتزاماتها الدولية ، بعد تأكدهم عمليا بعدم رغبتها المشاركة بمقارعة إسرائيل انطلاقا من غزة نزولا عند رغبة البريطاني ، الذي كان في تلك الفترة ما زال يأمل بتغير النظام الجمهوري المصري الناصري ، الرغبة التي تقاطعت مع رغبة وأهداف الجماعة التي وضعت الخطط العملية شبه العسكرية للانقلاب عليه ومحاولة تغيره بالقوة ، مستفيدة من انشغاله بحرب شاقة وطويله شنتها عليه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ترجمت عمليا سنة 1956م ، وهو الخطأ الكبير والمباشر الذي ساهم بانكشاف التزاماتها ومخططاتها ، وساهم بابتعاد الجماهير العربية عنها التي كانت أكثريتها آنذاك ذات نمط فكري قومي .
وكان الرياديون الفلسطينيون مفجري حركة التحرير الوطني الفلسطيني من أوائل من كَشَفَواَ أمرها وابتعدوا عنها ، بعد تأكدهم رفضها التام لاستراتيجيتهم القائمة على تدمير دولة إسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية وأهدافهم بالتحرير، ووصفها لقياديي حركة فتح الذين أخذوا جانب الشعب ورغبته وإرادته على أنهم مجموعة الموت المجانين ، الذين يَجرون المنطقة للهلاك ، وفلسطين لجحيم الحرب وويلاتها .
يتبع ( الحقيقة الثانية )
التعليقات (0)