-انطباعات- السلام عليكم.. من موسكو (1)
المجالس (11) 16/6/1987م
لشهرين متتاليين لم أكتب غير بضعة أسطر على خلاف دأبي في اليمن، حيث الورق الأبيض يستفرغ كل ما في الذهن مما يعن للإنسان.
لكن في موسكو أشياء كثيرة تشغل الإنسان، وتشل قدرته على التفكير.
لقد جئت موسكو في أواخر أيام الشتاء والصراع بين فصائل الطبيعة على أشده.. جئتها والثلج يوزع أشلاءه كأنما يتودد إليك شأن مراهقة متهورة تنقصها الخبرة.
هاأنا ذا خارج للتو من الفندق.. "فلوجا" لم يمض على وقوفي في الشارع خمس دقائق، أجد أن تتف الثلج، بلونها الخاص لونها الأبيض المخملي قد لونت بدلتي الصوفية السوداء بالبياض..
السماء ونادراً ما ترى سماء سوفيتية أثناء الشتاء خصوصاً، أنك لا تكاد ترى غير الغيوم، بالمناسبة أذكر أنني رأيت السماء من السماء أي حين كانت "اليمنية" تحلق فوق موسكو على ارتفاع بعيد، وكنا –نحن الركاب- نرى شمس ساطعة دافئة وهي تنفذ إلينا من الفتحات الزجاجية، كنا نرى أننا نطلق على ما يشبه زبد البحر، "أكمات" من الغيوم وجبالاً تستلقي على رقعة بيضاء.. ولهذا فقد هممت المضيفة "المصرية" المهذبة في أذني قائلة، قد نتأخر في الجو لعشر دقائق لاستبيان حالة الجو.. قائد الطائرة لا يستطيع الهبوط جراء الغيوم المتراكمة.. هي عبارة مخيفة فعلاً، لولا أن المضيفة الرشيقة أتبعتها بعبارة "لا شيء يدعو للقلق" وابتسمت أيضاً.
موسكو ما أكثر ما كنت أفكر في موسكو وليس تفكيري بها من قبيل "وما حب الديار" ولكن لأنني زرت أمريكا، ولا شك أن زيارتي لموسكو سوف تمكنني من عمل مقارنة بسيطة ومتواضعة بين طرفين، هما في تناقضهما.. أكثر قرباً من مزاعم انتماء قومي بين دولتين عربيتين.
وعندما أخذت الطائرة طريقها إلى مطار موسكو كان قلبي ينبض بشدة.. إنه الخوف لا غير.. مهما يكن من أمر هانحن في أرضية المطار.
المطار في الصالة الأولى كان علي أن أعود أدراجي من حيث أتيت وعلى الطائرة التي امتطيت.. أن أرجع اليمن، وليس ثمة مفر.. فالممنوع من أمامكم، والممنوع من ورائكم وليس ثمة بحر نخوضه كما يهدد طارق ابن زياد جنده، وليس أمام الفقير إلى ربه.. الفقير إلى لغة يحسنها.. غير الانتظار في قاعة المحتجزين لحظة، يقولون له عد إلى صنعاء، رافقتك السلامة..
كل ذلك لأن المسئولين في القنصلية السوفيتية بصنعاء، يقدرون العادات والتقاليد اليمنية؟ ولهذا قد احتفظوا بالصورة الفوتغرافية "الخاصة" لديهم واكتفوا بوضع صورتي فقط على ورقة الفيزة، ولحسن حظي فقد التقاني من وراء حجب زجاجية.. الشاب اليمني المهذب منصور النخلاني، القنصل بسفارتنا بموسكو، وبفضل مساعيه الحميدة وجهوده المضنية وتعهداته لدى المسئولين في مطار موسكو.. أمكن لصاحبكم أن يدخل المدينة التي تنبض بالحياة، وتزخر بالإغراء..
لقد كانت رحلتي إلى موسكو شيقة ممتعة، ومتعبة منهكة في آن واحد..
شيقة لأنك تعيشها في مجتمع غامض، نادراً ما يفضي إلى الآخرين بحكاياه، وقضاياه، وأسراره.
الطب وهل ثمة أحلى للصحافي من غموض يقتفيه، وسر يستكشفه، وألغاز يبحث لها عن حلول.. ذلك من ناحية.. أما ما في الرحلة من مشقة.. فلانشغالي في دوامة الطب ومتابعة الفحوصات التي تزيد في طولها، وعرضها، والتوائاتها ما يفوق سور الصين.. فإذا اشتكى الإنسان ورماً في أصبع رجله.. بدأ الأطباء الروس في تشخيص العلة من شعر رأسه... وإذا أصيب رجل بعارض بسيط من صداع.. تأمل الطب إلى الأنسجة والخلايا –شأن الدول المتقدمة في علم الطب- ولكنهم يتعبون كثيراً، ويقدرون كل خطوة بحساب، وهم ينقصم الكرم الذي يتمتع به بعض أطبائنا في اليمن، بالنسبة للروشتات، وصرف العقاقير الطبية.. وهم لا يتعاملون بثقة فيما بينهم حول ما يتعلق بحياة الإنسان. فإذا لزم الأمر لنق مريض من مستشفى إلى آخر فإن الأخير لا يعتمد على فحوصات سابقة بل يعيد كل فحص على حدة للتأكد.. وهم عندما يجرون عملية معقدة لا يطلبون منك التوقيع على وثيقة إخلاء طرف مسبق للطبيب من مسئوليته عن نتائج العملية التي يجريها.. ذلك التقليد السيئ غير موجود في روسيا.. و الطب هنالك غير مكلف ولهذا فهو يغري الأصحاء على التمارض. لكن حباله طويلة كما سلفت وذلك هو المأخذ الوحيد.
على أن مهنة الطب في روسيا تبدو بالنسبة للطبيب الروسي.. مهنة فاضلة لأنها غير مربحة، فما يتقاضاه الطبيب الروسي يعادل مرتب موظف بسيط جداً في أي جهاز حكومي..
الثلج أواه ما أروع الثلج عندما تراه من الداخل وما أقساه لحظة مواجهته.. إنه يقيد حركتي، ويحد من قدرتي على إشباع رغبة المتابعة، والتأمل والاستطلاع.
فأنا لا أطيق الوقوف عند معلم من المعالم، ولا السعي حوالي مأثرة من المآثر.. خمس دقائق فقط هي الحد الأقصى لإمكانية المقاومة.. بعدها أحس بالثلج كأنه يد عربية قاسية تفرك بها أذن صبي أخرق عقاباً على خطأ فادح.
