الكاتب : يحيي البوليني
لم أكن أتصور بعد تلك الانفعالات النفسية التي عشناها كمصريين أثناء وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير , لم يخيل لي ولو للحظة واحدة أن يجد الرئيس السابق والمتهم الحالي محمد حسنى السيد مبارك وأبناؤه وحاشيته محاميا يقف ليدافع عنهم في محاكمتهم .
وربما تماديت في أفكاري , وظننت أن المحكمة ستنتدب قسرا أحد المحامين الذي سيقبل مضطرا لاستكمال الجانب الشكلي للمحاكمة التي تلزم بأن يكون للمتهم محام يدافع عنه , وتصورت أن هذا المحامي سوف يعتذر مرارا للمجتمع المصري على قبوله تلك المهمة الشاقة والمستحيلة والمخزية , وأنه سوف يلتمس من المجتمع المصري العذر لأنه مثلهم يساهم شأنه شأن كل مصري في إنجاح المحاكمة التي هي مطلب كل المصريين .
واستكملت أفكاري وظنوني التي لا أستطيع وصفها الآن بالدقيقة ولا الحقيقية بأن ذلك المحامي سيقف وحيدا طريدا شريدا في المحاكمة وهو ينفذ ما طلب منه فقط , وانه سيتمنى لو أنه ما وقف هذا الموقف أمام إرادة أبناء بلده في محاكمة من أذلهم وسرق أقواتهم وجلب الخراب والدمار لهم وخان أمانتهم وباع ممتلكاتهم لعدوهم بأبخس الأثمان واستورد مكانها المرض والموت , فعاش المصريون بين خوف وذلة ومهانة في الداخل وبعثرة كرامة في الخارج والعودة في نعوش لمن كتب له أن يعود .
وجاء يوم المحاكمة الأول وفوجئت بما لم أتوقع , وهالني ما رأيت , رأيت مجموعة منتقاة من أكبر المحامين في مصر , ممن لا يفتقدون المكانة ولا يفتقرون للمال , رأيتهم وقفوا بلا خجل وهم يعلنون بكل فخر أنهم يدافعون عمن أذل الشعب وسرق المال .
وتساءلت هل هؤلاء حماة الفضيلة والقوانين الذين يلجأ إليهم كل مستضعف لينال حقه ليكونوا وكلاء عنه في رد الحقوق ؟.
أنهم يشبهون سحرة فرعون - قبل إسلامهم – وهم يقفون مستعدين للدفاع عن فرعون وعن باطله بكل وسيلة , ليأتي كل ساحر منهم بما يستطيع من ثغرات القانون وحيل الدفاع وليستخرج كل ما تعلم من وسائل إجرامية لإطالة أمد الدعوى حتى يمل الناس وينسوا أمر المحاكمة ويفقدوا فيها الأمل .
ولكن سحرة فرعون قد نافقوا فرعون وهو في أوج مجده فلم يكن خلف قضبان , طالبوا بالمال فأعطاهم ما يشاءون , وهذا لا اشك فيه أن كل هؤلاء المحامين قد فتحت لهم حسابات مغرية , ورغم هذا لا اقتنع أن المال وحده هو الذي دفعهم لذلك فمعظمهم لا يحتاج للمال .
وأيضا فرعون منح السحرة عطاء فوق المال فحينما سألوه المال قائلين " فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ" فرد عليهم مانحا إياهم ما يغريهم أكثر من المال " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ"
وهنا الموقف محير فما الذي يملكه مبارك وهو في محبسه من السلطة والجاه حتى يمنحه لغيره ويجعلهم يتمسحون به ويتقربون إليه بهذا الشكل , أم أنه يملك من السلطة والجاه للآن مالا نعلم , ويكون ما أخفى علينا اكبر بكثير مما نراه , وحينها نكون قد وقعنا جميعا في أكبر فخ وخدعة على مدار التاريخ .
كنت أظن أن كل مصري بغض النظر عن مؤهله أو عمله قد ناله من أذى الفترة السابقة الكثير , وكنت أظن أن كل مصري قد رأي وشاهد بعينه ما فعله النظام السابق من فظائع وجرائم في حق المصريين .
