تقسم الحراسة الليلية إلي ثلاث نوبات الأولي (برنجي).. والثانية (شنجي).. والثالثة (كنجي).. ولا أدري من أين جاءت هذه الأسماء ولم ألتفت للسؤال عن أصلها ولكني اكتفيت بمعرفة معناها.. كان علينا أن نتجه إلي ضابط عظيم الموقع لنتسلم منه كلمة السر وهي جواز المرور لأي فرد ليلا أو نهارا ولاسيما إن كان من وحدة عسكرية أخري وغير معروف لدي أفراد الدورية وكلمة السر تتغير كل يوم لتقليل فرصة تسربها للعدو ولا بد أن يعرفها أي فرد يتحرك بالموقع وإلا يتعرض لما لا تحمد عقباه. ومن المعلوم أن كلمة السر تحترم إلي أبعد الحدود لأن المنطقة كانت معرضة لتسلل العدو سواء عن طريق الإنزال بالهليوكوبتر خلف جبال عتاقة أو عن طريق خليج أو قناة السويس وهناك قاعدة في القوات المسلحة المصرية تقول إذا كان احتمال الحدث واحدا في المليون يؤخذ علي محمل الجد كأنه سيقع لا محالة وهذه قاعدة ذهبية لكل من أراد النصر والنجاة من غدر العدو....كان علينا السير من الكيلو 104 حتي الكيلو 109 ثم العودة قبل أول ضوء. مجال الدورية كان يشمل المرور علي ورشة المركبات وورشة المدرعات ثم المستشفي الميداني ثم العودة بمحاذاة الطريق الصحراوي وبعيدا عنه بمائة متر تقريبا. كانت المواقع العسكرية في هذه المنطقة غرب قناة السويس محصورة بين سلسلة جبال عتاقة والطريق الصحراوي عدا بعض القوات الخاصة أعلي الجبل وفي كهوفه وفوق قممه لغرض الاستطلاع لأي تسلل من قبل العدو حيث يراقبون علي مدار الساعة خليج السويس والقناة ومدخل ميناء السويس عند منطقة تسمي حوض الدرس وهي منطقة منبسطة يغطيها المد كل ليلة وينحسر في الصباح ليكشف مساحة تعادل أكثر من عشرين ملعبا للكرة... كان في وسط الجبل بين سفحه وقمته سرية الجمال التي تستخدم الإبل في عملها لسببين: الأول التخفي عن أعين العدو بالاختلاط بقبائل البدو في المنطقة كنوع من التمويه... السبب الثاني أنها كانت تنقل بعض المؤن والذخائر إلي مناطق يستحيل الوصول إليها بأي طريقة أخري ولو بالهليوكوبتر لوعورة الجبال الشديدة وكثرة النتوءات أعلي الجبل ومعظم القوات فيها كانت نقاط استطلاع ومدفعية متوسطة للاشتباك مع العدو لتعطيله ريثما يتم التعامل معه بالقوات والأسلحة المناسبة لحجم الهجوم طبقا للخطط المعدة سابقا وكما يمليه وضع الهجوم المحتمل. بعد أن أخذ كل منا سلاحه الخفيف وبصحبة أفراد الدورية المسلحين برشاشات آلية ومعنا أفراد من موقع مجاور مشارك بدأنا السير في طريق الدورية المخطط. كان الظلام حالكا وتلقينا الأوامر المعتادة لدي قدامي أفراد الدورية بأنه لا يسمح بالسير إلا بالبيادة (الحذاء العسكري) ذات الرقبه لتجنب لدغة (الطريشة) وعرفنا فيما بعد أن الطريشة حية قصيرة ذات شحمتين أعلي رأسها وهي لا تري ولكن لديها حاسة شم قوية ويمكنها القفز عاليا فتلدغ شخصا يركب جملا وليس لعضتها ترياق كما لا يسمح بإضاءة أي شيء ولو حتي سيجارة.... وحين سمعت ذلك تذكرت أني أشعلت صحيفة حين توجهت أنا والضابط سيف في أول وصولنا إلي تلك المنطقة ليرانا أحدهم... فحمدت الله أن لم يلتفت إلينا أحد في تلك المرة. وإن كان الوقت لم يكن متأخرا مثلما نحن في آخر تلك الليلة. بعد مسيرة نصف ساعة تقريبا رأينا كلبا يقف أمامنا وإلي اليسار قليلا فسارع الضابط بشير المرافق من الموقع المجاور( سرية الشحن) الذي أشرت إليه قبل قليل قائلا: لا تنظروا إليه ولا يبدي أحدكم أي بادرة عداء فهذا ذئب وليس كلبا. وتابعوا السير دون أي خوف وكونوا فقط علي حذر... الحق أني في البداية لم أصدقه تماما ولكن حين وصلنا بمحاذاة ذلك الوحش ورأيت أنه فعلا يشبه الكلب لكنه يتحدي وجودنا ولا يبدي أي خوف بل إن التحدي واضح في نظرته,, تقيدنا بالنصيحة وتابعنا السير... لم يكن هناك بعد ذلك شيئ يعكر تلك الليلة ولم يبق إلا أن نتابع الدورية حتي نهايتها ثم العودة وتسليم السلاح والخلود إلي نوم عميق حتي صباح اليوم الثاني ولنواصل ذكريات أحداث ابتعدت عنا سبعة وثلاثين عاما في آخر الأحداث العظيمة التي مرت بمصر.... إن شاء الله في حلقتين قادمتين نكمل ما قبل حرب 73 ثم نصل بعدها إلي الحدث الكبير ... إلي اللقاء
التعليقات (0)