الروسي والروسي ودود جلد، وصبور عنيف، رفيقه "زنبيله" وأنت نادراً ما تجد رجلاً أو امرأة روسيين يعبران الشارع دون أن تلحظ في يد كل منهما زنبيلاً يتسع لخمسة كيلوا فما فوق.. والمواطن الروسي على استعداد دائم لشراء المنتجات التي تأتي ما بين حين وآخر مع اختلاف في الجودة والنضج باختلاف المصدر، على أن ثمة دولاً عربية يربطها مع السوفيت تعاون غذائي مثل مصر، وسوريا، وجنوب اليمن.
الحياة والحياة بالنسبة للمجتمع الروسي نمطية، أنه إنسان من فولاذ، والجديد في حياته نادر وطفيف، يبتسم برغم كل المعانة التي تكتنفه، وتدور أيام عمره كالرحى، أو كما تدور حلقة صغيرة في مكنة خياطة يستيقظ صباحاً في اتجاه موقع العمل، ويعود مساءاً وقد نال منه الإجهاد لينام وليفتح جفنيه على داعي العمل..
الروسي كان تبعاً ولا يزال، خلص من جحيم القيصر، وافاق على جنة البلاشقة وصولاً إلى فردوس البروليتاريا.
والاشتراكية في نهجها القديم "الكلاسيكي" تبني جانباً على حساب آخر.. صحيح أنها قلبت كثير من المفاهيم، والإيديولوجيات وتمكنت من بناء دولة عظمة، ولكنها بالمقابل خسرت الإنسان الروسي المتطلع ، الحالم، المبدع، واستبدلته بإنسان لا طموح له، غاية ما تصبوا إليه نفسه شقة متواضعة يقطنها مع زوجه، وبضعة روبلات يوفها كيما يحتفل بعيد ميلاده، أو يذهب إلى بار كل نصف عام يتعاطى نخب "الفودكا" وينفث دخان سيجارته وعند ذلك يصل مبلغ علمه عن السعادة.
الطموح لذلك ترى المواطن الروسي خلال هذه المرحلة واضعاً يده على قلبه متأملاً ، متابعاًن مندهشاً، محملقاً في الآتي في مستجدات "الكرملين" أن يرقب بحذر وصمت كل خطوة يخطوها الزعيم السوفياتي "جرباتشوف".. والروسي سيما منهم الطبقة العاملة يعلقون آمالاً –في هذا لرجل- ما كانت لتخطر لهم على بال، لقد بدأ الواحد منهم يفكر بشكل مغاير لتفكيره فيما قبل، وبهذا يكون المواطن الروسي قد بدأ في استعادة الحاسة المعطلة حاسة الطموح المشروع، والتطلع إلى تحسين مستواه من خلال تنظيفه العقل بشكل يعند عليه بشيء من النفع مادياً كان أم معنوياً.
السلام عليكم.. من موسكو (2)
المجالس (12) 30/6/1987م
جورباتشوف الذي حدثت عنه في الحلقة الأولى، هو أول شاب يتبوأ سدة الحكم، ويحمل شهادة عليا في القانون، ولكنه يواجه ركاماً من حطام العجزة، الذين كانوا يفكرون بعقلية المسنين.
وليس هذا فقط.. ما يواجهه الرجل الأول في روسيا، بل الأشد من ذلك موقفه من معارضيه في ذات القمة ممن أخذوا يستشعرون الخطر المحدق بهم، والمتمثل في الأفكار الجديدة التي تبناها الرئيس وتبعاً لذلك فالمجتمع الروسي يرصد كل جديد، غيره أنه لا يستطيع أن يقول رأياً فيما يدور حوله.
بعض مستجدات السياسة الجديدة لجورباتشوف، بعض بصماته تكاد تطرح نفسها بوضوح في الشارع السوفيتي، فهذا الطابور الطويل جديد في تاريخ روسيا الحديث.. إنه أطول طابور أسفرت عنه الإصلاحات الاجتماعية بالنسبة لحد من تعليق المجتمع بالمشروبات الكحولية.
ولجورباتشوف الحق فيما فعل، لقد نقل إليّ بعض الصحاب صورة للمجتمع قبل هذا الإجراء، لقد كاد العب الروسي أن يفقد وعيه ويخرج إلى الشارع تملأ، فالموظف يتعاطى "الفودكا" في عمله، والعامل في مصنعة.. تصوروا وضعاً ومجتمعاً في واقع كذلك –الذي شهدته روسيا..
أن من أسباب تدني الشعوب، وانقراض الحضارات الإنسانية وصول الإنسان إلى مرحلة البحث عن وسائل تجعله يهرب من نفسه، يهرب من مسئولياته.. يغيب عن الوعي، يلجأ إلى المخدرات والمسكنات بحثاً عن متعة وهمية.. وطمعاً في إجازة يومية مستمرة للعقل، ولمداولات التفكير بهموم اليوم، وآمال الغد؟..
ويحملني الحديث عن المجتمع الروسي قبل مرحلة جور باتشوف إلى الاستشهاد بالمجتمع "الصيني" قبل "ماوتي تونج" حيث الأفيون، والإنسان الصيني المشلول، لكن الثورة بتبنيها قديماً جديدة، وتخليصها للإنسان من عاهة التخدير، تمكنت من صنع دولة ذات كيان، وبناء شعب له وزنه.
إن جور باتشوف يعتزم إعادة النظر في كل ما حوله، وما قبله، ولكنه بحاجة إلى أن يفهمه الشعب فهماً جيداً.. ولعل زيارته لمناطق نائية لم يسبق لرئيس سوفيتي أن زارها، وتفقده للمصانع والمنشآت، ولقاءاته مع العمل والموظفين ببساطة..
وتلقائية يعكس رغبة زعيم روسيا في أن يثبت للجماهير بأن الشاب شيء آخر غير الشيخوخة، وأن حماس الشباب أفضل من خبرة المعملين.
لقد كانت روسيا فيما قبل أشبه حالاً بزعمائها، كهلة مثلهم، تعلوها نفس التجاعيد التي في وجوههم، وتمضي لأهدافها ولكن بعكاز أولئك الشيوخ وهي اليوم –ولكل ذلك- شيء آخر.
ولا أختلف مع القراء في أن التغيير لن يعطي مردوداته سريعاً، ولكني أذهب على الاعتقاد بأن روسيا بعد عشرة أعوام سوف تصير أشبه حالاً بمتحف كبير فيما تتحول أمريكا إلى قطعة كبيرة أثيرة في إحدى زوايا ذلك المتحف..
ففي أمريكا ثراء يتوزع بين الشركات، والمؤسسات ورؤوس الأموال، فيما الدولة فقيرة كل ما في قبضة يدها، وما تمكله هي "القطارات" وهي تعيش كشحات في طريق سالك، معتمدة على الضرائب، عكس "السوفيت" حيث الدولة تملك كل شيء.. ذهبها كثير.. ومعادنها وبترولها وغازها هائل ولا شلك.
