رئيسة وزراء أوكرانيا السابقة تقضي حكما بالسجن 7 سنوات.. ورفيق النضال يتهمها بالتفريط في حقوق الوطن وبوتين أول المدافعين عنها
موسكو: سامي عمارة
تعرف يوليا تيموشينكو بأنها «أميرة الثورة البرتقالية»، والحسناء ذات الضفائر الذهبية. شغلت منصب رئيسة الحكومة الأوكرانية لأكثر من دورة، وهي سيدة السياسة التي، كما يقولون، لا يشق لها غبار. تسميات وكنى كثيرة تنوعت بقدر تنوع ألقابها التي انتسبت إليها وطالما احتدم الجدل حولها. فهي يوليا تيموشينكو نسبة إلى الزوج ألكسندر تيموشينكو الذي تعرفت عليه في عام 1979 بمحض الصدفة، من خلال مكالمة هاتفية وردت إليها على سبيل الخطأ، لكنها كانت مقدمة لحديث طويل أعرب خلاله عن إعجابه بصوتها، ما كان مقدمة للقاء سرعان ما أفضى إلى الزواج.
وهي أيضا يوليا تيليجينا عن الأم التي تارة يقولون إنها يهودية الأصل، بينما ينسبونها تارة أخرى إلى القومية الأوكرانية. ولم تقتصر التعقيدات على لقب وقومية الأم، بل تعدتها لتنسحب أيضا على جنسية الأب الذي تقول يوليا تيموشينكو إنه من أصول لاتفية، بينما يقول خصومها إنه يهودي الأصل ولقبه كابيتيلمان وليس جرجيان، وهو اللقب الذي حملته يوليا قبل زواجها من تيموشينكو، فضلا عن أن هذا اللقب أرمني وليس لاتفيا.
أيا كان الأمر فهي يوليا تيموشينكو، التي ولدت في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1960، عن أب لاتفي وأم أوكرانية، كما تقول عن نفسها. التحقت يوليا جرجيان بكلية الاقتصاد جامعة مدينة دنيبروبيتروفسك عام 1979، وهي نفس المدينة التي انتسب إليها كل من الزعيم السوفياتي الأسبق ليونيد بريجنيف والرئيس الأوكراني الأسبق ليونيد كوتشما وآخرون من أبرز رموز السياسة في أوكرانيا. وعملت يوليا بعد التخرج وبموجب التكليف الحكومي في عام 1984 في مصنع بناء الآلات في نفس المدينة، الذي سرعان ما تركته لتفتتح مع زوجها شركتها الخاصة لتجارة أشرطة الفيديو مستفيدة من الأجواء الجديدة إبان أولى سنوات حكم الزعيم السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، وبدء تطبيق سياسات البيريسترويكا وإتاحة الفرصة أمام مبادرات القطاع الخاص، ومن الموقع الحزبي المتميز لوالد زوجها في إدارة المدينة. لكن يوليا وبما عُرف عنها، ومنذ الصغر، من دأب ومثابرة وحس تجاري مرهف، سرعان ما تركت هذا المجال لتفتتح مؤسستها الخاصة لتجارة المنتجات النفطية في عام 1990، التي سرعان ما قفزت إلى صدارة أكبر المؤسسات النفطية في أوكرانيا مع منتصف التسعينات. كما تطورت الأوضاع في روسيا المجاورة على النحو الذي دفع بأثرياء روسيا الجدد من أساطين المال والأعمال إلى صدارة الساحة السياسية، مستغلين ترهل الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين وتراجع مواقعه، تطلعت يوليا تيموشينكو إلى تبوأ مواقع مماثلة في أوكرانيا، مما دفعها إلى الترشح لعضوية مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) التي فازت بها في عام 1996، وكانت مقدمة لتشكيل تحالفها الانتخابي «جرومادا» (التجمع) الذي سرعان ما تركته لتشكل حزبها «باتكيفشينا» (الوطن).
واستنادا إلى هذا الحزب، قفزت يوليا تيموشينكو إلى صدارة الساحة السياسية كنائبة لرئيس الحكومة، فيكتور يوشينكو، الذي كان اختاره الرئيس ليونيد كوتشما لهذا المنصب، متوسما فيه الحيوية والنشاط لإنقاذ البلاد من عثراتها، وهو نفس الرئيس الذي سرعان ما انقلب عليه يوشينكو ونائبته تيموشينكو في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين.