ألا يذكر هؤلاء المحامون شابا مصريا اسمه " عبد الحميد شتا " الذي تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان يجهز لرسالة الماجستير , وكان أساتذته يقدرونه ويتوقعون له مستقبلا متميزا .
لكن كان خطؤه الوحيد أنه كفاءة مصرية ظهرت في عهد مبارك حيث لا مكان لأية كفاءة , تقدم إلي اختبارات جهاز التمثيل التجاري للحصول علي وظيفة ملحق تجاري , واجتاز كل اختبارات الشفوي و التحريري والهيئة بنجاح و كان ترتيبه المبدئي في تلك الاختبارات "الأول" علي 43 شاباً وصلوا إلي التصفيات النهائية , وأتت النتيجة الحتمية في عهد مبارك بأن نجح كل هؤلاء ورسب عبد الحميد شتا لسبب بسيط أنه غير لائق اجتماعيا , فأبوه فلاح بسيط من إحدى القرى لا يملك إلا ثلاثة قراريط , فاستقبل الشاب هذه النتيجة وخرج بها إلى النيل وانتحر , انتحر – والانتحار كبيرة محرمة - لأنه غير لائق لان يعيش في عصر مبارك وعصر هؤلاء المحامين الأفذاذ الذين يقفون في ساحة المحكمة ليدافعوا عنه .
إن الأمر يحتاج لتدخل أكبر الأطباء النفسيين ليبينوا لنا لماذا أقدم كل هؤلاء على الدفاع عن المتهم الذي أذلهم - كشعب كامل -عقودا طويلة , وهل الحاجة للشهرة تفوق كل الأحاسيس البشرية والطبيعية التي يحسها البشر , أم انه اعتياد على الكسب الحرام والظلم وممارسة طويلة في إخفاء الحقائق وقلب الأوراق والحصول على براءة المتهم من أية جريمة ارتكبها , أم هم من الذين لا يعتبرون بهذه الآية الكريمة " وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " .
ومن أعجب العجب وقبل اليوم الثاني للمحاكمة يطل علينا أحد المحامين وهو كما يقدم نفسه بأنه رئيس هيئة المحامين المتطوعين للدفاع عن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ومعلنا لنا في الوقت نفسه أن إجمالي عدد المتطوعين للدفاع عن مبارك بلغ 1700 محام.
وهالني الرقم مرة أخرى وأيقنت أننا في مفارقة عجيبة , وهل نحن جميعا مصريون ننتمي لتلك الأرض ؟ هل عشنا كلنا على أرضها وشربنا من مائها وانتمينا إليها ؟!!!
1700 محام متطوع بالإضافة إلى الجهابذة كبار المحامين الذين يستطيعون إقناع المحكمة بأن مبارك ليس الآن في مكانه الصحيح , وان الذي يجب أن يكون داخل القفص هو الشعب المصري كله , والأعجب أنهم متطوعون أي أنهم كما يقولون أنهم لم يتقاضوا مالا , أليس هذا يدعو للسخرية والعجب معا .
وقرر السادة المتطوعون اختيار قاعة تستطيع أن تسعهم , فاجتمعوا في إحدى القاعات المخصصة للمناسبات بمسجد الحامدية الشاذلية لعقد اجتماعات لمناقشة سير القضية للتنسيق طبعا في الدفاع عن الرجل البرئ المحبوس ظلما في قفص الاتهام !!! .
حقا - كما قالها المتنبي- كم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء , حينا نعلم أن هؤلاء المتطوعين ومناصري مبارك قرروا توزيع نصف مليون حقيبة من حقائب رمضان الخيرية التي تحوي سلعا تموينية للفقراء وطبعوا عليها صوراً للرئيس السابق , ووزعوها في المناطق الفقيرة بأحياء إمبابة ودار السلام وصقر قريش وشبرا - حسبما أذاعوا -
أبعد كل هذا أليس من حقي أن اشك في نفسي أو في الثورة ؟ ألست أحق أن أخشى ساعتها أن أسارع مرددا معهم "عاش مبارك بطل الحرب والسلام " ؟؟ أو أن أقول في حسرة وألم " بالروح والدم نفديك يا مبارك " !!
التعليقات (0)