وفي أمريكا، عصابات، ومافيا، ولوبيات، ومراكز ضغط، وأفراد يناطحون الدولة بقرون صغيرة.. أما في روسيا فإن كل شيء في يد الدولة الثروة والشعب، والسلاح.
وفي روسيا لا توجد غير طبقة واحدة تختلف عن الشعب بعض الشيء ممثلة باللجنة المركزية والوزراء، فمدنيتهم خاصة، ومستشفاهم خاص، ولهم طريق مخصص لسيارتهم لا يعبره أحد غيرهم..
وهذه الطبقة قد تذوب هي الأخرى في بوتقة التغيير الجورباتشوفي.
وفي أمريكا تناقضات لا يصدقها العقل.. أناس يكيلون الذهب "بالغرافات" وآخرين يتضورون جوعاً.
أما في روسيا فتختفي ظاهرة الجوع المدقع، والثراء الفاحش..
فيها هامش جميل للعيش في هذه الحياة الدنيا، في روسيا سعة للجائع، وفيها يجد الجميع ما يأكل، بصرف النظر عن نوع الوجيه.
روسيا والسلام:
وقضية السلام الروسية ليست مجردة، فلروسيا أظافر مدببة حادة تنمو بسرعة فائقة.. ومتى كنت في العاصمة السوفيتية يتوجب عليك أن ترفع رأسك إلى السماء لترى بأم عينيك تلك التجارب التي تعبر ما بين الفينة ولأخرى في سماء موسكو، كل منها في أثر الآخر.. مخلفاً ورائه ذيلاً دخانياً على امتداد سماء العاصمة، وتغيب عن ناظريك ولما يغيب بداية ذيلها.. "يقول السذج" أن هذه الصواريخ مهمتها معرفة درجة الحرارة وأحوال الطقس، لكني بسئوالي سائق التاكسي السوفيتي الأشيب تبينت هويتها الحربية.
تجارب الحرب:
وفي موسكو –والفضل يعود إلى "هتلر" وتجربة الروس في حربهم مع النازية فوق لينجراد –استعدادات غير عادية للحرب وللمقاومة بعكس أمريكا..
إن مدينة موسكو بطولها وعرضها وسعة مساحتها قادرة على أن تتحول في لحظة إلى مدن تحت الأرض.
مدينة من الخرسانات، والفولاذ،خذ مثلاً جامعة موسكو القابعة (5)كم مربع وأحدى السنابل السبع -هذه الجامعة- تشمل على أربعة طوابق تحت لأرض لا يسمح لأحدٍ بدخولها -خذ مثلاً- المتر وأنت إذا وقفت في الطابق الأول تحت الأرض ونظرت من أعلى السلم الكهربائي إلى رجل في أدنى السلم فإنك لا تستطيع تمييز الرجل من هو لطول المسافة حيث تبلغ أحياناً ما يزيد عن ثمانية وسبعين متراً.
و"المترو" غريب أمره.
تعجب لشعب يصل إلى هذا العمق ويمتد به في كل اتجاهات المرور في العاصمة ويجعله أحياناً أكثر عمقاً من نهر موسكو وأنت إلى هذه لا تدخل قبواً مظلماً –هنا يمكن العجب- بل ما يشبه متحفاً قائماً بذاته، بلاط من المرمر في القاعات أو على الجدران، تماثيل منحوتة على الواجهات، صور منقوشة لفتيات "دلوعات" في السطح و.. "مليون" من البشر يستخدمون المتر وكل أربع وعشرين ساعة.. قال أحدهم منبهراً.. ترى أين ذهبوا بالتراب الذي كان هنا..
ودخل المترو يستثمر لصالح حركات التحرر في العام..
وبخمسة "كبيكات" أي ما يعادل "15 فلساً بالعملة اليمنية يمكنك أن تطوف بالعاصمة ثلاثون مرة، مئات الكيلوا مترات.
وللروس –هكذا سمعت- فرق إرشادية تدل الناس على المخابئ السرية لحظة نشوب أو توقع حرب تستهدف روسيا.
ومع ذلك تجد عبارة السلام أغنية ينقطع ترديدها داخل الاتحاد السوفيتي، في الإذاعة في الصحف، في التلفاز، داخل المراقص، الجميع يتحدث عن السلام، ينشد السلام للبشرية، يحذر من الحرب، يعلن البغض لوسائل الدمار والفناء.
وللأمانة فإنهم عندما فصحن عن كرهم للفناء فلأن لديهم ما يستحق البقاء، ولديهم حيز مشع يدعو للتعلق بالحياة، خذ مثلاً أسعار المواد الغذائية، إنها لم تتغير منذ ما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً.
وهؤلاء الروس لا تجمعهم الضغائن، ولا يفرقهم الحقد، كل في فلكه يسبح، كل في الاتجاه المرسوم له يتجه، مرحون أكثر مما نتصور، يمضي أحدهم في العمر حتى الخمسين ولا يذكر أن دمعة عين عبرت أحداقه إلا في عزيز مات، أو أخ له رحل عن الحياة.
يصل أحدهم لخمسة عشر من العمر فإذا هو مكتمل النمو لو وضع أحد ساعديه على دفة ميزان، وجعلت "أنا" على الدفعة الأخرى لرجحت دفته.
وحواري، يتدافع الدم وراء البشرة البيضاء في وجوههن.
وأطفال تغمرهم السعادة وتكاد عناية الدولة بهم أن تصل حد إشراكهم ف يالحكم.
لا يعاقبون على شيء، أي شيء دون الأربع عشر خريفا.
كل ما يتعلق بهم استثنائياً أسعار اللعب، قيمة الملابس، التربية الترفيه..
أطفال يتشربون الرعاية منذ الصغر.
وهالك.. يستذكر أحدنا طفولته.. ما كان أتعسها.. ينهرونك إذا تكلمت.. ويعدونك بفرصة للكلام يوم العيد، فإذا جاء العيد خلفوا الوعد، وتقصدوا زجرك.
إن سألتهم منعوا وأن خالفتم قالو "قليل أدب".
يذكر الإنسان بأسى قاتل طفولة شفية، أمضاها بين الممنوع، والمحضور والمحروم، وما لا يفعله لصبية.. يذكر في طفولته أياماً أمضاها دويدراً يحصل على لبعض ما يريد بطرق غير مشروعة، لأن المشروع، لأن المشروع ممنوع!.
في روسيا يكاد الطفل أن يكون ملكا غير متوج ليس في أسرته وحسب، بل وفي العالم المحيط به، وهم يحثونه على أن يسأل في كل ما يريد معرفته.. إنهم يساعدون في تنمية مداركه.. ويعملون على تفتيق ملكته.
إن الاهتمام والعناية بالطفل يعني على المدى البعيد وجود مستقبل تعرف الدول الكبرى ما طعمه، ما لونه، ما كنهه.
