يا رب... أسألك يومًا ممطرًا آخر!
بعد عشرة أيام من الاجتياح البري لغَزَّة، انهزم الجيش الصهيوني أمام عزيمة المقاومة المؤمنة، ورفع الراية البيضاء..
فُكَّ الحصار، واحتفل العالم العربي والإسلامي كله بانتصار المقاومة. كل الناس احتفلت وعبّرت عن بهجتها، بما في ذلك "فخامة الريّس".. فقد قرَّر فتح أحد مصراعَي بوَّابة رفح، لا إشفاقًا على أهالي غزَّة، بل استئناسا بـ "فتح".. فهو يتفاءل بفتح، أيّ فتح كان.. ويتشاءم من حماس، أيّ حماس.. حتى لو صحَّحت "حماس" مسارها، وأضافت إليها تاء التأنيث، احترامًا للقواعد، وجيء له بالشنتمري نفسه شارحًا لها، لظل يتشاءم منها!
كل الناس احتفلت بانتصار المقاومة وعبّرت عن بهجتها، إلا السيد "أبو لاشي"؛ العربي الوحيد الذي ظل يصر أنّ "النهاية" لم تأت بعد، وأنّ انسحاب الصهاينة "مجرد مناورة"، وأنّ "الاجتياح الحقيقي" لم يأت بعد!
والأغرب في الأمر كله أنّ "أبو لاشي" كان من أشد المساندين والمتحمسين للمقاومة في غزَّة، كما أنّ الخاص والعام يعلم مدى كرهه العميق للكيان الصهيوني..
"أبو لاشي" موظف حكومي في مصلحة البريد.. وهو يمقت كلمة "موظف"، ويصر على أن يقدِّم نفسه على أنه "إطار في الاتصالات"..
منذ اليوم الثاني من الهجوم الجائر على غزة، تمترس "أبو لاشي"، وبدأ "الرباط" في خندقه الخاص.. وكان قد حصل على "إجازة" طبية مفتوحة، مكتوب عليها: "لا يُسمح له بالعمل إلى أن تُفرَج"..
بمجرد عودته إلى البيت، ارتدى "أبو لاشي" بزَّة المقاومة والصمود: "بيجاما" قطنية، وجوارب صوفية، وبطانية للتترُّس.. وحمل سلاحه الوحيد: "الريموت كنترول"، ومعه أهم عتاد: إبريق الشاي.. ثم صرخ بأعلى صوته: "آتون يا غزَّة!"، ودخل في شاشة التلفزيون، ليصبح جزءًا من قناة "الجزيرة"...
وهكذا، أصبح "أبو لاشي" مقاومًا من الدرجة الأولى.. يخطِّط، ويتكتك، ويناور.. يمارس الكر والفر، ويثخن العدوّ بالـ...صراخ!
في اليوم الثالث من الاجتياح البري لِغَزَّة، طلبت منه زوجته "فتحية" الذهاب إلى السوق لبعض حاجات البيت، فهاج في وجهها، وهدّدها بالويل والثبور..
_ ألا تستحين يا "بنت الذين"؟! ألا تخجلين من نفسك؟ السوق! هل هذا زمن السوق؟ إخواننا يموتون في غزة، ونحن نقاوم معهم؛ وتطلبين مني اللهاث وراء رغيف الخبز؟
_ كفى صراخًا؛ لا تنتفض عليَّ هكذا!
وهنا تلقَّف "أبو لاشي" كلامها، وراح يكيل لها من لسانها، في لهجة عنترية متهدِّجة:
_ نعم، هذا ما كنت أبحث عنه! لا بد من انتفاضة! انتفاضة ثالثة في غزة، وانتفاضات يومية عليك في هذا البيت الذي يذكِّرني بغوانتانامو..
وكدأبها، اتجهت "فتحية" إلى المطبخ، وأغلقت الباب خلفها، تاركة إياه يرغي ويزبِد..
عاد "أبو لاشي" إلى رباطه. "حمى ظهره" بأربع وسادات.. وموَّه على العدوِّ بالاستتار بالبطانية..وأخذ عدَّته الضرورية: كأس الشاي، والريموت كونترول. ثم... اندمج في المعركة... وما هي إلا دقائق معدودات ما كادت تمرّ حتى راح يصرخ بملء فيه:
"الله أكبر! الله أكبر! دمَّرنا لهم ميركافا! دمّرنا لهم ميركااااااااافااااااا!"
ثم راح ينادي زوجته بصرخة، قيل إنّ صداها سُمِع في تل أبيب، فارتعدت ليفني هلعًا:
"فتحيّة! فتحيّياااااااااااااا! الحقي با فتحيّييييييييييييا!"
فتحت "فتحية" باب المطبخ، وحدّقت فيه باستغراب، ثم سألته:
_ ما الذي حدث؟ هل هاجمتك الصراصير؟ أم هي الجرذان التي عجزت عن إبادتها منذ الصيف المنصرم؟
_ لا يا فتحية.. أنتِ فين واحنا فين! لقد حطَّمْنا لهم ميركافا! هل تفهمين؟ مر.كا.فا! ميم، راء، كاف، فاء! تعالي لتشاهديها تحترق، وتشمي رائحة جثث الخنازير المشوية.