لكن المسيرة لم تكن كلها مفروشة بالورود. فلم تكن تيموشينكو لتستطيع مراكمة ثرواتها، ودعم مواقعها دون مخالفات أو تجاوزات كانت النيابة العامة لها بالمرصاد، وليس في أوكرانيا وحدها، بل وفي روسيا أيضا التي لاحقتها عن طريق الإنتربول سعيا وراء محاسبتها على ما اقترفت يداها من جرائم رشوة واستغلال نفوذ مع ممثلي وزارة الدفاع الروسية، وهي الجرائم التي ظلت معلقة حتى بعد سنوات الثورة البرتقالية، ولم تسقطها موسكو إلا في عام 2007 بإيعاز من الرئيس الروسي السابق، فلاديمير بوتين.
أما على مستوى الداخل، فقد كانت الخصومة أكثر حدة، مما جعل النيابة العامة في أوكرانيا تعلنها ببعض تجاوزاتها في عام 2000 على النحو الذي أسفر عن إقالتها من منصبها كنائبة لرئيسة الحكومة في يناير (كانون الثاني) 2001، وسرعان ما أودعت إحدى زنزانات السجن العمومي في كييف في 13 فبراير (شباط) وحتى 27 مارس (آذار) من نفس العام.
لكن تيموشينكو خرجت من محبسها أقوى من ذي قبل، لتسارع إلى لملمة أطراف تحالفاتها السابقة، وتقوم في صيف عام 2001 بتشكيل التحالف الانتخابي الأوسع الذي اختارت اسمها (يوليا تيموشينكو) عنوانا له، ولتخوض ورفاقها تحته الانتخابات البرلمانية في مارس (آذار) 2002، التي فازت فيها بـ22 مقعدا في مجلس الرادا، كانوا لها خير دعم في معركتها التي خاضتها لاحقا للفوز في الانتخابات الرئاسية في يوليو (تموز) 2004، منافسة لكل من فيكتور يوشينكو رئيسها السابق في الحكومة الأوكرانية في مطلع عام 2000 وفيكتور يانوكوفيتش رئيس الحكومة الأوكرانية في ذلك الحين.
ويذكر المراقبون أحداث تلك الفترة التي شهدت اندلاع الثورة البرتقالية احتجاجا على ما وصفوه بتزوير الانتخابات لصالح يانوكوفيتش، في جولة الإعادة بين يانوكوفيتش ويوشينكو، بمساعدة مباشرة من جانب موسكو، وهو ما أسفر عن إلغاء هذه الانتخابات والإعلان عن جولة أخرى ثالثة لم يشهد تاريخ الانتخابات لها مثيلا، بإيعاز ودعم مباشر من جانب بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد لعبت يوليا تيموشينكو الدور الأكثر تأثيرا في أحداث الثورة البرتقالية، مما جعلها تفوز، وعن حق، بلقب «أميرة الثورة البرتقالية»، بعد أن سبق وفازت في منتصف التسعينيات بلقب «أميرة الغاز» باستحواذها على النصيب الأكبر من كعكة الغاز في أوكرانيا والمناطق المجاورة لها.
ولذا كان من الطبيعي أن تشغل تيموشينكو منصب رئيس الحكومة الأوكرانية بعد فوز يوشينكو بمنصب الرئيس في تلك الانتخابات. لكنها لم تستمر طويلا في هذا المنصب لأسباب يعزوها كثيرون في أوكرانيا وخارجها إلى شخصيتها القوية الطاغية والمستبدة أحيانا، على خلفية رئيس طالما اتسم بالضعف والتردد، مما جعله فريسة لدسائس وألاعيب خصومه في الداخل وشركائه في الخارج، على أن تيموشينكو لم تكن لتكون الشخصية التي يمكنها الاستسلام لنوائب القدر وخيانة الرفاق بمثل هذه السهولة. ولذا كان من الطبيعي أن تعود ثانية أقوى مما كانت عليه لتناصب رفيق الأمس العداء ومعه فيكتور يانوكوفيتش رئيس «حزب الأقاليم»، الذي استغل ارتباك صفوف رفاق الأمس من زعماء الثورة البرتقالية ليفجر التوازن القائم في البرلمان الأوكراني، مما أسفر عن اتخاذ قرار حله والإعلان عن انتخابات مبكرة فاز فيها بالأغلبية التي سمحت له بالعودة إلى منصب رئيس الحكومة في عام 2006.