إن الأطفال هم الوجه الحقيق للغد المشرق ولهذا ترى الكبار الذين يخرجون من العالم النامي إلى إحدى هذه الدول ويزورون حدائق الأطفال لا يحتفظون في ممارسة الألعاب المخصصة للأطفال، ذلك لإحساسهم بالحرمان وهو ينمو معهم حتى آخر يوم من العمر..
السلام عليكم.. من موسكو (3)
المجالس (13) 14/7/1987م
في الحلقة الثانية من سلسلة الانطباعات التي أكتبها عن موسكو تحدثت عن الطفل في الاتحاد السوفيتي، فهل من حديث عن المرأة.
ماذا عن المرأة إذن:
إن للمرأة السوفيتية شأن يستدعي التوق عنده للحظات.
.................................... وصادفني لحظة كتابتها مناسبتان، الأولى احتفل الاتحاد السوفيتي بيوم المرأة، وهو احتفال كبير لا ينحصر الاهتمام به على أجهزة الإعلام ولا يقف عند مجرد المهرجانات الشعبية وإهداء الزهور، ومنح العطل الرسمية، بل هو إلى ذلك مناسبة رسمية تجتمع فيها اللجنة المركزية والمكتب السياسي، وتقف امرأة عضو في اللجنة المركزية لتلقي كلمتها بحضور جورابتشوف.
أما المناسبة الثانية: فهي أنني في اليوم التالي والمناسبة ما تزال حاضرة، وفعاليتها مستمرة أقف أمام امرأة سوفيتية –طبعاً- في أتعس الأحوال، وجهها تكتض بالرضوض تحت عينيها اليمنى باتجاه الأنف آثار لكمة قوية لو كانت في امرأة من دولة نامية قتلتها.. وهي مع ذلك غير آبهة بما وقع فيها..
إنها تريد أن تئن، ولكنها في يوم المرأة، وهو يعني بالنسبة لها تجاهل الجروح، والإحساس بنفسية أخرى.. هذه المرأة حبذا لو أن الذين يبحثون في سلبيات الاتحاد السوفيتي وصولا ليها.. وعرفوا منها كيف تحيا المرأة في الاتحاد السفوفيتي، إذا لأغناهم ذلك عن عيوب السوفيت من خلال أفغانستان.
إنها سوفيتية من طشقند رغبت في دخول العاصمة السوفيتية ولأنها لم تنفذ رغبتها بالطرق الرسمية فقد اضطرت إلى دخول العاصمة بصورة غير قانونية، الأمر الذي يجعلها تعيش بنفسية قلق، ليس لها أي حماية، لا تستطيع اللجوء إلى الشرطة مهما حدث لها لأنها سوفيتية بلا حقوق.
وبما أن الحدث عن المرأة فهل يعني ذلك أن النساء في الاتحاد السوفيتي طاقة مهملة، أنت يمكنك التعرف على امرأة لكنك لا تستطيع أن تشغلها عن عملها، هي تتصرف بوقتها فقط، حريتها لا تتجاوز العمل وحين يحين الأوان لمغادرتها النزل إلى عملها فإن شيئاً لن يثنيها عن التخلي عن كل ارتباطاتها.
وفي قلب العاصمة ينتصب بناء ضخم علقت على واجهته لوحة ذهبية كبيرة أنه المجلس الأعلى للمرأة السوفيتية.
وفي روسيا يعتبون علينا لأننا في المجتمع الإسلامي يجيز للرجل الزواج بأكثر من امرأة، ويوم تحاورهم، وتجادلهم، وتقارن بين الحالة التي يعيبوننا بها، وبين ما هو حاصل لديهم حيث المرأة صديقة أكثر منها زوجة.
وحيث الرجل يتزوج واحدة بينما يصادق خمس فتيات أخرى، بينه وبين كل واحدة منهن أكثر مما بينه وبين زوجته.
وعندما تحدثهم عن الفارق بين الحالتين يقول لك أحدهم "برافلنة" ما يعني الموافقة غير الجادة..
ولست لأغمط حق المرأة السوفيتية في الحنان الصادق النزيه.. فمن خلال معرفتي لنساء سوفيتيات كن وزوجي شريكات مرض واستشفاء أدركت أي عاطفة إنسانية تمحضها المرأة السوفيتية لأخرى غريبة تعانى آلام المرض.
ويوم دخلت مريضتي غرفة العمليات كانت امرأة في الخمسين تبكي بشدة وتطلق العنان لأدمع حارة كالجمر إشفاقاً بامرأة غريبة ليس لها بتلك صلة قربى ولا مودة سابقة ولا قاسم مشترك "كاللغة"..
وفيما يتعلق بإخلاص المرأة لعملها أضيف إلى ما سبق اعترافي بأنها أكثر جدية وعطاء من الرجل.
في الكرملين:
لقد كان اسمي في أمريكا "الشرأبي" وهو ذاك يتحول في روسيا إلى "أخيمد" شيء لطيف –بالصدفة- أن تلتقي أمريكا وروسيا حول تغيير وتحريف الأسماء.. وشيء غير لطيف أن نكون في العالم العربي أمريكيين أكثر من أمريكا.. وكذلك بالنسبة لروسيا.. متشيعين حتى التعصب وبذور لا تتناسب مع التربتين أمريكا وروسيا، مناخها الخصب بلدانها التي تشتكي من الأشواط التي سبق وخلفتها مثل هذه البذور.
وذات يوم تسلمت دعوتين لدخول القاعة الكبرى في "الكرملين" لمشاهدة مسرحية صامتة بمناسبة يوم المرأة، كانت الدعوة الأولى باسمي، وثانية مفتوحة للمرافق الذي أختاره.
ولما كان الفقير إلى لغة يجيدها في موقف حرج، فقد كان لزاماً عليه أن يطرح على أصحابه من اليمنيين الدارسين هناك متلمساً من أحدهم التبرع ببعض الوقت ليحظر كمترجم، لكن هؤلاء الصحاب احتاروا في الأمر واستغربوا لهذه الدعوة، وأخذوا يفتحون لي أكثر من ملف للتحقيق الاستجواب، لقد كانت هذه الدعوة غريبة بالنسبة لهم فأحدهم يمضي في موسكو أربع إلى خمس سنوات دون أن يطأ بقدميه عتبة الكرملين.
وكان أخف هؤلاء المحققين من الصحاب شاب موفق في دراسته إلى أبعد الحدود..؟ "يدعى نجيب" وهذا النجيب جاء معي ولكنه لم يترجم لي كلمة واحدة.. بل حضر بلهفة ليرى الموقع الذي يصنع فيه القرار السوفيتي.