_ لا شأن لي بروائح الجثث، رائحة "الفراخ" الموشكة على التفحُّم تكفيني همًّا..
قالتها وهمَّت بالعودة إلى مملكتها، فإذا به يخاطبها باستفزاز:
_ لقد أصبح تفكيرك أضيَق من معبر رفح، لكن لسانك صار أطول من صواريخ القسَّام! لكنني لا أستغرب هذه اللامبالاة من جانبك، فاسمك "فتحية"، ولعله مشتق من "فتْح"..
تسمّرت في مكانها عند سماع هذه الكلمات.. ثم استدارت نحوه، وقالت له بكل برودة دم:
_ ما دام الأمر كذلك؛ لك القطاع، ولي الضِّفَّة!
ثم دخلت مملكتها الملتهبة، وأوصدت الباب بعنف شديد، اهتزّ له القصر الرئاسي...
وظل الأمر على هذه الحال... أبو لاشي "يقاوم"، وفتحية تغادر البيت بعد الفجر، وتحشر نفسها في زحمة "الأوتوبيس"، وتخاطب "اللي يسوى واللي مايسواش"، حتى تصل إلى مصنع النسيج قبل الثامنة.. وأبو لاشي "يقاوم" في جزيرته..
ظل الأمر على هذه الحال.. إلى أن جاء اليوم "اللي ما يتسمّاش"، كما يحلو لفتحية تنعته كلّما ذَكَرتْه أو تذكَّرتْه...
في ذلك اليوم "المهبّب"، عادت فتحية إلى البيت –على غير عادتها- قبل السابعة مساءً. ولشدة إنهاكها، فتحت الباب ببطء رافقه هدوء غير مقصود، فلم يتنبَّه لدخولها أبو لاشي.. وبمجرَّد أن تجاوزت العتبة "الهباب" هي الأخرى، سمعت زوجها يصرخ: "الله أكبر! الله أكبر!" فاتجهت رأسًا إلى غرفة الجلوس.. نظرت إلى زوجها، الذي أخذ منه وقع المفاجأة كل مأخذ، ثم أدارت بصرها إلى التلفاز.. وهنا، استولى عليها الذهول، ودارت بها الأرض، وكاد يُغمى عليها...
وما كان لأحد أن يلوم فتحية.. فقد شاهدت على الشاشة "بأمِّ عينيها" -وخالتهما وعمّتهما- مباراةً في كرة القدم! ودقَّقت النظر، فاكتشفت أن أحد الفريقين يشبه "الأهلي"، أمّا الآخر فلا يُشبه "الزمالك" إطلاقًا.. وهذا هو اللغز الذي لم تجد له تفسيرًا! وبينما هي غارقة في حيرتها الغاضبة وغضبها المحتار، نطق المقاوم الصنديد منافحًا عن قضيته:
_ هدِّئي من روعك يا "وليَّة"! لعلك تتساءلين عن علاقة ما أنا فيه بمقاومتي الباسلة ضد الاجتياح الصهيوني الغاشم.. أليس كذلك؟
لكنها، من فرط حيرتها وارتباكها وحنقها، لم تنبس فتحية ببنت شفة ولا ببنت جارتها.. ولمهارته الفائقة في فن المناورة والتكتيك الحربي، لجأ إلى وسيلة "الإرباك"، فباغتها قائلَا:
_ ما لك يا هانم؟ ألم تعلمي أنَّ الرياضة جزء من مقاومتنا الباسلة؟ هل نسيت أخي وعزيزي "أبو تريكة" ومناصرته لأهالي غزّة؟ أنا لا تهمُّني كرة القدم.. لا يهمّني لا الأهلي ولا الزمالك...
وهنا قاطعتْه فتحية قائلة بلؤم:
_ أعرف ذلك. فالذي يهمّك هو "النادي الإسماعيلي" وبسسس....
أحس أنها أصابته في الصميم؛ لكنه لم يستسلم، وغادر مخبأه.. "عاري الصدر"، "ممشوق القامة"، وراح يمشي نحوها.. وبعد خطوة واحدة، صرخ في وجهها:
_ لا تقاطعي المقاوم حين يتكلّم! مفهوم؟
ثم خفض صوته قليلا، وأضاف:
_ كل الذي يهمّني في مباراة كرة القدم هو: اللحظة التي ينبري فيها أحد إخواننا أمام كاميرات العالم، ويعلن –على طريقته- مساندته لنا...
ثم راح يبرهن على صدق دعواه بالحجج القاطعة المفحمة، كما قال... وبينما هو كذلك، اقتربت فتحية من الشاشة، وقرأت في أعلاها: مانشستر يونايتد 0/ شلسي 1!! وهنا دارت بها الأرض "سبع دورات"، وأضافت الثامنة من عندها مجَّانًا لهول الصدمة..