لكن الفراق لم يطل كثيرا، فسرعان ما استعادت تيموشينكو منصب رئيس الحكومة الذي تربعت عليه طوال الفترة من 2007 وحتى 2010، وهي الفترة التي يقول القضاء الأوكراني إنها شهدت الكثير من التلاعبات والمخالفات المالية واستغلال النفوذ، ومنها إهدار المال العام والتفريط في المصالح الوطنية.
وكانت المصادر أشارت إلى أن تيموشينكو أذعنت لمطالب نظيرها الروسي فلاديمير بوتين، ووافقت على شراء الغاز الروسي بأسعار مبالغ فيها في محاولة لإنقاذ ماء وجهها في الداخل، والحيلولة دون وقوع أوكرانيا في شرك المتاعب الاقتصادية، حرصا على مكانتها وهيبتها في الداخل، وهي التي كانت تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية في تحد واضح لغريمها التقليدي فيكتور يانوكوفيتش، وكذلك رغبة منها في الثأر من رفيق الأمس، أحد رموز الثورة البرتقالية، الرئيس السابق فيكتور يوشينكو.
ولعله من سخريات القدر أن يكون يوشينكو أحد شهود الإثبات في القضية التي حُكم على تيموشينكو فيها بالسجن لمدة سبعة أعوام، ومنعها من ممارسة العمل في أي من المؤسسات الحكومية لثلاثة أعوام أخرى، بعد قضاء مدة العقوبة، بسبب استغلال أوضاعها الوظيفية وموافقتها على توقيع عقود شراء الغاز الروسي بأسعار مبالغ فيها في عام 2009 دون الرجوع إلى الحكومة، بما ألحق أضرارا بالدولة تقدر قيمتها بما يزيد على مائتي مليون دولار، حسبما جاء في منطوق الحكم الصادر ضد تيموشينكو.
وفي شهادته أمام محكمة كييف، قال يوشينكو إن تيموشينكو كانت تعمل ضد المصلحة الوطنية للبلاد، في حين اتهمها بالتفريط في حقوق الوطن بموافقتها على شراء الغاز بأسعار تفوق الأسعار التي اشترته بها النمسا وإيطاليا وألمانيا وسلوفاكيا، متهما في نفس الوقت الرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش، بالتغاضي عن هذه الأسعار المبالغ فيها، متسائلا عن السبب الذي يدعو أوكرانيا إلى شراء الغاز الروسي بما قيمته 450 دولارا لكل متر مكعب، في الوقت الذي تبيع فيه موسكو نفس الغاز إلى ألمانيا بـ250 دولارا، وإلى إيطاليا والنمسا وسلوفاكيا بما قيمته 250 - 300 دولار. وأضاف يوشينكو أن تيموشينكو أسهمت في إشاعة الفرقة بين صفوف المعارضة، مما نال من استقلالية أوكرانيا، متهما روسيا بأنها تواصل سياساتها الاستعمارية ومحاولاتها الرامية إلى تركيعها، على أن أحداث الماضي القريب تقول بواقع مغاير حيث يذكر المراقبون تلك المباحثات التي جرت بين بوتين ونظيرته الأوكرانية تيموشينكو، وأسفرت عن الاتفاق حول توقيع عقود بيع الغاز بين الجانبين اللذين مثلهما آنذاك رئيسا مؤسستي «غاز بروم» الروسية، و«نفط غاز» الأوكرانية، وهما اللذان مهرا بتوقيعهما هذه العقود وليس تيموشينكو كما جاء في منطوق الحكم. وكان الكثير من المراقبين قالوا آنذاك إن أجواء مباحثات القرم التي أسفرت عن توقيع عقود الغاز، وتبادل بوتين وتيموشينكو المجاملات لم تكن سوى جزء من استعدادات كل من الطرفين للانتخابات الرئاسية المقبلة في أوكرانيا، التي كانت موسكو تراهن فيها على نجاح أي من غريمي الرئيس السابق، فيكتور يوشينكو، الذي اعترف الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف صراحة بأنه طالما كان العقبة الرئيسية على طريق تطور علاقات البلدين، ودفعت الجانبين إلى اتجاه المواجهة والتصعيد.