ولأني خرجت من المسرحة كما دخلتها "طسيس" فيكفي أن أصف لكم مشاهدتي للكرملين.. ممر أرضي تعبره ثم تبلغ البوابة الصغيرة الأولى ثم ممر آخر تحت الأرض ثم بوابة أخرى وتبلغ منها إلى مساحة عريضة ذات مداخل متعددة في إحداها ينتصب مدفعان صغيران، وعلى يمينك تربض القاعة الكبرى التي تتسع لأكثر من سبعة آلاف مدعو، وتنقسم إلى قاعة أساسية، وأخرى فوقية واثنتان جانبيتان، وهي ذات بهو واسع عملاق، ولكل صف ولكل مقعد رقم مضيء تهتدي إليه عن طريق المصباح الصغير، ومع القاعة مليئة، فإنك لا تسمع فيها لغواً ولا تحس بحركة، ولا ترى خيطاً من دخان..
أهي الحضارة؟. ذلك ما أعتقد.
المحاربون الروس:
بدون من ولا غطرسة ولا استثمار مواقف وبطولات سابقة، ترى المحارب الروسي الأشيب "المحال إلى التقاعد" يمنح نياشينه ورتبه ورصيده عطلة طويلة ويظهر أمامك بواباً في فندق أو حارساً لمبنى سكني.. ولكن من السهولة أن تجعله يستعيد هيئته الأولى.. كبرياء المدافع عن وطنه لمجرد أن تسأله عن النازية.. ودوره في الدفاع عن روسيا..
ويمكنك أخذ رأيه عن القائد "ستالين".. إنه يحدثك بتفاصيل دقيقة جداً.. ويشرح لك تاريخاً كالماً عن قائد مغامر أعطى الأولية لروسيا على حياته والروسيين.. ويقول لك هذا المحارب الأشيب بصراحة لا متناهية النازيون بلغوا العاصمة، وكانت هجماتهم قد وصلت إلى خطوط المترو..
وكما لو أنه لي لحظة الحديث معك يقود أول فرقة هجومية تسمعه يقول.. لكننا انتصرنا.. بعدها يضع الشمع الأحمر على فمه ويكتفي بجرعة الفودكا الأخيرة.. يحتسيها واقفاً، ولا نسى أن ينحني قليلاً عندما يعود على بوابة الفندق مستأنفاً عمله.
غريب في أهله:
مالنا وهذا المحارب، فبين صنعاء، وموسك آلاف الأميال.. لكنما ربما تسائل القارئ.. من للغريب في موسكو..؟
لقد كانت الغربة في موسكو بالنسبة لي حقيقية بمختلف المقاييس، لا وطن، ولا أهل ولا لغة اللغة.
لكن الله يعلم أين يضع رسالته.. وسبحانه الذي يقيض للغرباء البله.
وكما تكون حالات الاختلاف، التناقض بين الاشتراكية، والرأسمالية، بين أمريكا، وروسيا، كذلك تكون المسافة في العطاء بين التواجد الدبلوماسي في كل من سفارتينا في روسيا وأمريكا، في أمريكا لا أذكر أن أحداً أشعرني بأنه يمثل اليمن، وفي سفارتنا بواشنطن، استقبلتني فتاة لا تجيد العربية، وكنت لا أجيد الإنجليزية ولهذا صدتني عن الدخول وشفع لي لديها أحد اليمنيين فمنحتني موافقتها بالدخول على غير رضاء.
وفي أمريكا، لا أذكر غير الأستاذ باسندوة إلتقيته في نيويورك "المقر الرسمي للبعثة اليمنية" ونالتني منه حفاوته التي لم أجد فيها جديداً عن حفاوته التي نعهدها منه في صنعاء.
أما في روسيا فإن الوضع يختلف، أسلوب التعامل يكاد يكون مغايراً، تماماً لما لمسته في أمريكا.
تدخل المقر الرسمي لسفارتنا بموسكو، فتحس أنك في دارك، كأنما تضع قدمك في عتبة مطار الرحبة.
السفير.. شاعر يتعامل معك بأبوة خالصة.. واحترام جم.. والقنصل أخ حميم.
وثمة رجل يضع جهده، وخبرته، وإمكانياته في خدمتك.. ذلك هو المستشار عبد الله المخلافي.. إنه كتلة من مشاعر وطنية مخلصة.. ولكم أتمنى لهذا الإنسان أن ينال حقه من التكريم.. فيما لو أمكن لوزارة الخارجة عمل تقييم شامل لمبعوثيها، ورسلها بما يدفع إلى مضاعفة الجهد وارتقاء مستوى التمثيل الدبلوماسي..
والحديث عن سفارتنا بموسكو لا يعفي الشاعر السفير، عبده عثمان من العب المر لإبطائه في الرد على الأسئلة الصحفية التي وجهت إليه حول قضايا الفكر والأدب في بلادنا.
كما أن ثنائنا على مستوى الأداء في السفارة اليمنية بموسكو.. لا يعني إنكار وجود هنات تتمثل في سوء تصرف نادر من بعض الذين يعملون في السفارة.
السلام عليكم.. من موسكو (4)
المجالس (14) 28/7/1987م
في حلقتنا السابقة تطرقنا إلى موضوعات شتى ولكنا لم نتحدث عن الإعلام في دولة اشتراكية تولي هذا الجانب اهتماماً مميزاً، لما له من تأثير في توجيه الرأي العام.
الإعلام الروسي:
شأن الإعلام السوفيتي لا يختلف كثيراً عن بقية الأجهزة التي تسلل إليها الرئيس الجديد.. فمع أنه إعلام موجه 100% إلا أن تغييراً مهماً مهما قد طرأ مجدداً.
فالصحف الروسية بدأت في تخصيص حيز لا بأس لأراء المواطنين وانتقاداتهم وهو الأمر الذي رفع من توزيع "البرافد" بنسبة 15% فيما كان عليه سابقاً.
أما الشاشة السوفيتية فإنها هي الأخرى بدأت في بث برنامج أسبوعي تنقل خلاله حواراً مفتوحاً بين مجموعة من الصحفيين الأمريكيين في روسيا، ومجموعة أخرى من صحفي السوفييت في أمريكا..
وترى كل فريق يواجه الآخر عبر البث المباشر بين الشاشتين الروسية والأمريكية، باتهامات ونقاط الضعف التي التقطها على الآخر.
ومن عجب أن الشاشة السوفيتية تقدم للمشاهدين –في آخر المطاف- كل الفقرات التي قام التلفزيون الأمريكي بحذفها، ومنع بثها على مشاهديه.
روسيا تعمل ذلك لتعيب مزاعم الديمقراطية الأمريكية.
والإعلام الروسي مركز يتبع أقصر الطرق نفاذاً إلى عقلية المتلقي، والنشرة الإخبارية، برغم ما فيها من تغطية لكثير من أحداث العالم لا تستغرق من الوقت نصف ما يستغرقه التلفزيون اليمني.
وهم عادة ما يقدمون قضايا الإنتاج على أخبارهم السياسية.