لاحظ أبو لاشي صدمتها، فبادر إلى إنقاذ الموقف بتكتيك حربي آخر يسمّيه: "العلاج بالصدمة"، وصرخ في وجهها:
_ يا جاهلة! يا أمِّيَّة! يا "بتاعت البتوع"! الآن فقط تأكدتُ أنك في الضفة.. الأخرى من العالَم! ألم تدركي بعدُ أنّ اللاعبين العرب والمسلمين يلعبون في معظم الأندية الأوروبية؟ ابتعدي قليلا عن الشاشة حتى لا تفقد أفكاري تسلسلها!
لم تستجب فتحية لطلبه، فغيَّر هو "موقعه الاستراتيجي".. ثم ألصق عينيه على المستطيل الأخضر، وأضاف قائلا:
_ يا فتحية! يا روحي! في الأندية الأوروبية لاعبون مسلمون، مثلي مثلك. وبعضهم مقاوم مثلي تمامًا.. خذي –مثلاً- هذا اللاعب الذي سجَّل الهدف.. اسمه "بلال أنيلكا"، وهو فرنسي مسلم، مثلي ومثلك إلى حد ما.. وهو مشهور بمواقفه المقاوِمة؛ وهو في هذه مثلي تمامًا، وليس مثلك إطلاقًا.. ولهذا، عندما سجَّل الهدف، هتفتُ بالتكبير.. أتدرين لماذا؟ لأنني كنت متأكِّدًا أنه سيقوم بحركة ما يعبِّر بها عن مساندته للمقاومة في غزَّة. لكن اليهود –المسيطرين على الإعلام- أبعدوا عنه الكاميرا، لعنهم الله.. ثم أتيت أنتِ، هداك الله...
لم تقل فتحية شيئا.. نظرت إليه، ثم إلى الشاشة.. تركته غارقًا في جزيرتيه، وغادرت الغرفة بخطى مترنِّحة، وفي أعماقها رغبة عارمة في الصراخ، والبكاء، والنسيان، والجنون...
وفي اليوم العاشر من الاجتياح، وصل الخبر السارُّ إلى مسامع فتحية وهي في المصنع، تؤمِّن لقمة العيش للمقاوم المغوار.. ومن فرط فرحتها، زغردت بأحلى زغرودة في حياتها؛ وظلَّت تزغرد إلى أن وصلت إلى البيت! وما أن فتحت الباب حتى هرعت تجري إلى غرفة الجلوس.. لكنها فوجئت بها فارغة، إلا من ترس أبو لاشي وعُدّته وسلاحه.. التفتت إلى الشاشة، فوجدت التلفاز مبرمَجًا على قناة "أجواء"، قناة النشرة الجوية المستمرة. فتنهَّدت مبتسمةً، واتجهت إلى غرفة النوم..
كانت سحنته حزينة، وكان ممدَّدا على السرير، كالعائد منهَكًا من معركة ضارية.. جلست قربه، وسألته بلهجة مداعبة:
_ ما لك يا سيدي، أتحزن وقد تحقق النصر؟ قم لنشاطرك الفرحة أيها المقاوِم الشهم، ولنحتفل بعودتك إلى العمل!
_ الفرحة؟ يا لك من متفائلة! ألم تشاهدي التلفزيون؟ لقد أعلنوا عن سقوط المطر غدًا! أفهمت؟ غدًا:مطر! م.ط.ر! ميم طاء راء!
_ وما علاقة المطر بغزَّة؟
_ دعيك من غزَّة.. أنا أتكلّم الآن عن العمل. إذا أمطرت السماء غدًا، لن أذهب إلى العمل. والشهادة الطبيَّة تؤكد ذلك..
_ وإذا لم تمطر؟
_ ستمطر بإذن الله.. نُصرتُ في غزَّة، وسأُنصَر بالمطر هنا...
تجاهلت فتحية كلامه، وأعدَّت العَشاء.. ولعق البطل المغوار كل الصحون، كعادته.. ونام أمام التلفاز، وهو يشاهد قناة "أجواء"..
وفي الغد، هطل المطر، ولم يتوجَّه أبو لاشي إلى الشغل.. وفي اليوم الموالي، هطل المطر أيضًا... لكن في ثالث يوم، لم تنزل ولو قطرة واحدة من السماء.
كانت فتحية في المصنع ذلك اليوم. وعندما تأكدت من امتناع السماء عن القطر، طلبت تسريحًا، وعادت إلى البيت مسرعة في منتصف النهار...
ولمَّا فتحت الباب، سمعت تمتمة في الصالون، فتسارعت نبضات قلبها، وظنت أنَّ أبو لاشي أصيب فعلًا بالجنون.. لكنها حينما شارفت مدخل الصالون، شاهدت أبو لاشي جاثيًا على ركبتيه فوق السجّاد، رافعًا يديه إلى السماء.. وسمعته يقول بخشوع عميق:
يارب! يا خالق البحر العباب، ومُنزل الغيث من السحاب، أسألك يومًا مُمطرًا آخر....
تحيــاتي
اخوكم اصيــل
التعليقات (0)