مواضيع اليوم

بيت النار ..

صادق البصري

2011-09-09 21:35:34

0

 بيت النار  ..    (قصة قصيرة )

يجلس على قارعة الطريق وحيدا ، كهل بكوفية حال لونها ،وسترة مغبرة ..جالسا لا يلوي على شيء ، ساهما اغلب الوقت يقتفى آثار خطوات المارة بنظرات مشوشة وملامح وجه كسير حفر الزمن خطوطه على قسماتها فأحالها أخاديد ..أب لعائلة تشتت أفرادها ،البنين توزعوا بين قارات الأرض كرذاذ تطاير هنا وهناك ، والبنات تزوجن في أماكن متباعدة وشح الملتقى ، لم يبق له سوى عد أيامه الأخيرة بمسبحة قلقه ، منسي كقبر قديم تكاثر من حوله الدغل ، ممسوح اسم قاطنه من ذاكرة الشاهدة ،كأنه كان يودع بنظراته صباحا خيال العربات المارة وضجيج المكائن العابرة ،وجلبة النساء والأطفال ناحية جادة السوق ،والغبار يلف الحي ويصعد بدوامات حاملة معها الأوراق وأكياس النايلون موزعة النفايات أمام البيوت المهجورة وعلى سقوفها الواطئة ،ويطيل جلوسه حتى الغروب مستقبلا العائدين من عمال وكسبة وعربات الحيوانات ، و السيارات القديمة التي تجر خلفها غبار يغشى الحي، كان يمكث جالسا إلى ساعات متاخره من الليل وكأنه ينتظر عائد ما .
كان واجبي مراقبة الطريق وتشخيص السيارات المارة والمتوقفة داخل الحي وفي أطراف المدينة ،وتثبيت أرقام البيوت الشاغرة أوالتي هُجر أهلها و التي يستخدمها المسلحون كنقاط انطلاق لعملياتهم ومخازن للعتاد ،كان يتحتم علي أن اضطلع بقراءة وجوه الغرباء وأدون ملاحظاتي ومن ثم أرسله على شكل تقريرعن طريق اللاسلكي لوزارة الدفاع ،بواجب أشبه ما يكون استخباري مدنيا في مدينة هجرها معظم أهلها ،من جراء الاقتتال وتصارع المسلحين للسيطرة بغياب القانون ، كانت الحياة في المدينة تتوقف كليا الساعة الثالثة عصرا مما يجعل منها مدينة أشباح بدون حظرا للتجوال ،بين فينة وأخرى اسمع إطلاق نار ،وجثث أشخاص ترمي قرب التلة الترابية عند أطراف المدينة ،وكانت البشارة دائما تأتي عن طريق مايكروفون الجامع القريب من الحي بأنهم قتلوا الأعداء ،اعرف حينها إن مجزرة جديدة وقعت ، كان الظلام يلف المدينة مبكرا ،فيختفي حتى نباح الكلاب ،
اقتربت من الشيخ وسألته : هل تنتظر احد ما هنا .
أجابني : أنا من نفس هذه المنطقة وقد ولدت فيها ، وبيتي هناك قرب المدرسة ،وأعيش وحيدا منذ أن ماتت زوجتي في انفجار السوق ، وهجرني أولادي وبناتي  - كان مسرورا لان أحدا كلمه ، وراح يعدد أسماء أولاده وبناته وجيرانه .
قلت :آه أنها فعلا ظروف محيرة .
أجاب : ولدت هنا وكانت تلك مدرستي ،آه كم لعبنا عندما كنا صغارا في تلك الأزقة ، وتلك هي آثارنا كتابات شاحبة على الجدران ،غادر الكثيرون من ناس هذا الحي ومن المدينة ، إلا أنني لم أغادر .
تفتحت قريحة الشيخ بالكلام وراح يشرح الحوادث التي عصفت بمدينته ، وأسماء الأشرار الذين حرموه من جلاسه أصدقاء الطفولة من جيرانه .
قال : غادروا جميعا لأماكن بعيدة ولا اعرف عنهم شيء ..
لكنني قلق على الصغيرة ابنتي التي تزوجت منذ سنة وذهبت مع زوجها إلى مكان ناء ، وزوجها من طائفة أخرى .
كنت استمع لحديث الشيخ وأراقب الشارع والسيارات المارة بسرعة ، بأضواء شاحبة ،كان المساء يمر حذر، وفي أي لحظة تتجمع المجاميع المسلحة بنداء من مايكروفون الجامع القريب ،وفي أية لحظة تُقتحم البيوت ، وتفجر لتتحول إلى ركام ، أو تحرق وتسفك دماء ما تبق من ساكنيها .. كان الشيخ لازال جالسا بمكانه ، سألته عن أصدقائه وسكان المدينة الذين غادروا
قال :كنا نجلس في هذا المكان أنا وأصدقائي من الجيران نتبادل الحديث ، ونلعب الدومينو ونسمع النكات ونحتسي الشاي ونضحك كثيرا ، إلى ساعات متأخرة من المساء ، وكانت ابنتي الصغيرة تأتي لتضع على كتفي معطف الفرو لبرودة الجو مساء ..إني جد قلق على ابنتي الصغيرة ، الأولاد لاخوف عليهم فقد كبروا وتفرقوا ، ولا اعرف أين هم ألان ، لكن ابنتي قالت أنها ستزورني يوما .