وكانت المصادر الروسية كشفت صراحة عن انقسام الدوائر السياسية في موسكو حول تأييد كل من تيموشينكو، رئيسة الحكومة، وفيكتور يانوكوفيتش، زعيم حزب الأقاليم المعارض، في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها يانوكوفيتش من الجولة الثانية أمام تيموشينكو وبفارق زاد قليلا على 3 في المائة من أصوات الناخبين، غير أن السؤال الذي يتقافز إلى الشفاه يظل متعلقا بمدى احتمالات تنفيذ ذلك الحكم، الذي ثمة من يصفه بالجائر، بينما يعتبره آخرون محاولة لتصفية حسابات قديمة قد تطال نتائجها مستقبل العلاقة بين أوكرانيا مع كل من الاتحاد الأوروبي من جانب وروسيا من جانب آخر، في الوقت الذي ترفض فيه تيموشينكو الاستسلام، وتتوعد غريمها بإعادة بناء فريقها ودعم صفوف المجتمع والمعارضة والاتحادات النقابية من أجل الإطاحة بالنظام القائم.
وحتى ذلك الحين، تظل الأنظار معلقة بما سوف تسفر عنه نتائج الطلب الذي تقدم به يوري سوخوف محامي تيموشينكو لاستئناف الحكم الصادر بحق موكلته، وهو ما سيجري النظر فيه في غضون 15 يوما، وثمة من يقول إنها قد تكفي لكي يراجع الجميع مواقفه على ضوء ردود الأفعال التي تتوالى من مختلف العواصم، ومنها بروكسل وواشنطن اللتان هددتا بوضع قائمة سوداء بأسماء الشخصيات الأوكرانية التي سوف يحظر دخولها إلى الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها النائب العام لأوكرانيا وعدد من كبار المسؤولين ورجال الأعمال ممن يرتبطون بهذه البلدان بعلاقات مالية واسعة النطاق.
أما عن روسيا، فقد قالوا إن تأكيد الحكم الصادر بحق تيموشينكو والاعتراف بأنها خضعت لابتزازات موسكو التي حققت من ورائها مكاسب طائلة خصما من حقوق الشعب الأوكراني يلقي بظلال الشك على استراتيجية العلاقة بين الجارين ويفتح الباب أمام احتمالات طلب الحكومة الأوكرانية إعادة النظر في العقود الموقعة، كما أنه ينال من مكانتها الدولية والإقليمية ومن العلاقة المتبادلة مع الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش الذي كان محسوبا عليها، بينما كان حظي لفترات طويلة بدعمها وتأييدها إبان صراعه التاريخي مع تيموشينكو وكبار رموز الثورة البرتقالية. ولكم هو غريب هنا أن تجتمع رؤى فلاديمير بوتين مع توجهات خصمه الاتحاد الأوروبي وغريمته واشنطن حول عدم عدالة الحكم الصادر ضد تيموشينكو، مما يضع الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش في مأزق قد ينال من مكانته ومستقبله السياسي، في الوقت الذي يعيد فيه إلى الأذهان مقولة بالمرستون الخالدة: «لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة.. المصالح هي الدائمة». ومن هذا المنطلق يتوقع المراقبون احتمالات احتواء الموقف الراهن والإفراج عن أميرة الثورة.. التي تتمتع بصلابة لا يوحي بمثلها قوامها النحيل وملامح وجهها الذي لم يفقد نضارته، ولم تنل منه سنون الصراع السياسي ونضال خصوم الماضي والحاضر، بما فيهم رفاق الأمس من نجوم الثورة التي لم تعد برتقالية في بلد لا يزرع البرتقال.
التعليقات (0)