أعلمُ بأنَّ الغائبينَ - لا الموتى - ينصتونَ جيداً ، و يأخذونَ بأيدينا في الوقتِ الذي يبدو فيه العالمُ موحشاً . هؤلاء الأصدقاء الذين لم نلتقِ بهم و لم نختلف معهم حول تأخرهم عن مواعيدهم .. أو كلماتهم الخارجةِ عن المتنِ ؛ حول غضبهم و أمزجتهم و فناجينهم التي تبردُ حين نسياننا .. !
حتى عندما تحولَ العالمُ إلى حزنٍ محضٍ .. و أنا أنزوي في حدود جسدِ طفلةٍ لا أكثر ، كان يبدو الهواءُ قليلاً و النافذةُ تطلُّ على أشياءَ لم تقلها لي جدتي في حكاياتها : عن الحب أو الوجوه التي توضعُ في خزانة الطمأنينةِ و تتحررُ بعد أعوامٍ لتخرجَ من ثقوبِ الأبوابِ إذ تنطفئُ المصابيحُ و تبدأ حفلةُ العتمة . أو عن طقسِ الغرفِ التي نصبحُ خارجَ حدودها و قد تكونُ صالحةً لأن تُؤثثَ بالتفاصيلِ المهمة و المهملةِ على حدٍّ سواء .
عندما يتعرفُ الإنسانُ - للمرة الأولى - إلى جهةٍ يبحثُ فيها عن نفسهِ .. عن الأشياء التي تعنيهِ يبدأُ لقاؤهُ بالحياةِ ؛ حياةٍ تختلفُ كثيراً عن يومياتهِ و أحلامهِ الصغيرة فقط .. حياةٍ تحظى بعناوينَ أو أسماء تبدو جديدةً و لكنها نظيفة و قادرة على أن تندسَّ في جيوبِ اللحظةِ .. و بين دفاترهِ حتى تصبحَ كأصدقِ الأرواحِ التي لا يعنيها سلوكُ العالمِ أو سلوكنا معه . لا تخاصمنا .. و لا تعاقبنا .. تلتزمُ الحيادَ و لا تنصرفُ كما ينصرفُ الآخرونَ عنّا من أبواب متفرقةٍ .
أتحدثُ عن صديقٍ لم ألتقِ به .. كانَ قد كتبَ لي ما يعوّضُ نقصَ العالمِ حينَ أكونُ وحيدةً .. و تركَ لي قنديلاً لا يخبو لهيبُ فتيلهِ في الوقتِ الذي تبدو فيه الستائرُ و الخزاناتُ و الألوانُ صوراً ضبابية يمرُّ بها الفارغونَ و يكملونَ تدجينَ أفكارهم .. أو التحديق في العدم كي يعبرَ و يستلقونَ على أريكةِ الغيبة !
لأربعةِ أعوامٍ كنت أحملُ كتب الدراسة و أحد كتب " بسام حجار " معها .. حين تصمتُ أصواتُ أساتذتي أخرجُ من القاعةِ .. و في الزمن القصير الذي أستذكرُ به السماءَ أو رائحةَ الأشجارِ أو مواء القطط الصغيرةِ في المكانِ أختارُ صفحة عشوائيةً و أقرأُ في " معجم الأشواق " أو " مهن القسوة " .. . إذ لم أكن أملكُ سواهما لبسام حجار .
كانت اللغةُ تبدو متسعاً آخرَ .. غريباً و عميقاً لأعيدَ القراءةَ مرةً أخرى كي أعرفَ أن الهواءَ لا يعبرُ في رئةِ الكائناتِ التي لقّنونا عن صفاتها لتكونَ حيةً فقط .. فاللغةُ تلكَ كانت و ما زالت كائناً لا يُدمى و لا يُقتلُ و لا يحتاجُ خبزاً ليعيش .
في فترةٍ ما بعد انتهاء دراستي الجامعية كنتُ أنتظرُ فرصةً للنجاةِ من الهامشِ .. أي العمل .. و مجدداً وجدتُ " سوف تحيا من بعدي " .. لم يكن " هو ما يشبهُ الشعرَ " إذ أنهُ الشعرُ الذي قاسمتُهُ " الرغيفَ و الماءَ و اشتياقي " في محطاتٍ امتلأت بالكثير الذي لا يُنسى .. و أخذت حصتها من العزلةِ المختلفة .
لأنني قبلَ أيامٍ كنتُ في ذلك المكان .. و لأنني قبلها كنت أقولُ : بسام حجار الآن يزورُ الذاكرةَ التي لم يغادرها .. و لأنني الآن لا أكتب عن الشعرِ .. أو بهِ بقدر ما أشعرُ بهذه العلاقة الوثيقة التي تربطنا بالذينَ لم نلتقِ بهم خارجَ مخلوقاتهم - قصائدهم - لكنني أعلمُ بأنني سأضعُ الزنابقَ التي أحتفظُ بها على نافذة غرفته الكونية يوماً ؛ و أنني حينَ أقرأُ قصيدتي سينصتُ لها جيداً لأن - الحالمينَ - لا الموتى يتقنونَ - البقاءَ بصمتٍ .. و لا " يذهبونَ إلى الجوارِ المخيف .. ! "
يوليو 2010 م
التعليقات (0)