والشاشة السوفيتية تولي في تغطيتها لزيارات الأمين العام اهتماماً استثنائياً، خصوصاً وأن جروباتشوف يقوم بتفقد بعض مواقع الإنتاج العديدة، ويزور مناطق نائية لم يسبق لرئيس قبله زيارته، ويلتقي بالمواطنين في بساطة وعفوية.
ويتكون موكب الأمين العام ن ثلاث عشر إلى 20 سيارة مرسديس من النوع الضخم المخصص للجنة المركزية وأعضاء المكتب السياسي والوزراء.. وهذا النوع من المرسديس يحضر على المواطنين العاديين ويمنع الاتجار به إنه من حق الخيار.
الشيء الجميل في التلفزيون السوفيتي هو العناية بالجانب الإنساني في التعامل الإعلامي مع المعوقين والصم والبكم، هنا في موسكو يجد الخرص هامشاً يخفف من وطأة الألم.
ولأن مثل هذه الجوانب تحتاج إلى دقة في الرصد، والاستقراء، والتحليل فإني أكبح جماح قلمي وبحسبي أن أتوقف عند هذا الحد.
وإذا كان ثمة ما يلفت النظر فحديثنا عن اليهود السوفيت، فهم لا يشكلون أكبر تجمع سلالي في روسيا، وهم مسيطرون على جهاز الإعلام الروسي.. ولهم مواقع ومعرفة تمكنهم أحياناً من شن حملات عنيفة ضد الإسلام كعقيدة وضد القومية العربية كانتماء.
ولليهود السوفييت تواجد آخر في مجالات متعددة أبرزها الطب.
المهم أنهم طراز آخر يختلف عن بقية الشرائح اليهودية في العالم.
إن لليهود السوفيت متسويات علمية رفيعة، وفي اعتقادي أن تهجير خمسة منهم إلى إسرائيل أشد خطورة على العرب من صفقة "الفلاشاء" كاملة.
الفارق مهول بين أن تستقبل إسرائيل ألف يهودي جائع لا يملكون غير بطونهم الخاوية وأفواههم المشروخة، وبين أن تحتضن خمسة يهود سوفتيين كل منهم يحمل عقلاً، ومعرفة ، وعلماء..!
الاستخبارات.. حروب مؤدبة
ليس في الدول العظمى عواطف لوجه الله، وليس بين أمريكا، وروسيا خلاف حول مبادئ في حد ذاتها، كل ما بينهما، مصالح يتقاسمانها فإذا أحس أحدهما بأنه غمط في حصته نشبت حرب هنا، أو انقلاب هناك.
والحروب التي تنشب بين المعسكرين لا تحرق شجرة سرو في أمريكا، ولا تنصيب نصباً تذكارياً في روسيا بشظية.
وبين المعسكرين حروب داخلية مؤدبة، مهذبة كالحرة المصونة التي مهما بلغ استيائيها من بعلها فلن يكون في ذلك يدفعها إلى الخيانة!!
ومن هذه الحروب وجود تنظيم شوعي في أمريكا.. وجواسيس يعملون لصالح أمريكا داخل المعسكر الاشتراكي.
وبينهما اتهامات عادة ما تعالج بهدوء، أو تعكس نفسها في صراع المعسكرين داخل قرى العالم الثالث.
ومن المضحك الغريب، أن البيت الأبيض من جهة، والكرملين من ناحية أخرى عملان كوسيطين خيرين لإصلاح ما تفسده "السي أي أي" و"الكي جي بي".
الفارق الاستخباراتي
على أن الفارق بين جهازي الاستخبارات في الدولتين، أن الكي جي بي تتسلل إلى العالم من وراء عناوين الكتب، وتتسلل إلى العالم من خلال العقل، فيما "السي أي أي" تغزو الشعوب عبر الجيوب، ورزم الدولارات، وصناعة حقائب دبلوماسية داخل أنظمة الحكم في العالم الثالث.
السوفييت ليسوا غرباً
لروسيا كل الحق وليس بعضه في أن تتنازل عن بعض مواقفها مع العرب، ولروسيا الحق في العدول عن سياستها بصدد القضايا العربية.
روسيا.. شأنها شأن أمريكا كلاهما لن يكون مع العرب أكثر من العرب.
في أمريكا يستطيع أحد العاطلين أن يوفر قيمة لافتة مكتوب عليها بالخط العريض "يسقط ريجان" ويرفها أمام البيت الأبيض دون أن يعترضه أحد، أما في السوفييت فإن ذلك غير ممكن على الإطلاق.
لكن القاسم المشترك في الديمقراطية بين المعسكرين هو ما عبرت عنه إحدى الزميلات بقولها:
إن للفرد في أمريكا أن يكون رأسمالياً حتى التطرف، وللسوفيتي أن يكون ماركساً حتى التطرف.
وعلى ذكر الماركسية اللينينية هل يمكنني التأكيد على قوة تأثيرها وفعاليتها ونضجها مقابل أن يكون لي وجهة نظر تصل حد الإنكار "للأممية" ومدى التناقض بين مفهومنا لها والمفهوم الروسي.
في التشريع الإسلامي يستطيع جورباتشوف أن يحصل على حق المواطنة الكاملة في أرض إسلامية فقط أن يعلن إسلامه وينطق بالشهادتين، ويلتزم بأنماط السلوك المطلوب منه كمسلم ليكون له بلك ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وبعدها لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأسود على أبي إلا بالتقوى.
أما الأممية الاشتراكية فإن عربياً كان أو إفريقياً –مهما بلغ تبعة بالماركسية، ومهما قدم من خدمات مخلصة، ومهما رفع على جلده من شارات السياط، وهما تكن تضحياته من أجل الماركسية، وحتى لو جاء في وصيته "ماركس" أو "انجلز" باعتباره خلفاً لهما فإن هذا الماركسي لا يستطيع على الإطلاق أن يحصل على الجنسية السوفيتية ولا يمكن تحت أي من الظروف أن يكون قريباً للمواطنين السوفياتي في الحقوق والواجبات.
وأنا لا أقصد بذلك قضية الزعماء الذين يسقطون من عروشهم ويلفضون خارج أوطانهم، في ما تتنكر لهم الأنظمة التي كانوا يمحضونها كل الولاء ويعملون كسدنة لها داخل بلدانهم مثل شاه إيران وجعفر نميري.. فللدول الكبرى في هذه الحالات مبررات ومصوغات ومصالح عليا تفوق في أهميتها مسألة الوفاء لضلف عاطل أو ذيل محروق، ما قصدت التعرض له بالنسبة للأمية في روسيا هو حال المفكرين، وقادة حركة التحرر الذي تقبل بهم روسيا، ويضلون فيها مدى العمر فإذا وافتهم المنية في مهجرهم الروسي ردت جثتهم إلى أوطانهم.
إن أحد هؤلاء لا يمكنه ولا عن طريق لينين الحصول على جواز سفر روسي.
وهؤلاء كيف يمكن قولبة أو شقلبة المعايير الروسية للأممية بحيث تنطبق عليهم.
ولعلي لا أنس أنني طرقت هذا الأمر على أحد الأخوة المتحمسين للماركسية، فكان مضمون دفوعاتها أن المحرومين والكادحين والبروليتاريا والأمميين كثير في هذا العالم، وروسيا غير قادرة على استيعابهم، إضافة إلى أن مهمة الماركسي المفكر أن يظل داخل بلده "في غيابت الجب" وليس إلى الهرب إلى روسيا.
ترى.. أيكون هذا الرد مقنعاً.. بالنسبة لي فإني عربي بطبيعة الحال.. والعرب قوم يجيدون اللاءات، ولهذا أقول لا.. "ومرغم أخاك لا بطل".
السلام عليكم.. من موسكو (5)
المجالس (15) 18/8/1987م
البيروقراطية:
لروسيا أنظمة وقوانين داخلية كالطلاسم لا يفهمها أحد.
وروسيا تتعامى عن قصد أو من غير قصد في فهم دواعي الانتماء لعصر السرعة.
إن من الصعوبة بمكان أن يستجيب الروس لطلب سائح يرغب في تغيير سكنه من طابق لآخر أو من شقة لأخرى إلا بشق الأنفس، إنها بيرواقراطية مملة مزدوجة.
ما رأيك.. كيف يكون حال أم تضع حملها فتحو البيروقراطية بينها وفلذة كبدها لأسابيع ولا يكون لها الحق في أن تسمع ثغائه، ولا أن تحسب بنض قلبه، ولا أن تتأمل إلى قسمات وجهه أيشبهها أم أباه.
إن تعقيد البيروقراطية هناك تجعل من روسيا دولة تقليدية لا تختلف في كثير عن دول العالم الثالث.
جهاد مع الطبيعة:
الروسيون يتمتعون بالطبية ويعانون منها.. يتزحلقون في الشتاء، وينعمون بالبساط الأخضر السندسي في الصيف.
ولكن الطبيعة تكلفهم جهوداً وطاقات وإمكانات كبيرة لمواجهة أعبائها.
فعندما يبدأ الشتاء ويأخذ كل شيء شكله الأبيض، تبدأ بالنسبة لهم حركة المقاومة.. هذه سيارات من نوع خاص تصب الملح في الشوارع والممرات لتمنع الثلج من التزجج الذي تتعذر معه حركة السير.. وخلال الشتاء تتساقط أوراق الشجر لتشكل طبقة هائلة من القمامة، والأزاهير الصغيرة في الحدائق تتعرض للذبول، وتنتهي عن بكرة أبيها.
والبشرة البيضاء في وجوه العذارى يعلوها احمرار فإن نتيجة البرد القارس.. والكهرباء تتضاعف من طاقاتها لإمداد الناس بالدفء غبر أنابيب الماء الساخن.
ويوم يرحل الشتاء ترى العمال السوفيات يعلون سطوح المنازل أو يقفون في أرصفة الشوارع ليرفعوا طبقة الثلج التي تشبه جلد الخنزير.. وإلى ها وذاك تجد هؤلاء العمال منشغلين حتى الإعياء بغسل الشوارع، وتدليك الواجهات، وجدران الأنفاق.. إنهم يغسلونها بالماء الحار والصابون.
ولما يقبل الصيف بمرحة وشجونه تبدأ هموم أولئك العمال في زراعة وبذور الأزهار من جديد، وتتخلى الأشجار السامقة عن وشاح الحزن فتخضوضر معلنة عن دورة أخرى للحياة والتعايش مع لون آخر من ألوان الطبيعة.
وفي الأيام الأوائل لفصل الصيف يعلن عن الاحتفال بعيد ميلاد لينين ومعنى ذلك أن يمنح العمال السوفيت –في كل مكان وفي أي حرة أو موقع عمل- عطلة يوم واحد، حيث يتجه كل فرد من هؤلاء إلى الموقع المخصص له ليقوم بتنظيفه، وتمشيطه من الحشائش اليابسة، وبقايا أوراق الشجيرات التي تساقطت إبان الشتاء، حيث يغدو كل شيء كما ينبغي له أن يكون.
جميل في الشعب الروسي أن أفراده يقومون بأداء الأعمال الموكلة إليهم برقابة ذاتية، ودون وجود هيئة أو جهاز أو وزارة تقوم بعملية التأكد من إخلاص الناس وحسن نواياهام تجاه بلادهم.
جميل في أي شعب أن يكون دافعه في الإخلاص لعمله حبه لوطنه، وليس خوفه من السلطات.
جميل في هذا الشعب، معرفة كل واحد لدوره، فهو لا يحتاج لأحد يوقضه ولا إلى سكرتيرة تذكره بالتزاماته، ولا ينتظر من الدولة أن تعيد جولة الواجبات المنوطة به.
الشعب الروسي يعمل كل ذلك بقناعة مطلقة، دون أن يكفر بالكرملين ودون أن تسيبه لوثة الطموح إلى عضوية الحزب الشيوعي السوفياتي.
وسيبيريا –مفتوحة لكل روسي لا يحس بأن لوطنه عملية حقاً- لا يعفيه منه إلا الموت، وهذه الجوانب تحثنا على البحث في سر عظمة الدول العظمى..؟
لماذا الدول العظمى:
أن دولة نامية ذات رقعة جغرافية صغيرة لو أحسنت توجه نشئها واهتمت ببنائهم وغرس قيم الولاء الوطني الصادق، ومبادئ التربية بما فيها قيمة حب للعمل والإنتاج، وأولت المواهب والنوابغ حقهم من الرعاية والعناية حتى تستوي على ................ وساوت بين الفقير والغني في تطبيق القوانين ............... منها والعادل.. آنذاك ولا شك أن ستتحول من دولة صغيرة نامية إلى أخرى ذات كيان عظيم.
إن من بين العوائق التي تحول أحلام الدول النامية في تجاوز واقعها والأخذ بأسباب التطور والازدهار.. أن تتحول الدولة إلى عصابة محترفة ويصبح الشعب في حكم الرعاع.
إن نمو الدولة وتطورها مستحيل ما لم يتزامن مع عقلية جادة ترقى إلى مستوى هموم وطموح الأوطان، ومن البلية في الدول النامية أن تكون الحاجة إلى التطور والرقي مقترنة بوسائل منافية للغاية التي تنشدها هذه الشعوب.
وأتساءل.. هل في الدول النامية مواطن أو سياسي أو قائد أو زعم معارض أو مصلح اجتماعي لا يسعى إلى تطور مجتمع تماماً كما هو الحال بالنسبة لأي مواطن في دولة عظمى.
والخلاف بيننا أننا في الدول النامية نسعى إلى التغيير عن طريق الانقلابات والتآمر، وبواسطة الدسائس المصدرة، وعن طريق التأثر بأبحاث خارجية تخضع لولاءات غير وطنية.. ومصادرة الرأي الآخر، وتكميم الأفواه، وترويض الناس على تقبل الهوان والمذلة (وتجبير) الولاء الوطني الكبير إلى ولاءات شخصية.
إن الدولة المحترمة تحدد أهدافها بوضوح، وتختار وسائلها وأدواتها بنفس الوضوح أيضاً، وتعمل في إطار الشعب، فيما الشعب لا يخرج عنها لما تحد من سيادة واستقلال وطنيين.
السلام عليكم.. من موسكو (6)
المجالس (17) 13/10/1987م
الفقير إلى لغة يجيدها حاول تهجي بعض الكلمات الروسية فاستعصى عليه إجادتها.
إن من الصعوبة تطويع اللسان إجادة بعض الكلمات الروسية.. ذلك لأن بعض الحروف العربية تكاد تكون ممنوعة من الصرف في الأذن الرسوية.
إن على الشفائف أن تتكيف مع مخارج الحروف باللغة السوفيتية، وإلا فلا أحد يفهمك.
السوق السوداء:
قالت العرب قديماً.. إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.. وعلى العكس من ذلك يكون الحال بالنسبة للروبل السوفيتي.
إن المائة دولار لا تساوي غير (95) روبلا بالسعر الرسمي.. ولكن قيمة المئة دولار في السوق السوداء بموسكو تساوي (425) روبلا أي أكثر من ثلاثة أضعاف السعر المحدد من قبل الدوائر المالية السوفيتية.
وليس في روسيا أجنبي واحد يتعامل مع البنك، ولعل من الأسباب التي تجعل من روسيا منتجعاً للسياح، وتجعل تكاليف الحياة مقبولة، هو وجود سوق سوداء، أما إذا تعامل السائح مع الفنادق والأسواق بسعر البنك فإن تكاليف المعيشة في روسيا لن تكون شديدة الاختلاف عنها في الغرب.
وكانت الحكومة الروسية قبل فترة ترغب في تطوير نظام جديد يلزم العاملين في السلك الدبلوماسي بضرورة التعامل بالدولار، لكنها سرعان ما عدلت عن تنفيذ نظامها الجديد حيث نمى إلى الأجهزة الروسية رغبة الكثيرين من الدبلوماسيين في العودة إلى بلدانهم، لأن مرتباتهم لن تفي بتكاليف المعيشة، ونفقات الإقامة، طالما والتعامل بالدولار.
ومن الواضح أن روسيا بكل ما تملك من هيبة، ومقدرة عاجزة عن القضاء على السوق السوداء نتيجة تحجرها في الإبقاء على سياستها في تحديد قيمة الروبل.. ولكن السؤال الذي يفترض طرحه..
هل تقف أمريكا وراء حركة السوق السوداء في روسيا..؟
ثم .. هل السوق السوداء في روسيا حركة تجارية بحتة، أم قضية سياسية ذات أبعاد استخباراتية غربية؟
الثراء الدبلوماسي:
روسيا البلد الاشتراكي الذي تقوم سياسته على محاربة الثراء الشخصي، و الرأسمالية العالمية يكاد يكون أول مصدر للإثراء.
إن أغلب رجال السلك الدبلوماسي في روسيا هم في الحقيقة تجار حقيبة أكثر منهم حملة حقائق دبلوماسية.
إن من السهولة أن يتحول دبلوماسي غربي أو شرقي في روسيا إلى مليونير في فترة وجيزة.. إن تهريب الألماس، والمجوهرات، واللؤلؤ والمجان من روسيا إلى الأسواق الغربية عمل سهل غير مكلف، خصوصاً عندما تتحول الدبلوماسية إلى وسيلة تهريب.
وجاهة المارلبورو:
ليس في روسيا ما يثير اهتمام المواطن الروسي ويجعل من السائح رجلاً مهاباً في عيون الروس أكثر من علب التبغ الخارجي. فمجرد أن تبرز علبة الروثمان أو الكمران على الطربيزة المحجوزة لك بمجرد ذلك يتطلع إليك المواطن الروسي.
وعذر الروسي معه، عندما يتعلق بالصناعات الخارجية، لأن الصناعات المحلية لم تتطور، خصوصاً ما يتعلق بالكماليات، كالملابس، وأدوات التجميل.
المواصلات:
ما أيسر المواصلات في موسكو، وما أكثر وسائل النقل الجماعي، أنه يتعين عليك دفع خمسة كبيات مقابل الوصول إلى أقصى العاصمة حتى أدناها، وأنت غير ملزم بالدفع فالقضية أمانة، وليس ثمة من يسألك هل رميت القطعة النحاسية في الصندوق المثبت على جدار وسيلة النقل أم لم ترمها.. إنك في كلا الحالتين حر، ولن يلحق بك أي ضرر عدى نظرات استغراب شزراً يوقعها الراكب الروسي عليك إذا لاحظك لم تدفع الكبيكات الخمسة.
على أن أغلب وسائل النقل الجماعي تعمل بواسطة التيار الكهربائي، وتمضي في شوارع موسكو على خطوط حديدية صغيرة تثبت في الشارع مع أسلاك كهربائية في الجو..
ومن وسائل المواصلات في روسيا هناك –التزام، والمترو، وسيارات الأجرة، والباص العادي و.. و... الخ.
ظواهر غريبة:
إلى جانب أن البيروقراطية تعد مرضاً يعاني منه زوار موسكو، فإن ما هو أخط رمن هذا العرض مضاعفاته، وتأثيرات ذلك على المجتمع الروسي.. فالرشوة.. هذا الداء الخبيث الذي يتغلغل في أوساط الشعب الروسي لولا البيروقاطية، إنها تدفع الناس إلى البحث عن حلول قريبة عادة ما يتوصل إليها الزائر عن طريق الكماليات الخارجية.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن الأجهزة الرقابية في روسيا دور مؤثر في الوسط الاجتماعي، ولو كان ذلك حقاً، ما رأيت سائق التاكسي الأجرة يتوقف عند راكب إضافي فيما يكون المشوار على حسابك ليتقاضى من هذا الراكب نفس المبلغ الذي أخذه منك، فيورد نصف الذي حصل عليه لجيبه الخاص، والنصف الآخر لخزينة الدولة.
وهذه الظاهرة على ما فيها من ضحالة في الاستشهاد إلا أنها تدلل على أمر ذي شأن في علاقة الدولة بموظفيها، ومدى التزامهم بالنظام السائد، وجنوحهم إلى التحايل بهدف الحصول على بعض المال بطرق غير قانونية.
التعليقات (0)