تجمع بعض الشباب مدججين بالسلاح في مفارق الطرق بمعية معمم يتقدمهم وكانت وجهتهم مدخل المدينة من جهة الغرب ،وكان لابد من تحذير السرية التي كانت تربض هناك بسلاح بدائي .
سألت الشيخ هل تعيش ألان وحدك في ذلك البيت ؟
أجابني : كانت لي عائلة ، زوجة ، وأولاد ،وبنات ، زوجتي ماتت في حادث انفجار السوق ولم اعثر على رفاتها ، والأولاد تفرقوا قال لي شخص يعرفهم أنهم هاجروا كل في بلد ، ابنتي الكبيرة تزوجت و نسيتني تماما ولا تتذكر حتى اسمي ،والوسطى ذهبت مع زوجها إلى الشمال وضاعت إخبارها ،والصغرى آه .. كم أنا قلق عليها زوجها من طائفة أخرى ولا ادري أين هم ألان ، كما ترى أنا أعيش وحدي في ذلك البيت ، لا أهل ولا أولاد وبيتي كما يبدو مقفر يسكنه الظلام .
جاءتني رسالة إن السرية تصدت لمجموعة الشباب في الطرف الغربي للمدينة ، وطاردتهم واعتقلت كبيرهم المعمم واقتادته إلى السجن .
ماذا كنت تعمل من قبل سالت الشيخ الجالس ؟
أجاب : كنت سائق شاحنة كبيرة أجوب البلاد من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها ، ولي في كل محافظة انزل فيها أصدقاء وخلان ، كنت انقل البضائع من الميناء في الجنوب لأوزعها على المحافظات ، وكانت نهاية رحلتي وطوافي الطويل مهجعي بيتي كما الطيور التي تعود إلى أعشاشها في المساء ، حيث كان لي زوجة وأولاد وبنات ،ماذا افعل في البيت ألان بعد أن تركوني ، أكثر ما يقلقني طفلتي الصغيرة أنها عطوفة ومرحة لكنها ضعيفة البنية ، وزوجها من طائفة أخرى ، هل تعتقد أنها ستزورني يوما ؟
قلت له يستحسن أن لا تبق في هذا المكان .
أجابني : انه بعد برهة سيعود إلى بيته
وسألني كمن يريد أن يبوح بسر خطير ، وقال :هل تعتقد أنهم سيتذكرونني ، اقصد الأولاد ، وهل ستنجو ابنتي الصغيرة حتى لو علموا إن زوجها من طائفة أخرى ، أنهم قساة لايعرفون الرحمة ، بالأمس احرقوا منزل جاري وأتى الحريق على كل شيء في المنزل ،ولحسن الحظ أن لا احد في المنزل فقد اخذ جاري عائلته وغادر منذ البداية،
كما أنهم أجبروني على القبول في أن أعيرهم نصف بيتي ، قالوا انه بيت كبير على عجوز يعيش وحيدا ، جاعلين من نصف الدار مخزنا للذخائروالاسلحه ،وأتذكر حينها صاح بي شيخهم قائلا انك ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه إن تركت لنا الدار ورحلت .
سمعت إطلاق نار كثيف من جهة الغرب وعلت الأجواء حمرة انفجارات دام لأكثر من ساعة ، ثم سرت أصوات مزمجرة لعربات وشاحنات تحمل جنود أسرى ، مزقت صمت الليل الدامس ،ووصلت أول طلائع المهاجمين الشباب بمعية المعمم بعد أن اقتيد آمر السرية مقيدا ، وبضعة جنود عراة يطاف بهم في أزقة المدينة المظلمة ،حينها جاءتني رسالة الانسحاب ..
بكى الشيخ ونهض من جلوسه الطويل كفكف دمعه بذيل كوفيته ، كلمته لم يعرني إذنا صاغية ، وبنبرة حزينة منكسرة قال : لا اشك يوما انه كان لي بيت هنا ، وكانت لي عائلة ، زوجة وأولاد وبنات ، وكنت أجوب المحافظات وأعود لبيتي ، لا أشك إني ولدت في هذا المدينة ولي فيها جيران وأصدقاء وخلان ،لا اشك إنني قلق عليهم وأكثر ما يقلقني هي ابنتي الصغيرة ترى هل ستفي بوعدها لي وتزورني ، تلك كانت أمنيتي قبل أن تغمض عيني . لم يعد يخاطبني مشى يتخبط بغير وجهة بيته، ابتعد ، واختفى في الظلام .

 

 

                                                                                               صادق البصري / بغداد

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !