أعترف أنه لم يكن بمقدوري أن أُغالب ضحكة ساخرة فور تلقي نبأ الإعلان عن انتخابات سابقة لأوانها، على إثر دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، فالخبر بحد ذاته شكل، من دون أدنى شك، صدمة غير متوقعة لمن اختفى عن مجال الرؤية متوهما أن مدة الصلاحيات العابرة ستمتد لسنين طويلة.
والواقع أن الكثير ممن تلقوا الصدمات تلو الاخرى منذ أن اعتلى اصحاب الضمائر المنفصلة عن الإرادة الشعبية، كرسي السلطة، سيشاطروننا الفرحة نفسها و يتنفسوا الصعداء فور شيوع الخبر، وهي مناسبة لا أريد أن أفوتها دون أن أقدم التعازي الخالصة لكل من له قريب أو حبيب ابتُلي بمصيبة الموت السياسي، إن لله وإن إليه راجعون.
وفي ذات الوقت، فإني أبارك لمن اكتوى بنار الخذلان، ووجد نفسه يغرد خارج سرب فضل أن يظل فوق شجرة "اركانة"، بعد ان اقتلع الغرور جذورها من حقل الشارع المحلي، قدوم هذا اليوم المبارك، جعله الله فاتحة خير وبركة على كل الذين انعم الله عليهم بنعمة لا حيث تأبى الأغلبية الواهمة إلا أن تُرَدِد نعمُ.
هذا دون أنن أنسى توجيه الشكر لكل من ساهم، من قريب أو بعيد، في حركة 20 فبراير، فقد شكلت بالفعل التيار الوطني الحر الذي كان وراء أحداث تاريخية استثنائية و رمى بحجارة تغيير مؤثرة في مياه السياسة المغربية الآسنة.
وأمام هذا الجديد الصادم، من الطبيعي أن يخرج البعض من غاره مضطرا لا بطلا، بعد هروب طويل، في مسعى لتوفير التغطية التي تمكنه من بعث رسائل الاستجداء والاستعطاف السخيفة.
ولهذا لم يكن مفاجئا أن يَعمد الرئيس ومن والاه من فريق "اركانة" المنهار، اثناء دورة المجلس الاخيرة، إلى اللعب على وتر الاحتجاج من جديد، في محاولة يائسة لإلهاء الرأي العام من خلال إقحام كرة الازمة الداخلية، التي تهدد أغلبيته، بداخل مربع المكتب الوطني للماء الصالح للشرب.
يعتقدون أن مسرحية بهذا السيناريو التافه قادرة على جلب انتباهنا، وجعلنا نصدق الرئيس ونائبه الثاني، الذي ما فتئ يروج لخطابه سرا وجهرا، مقابل منحه صلاحيات النيابة الاولى، التي لم يستطع الحصول عليها ديمقراطيا وارتمى عليها "بلطجيا"، و نصفق لكرة أريد لها أن تتدحرج بعيدا عن مسؤولياتهم.
على هؤلاء المبتدئين في السياسة أن يدركوا أنهم كانوا يلعبون أمام خصم عنيد و أنهم، اليوم، في شرود سياسي واضح، لن تجدي فيه كل الاهداف نفعا، مهما كانت براعتها، وأن أول رد فعل تلقوه ازاء خطوتهم غير المحسوبة، هو إطلاق صفارة إنذار وتحذير كشفت حقيقة الاكاذيب المرة التي تحاول بعض الالسنة الطَيِعة يائسة أن تُجَرِعها للرأي للعام بقضية ماء غير صالح للشرب أصلا.
إن محاولة تحريك المياه المحلية وتعكيرها من أجل اصطياد رضا الرأي العام لم يعد أمرا ممكنا، فلقد اتضح بما لا يدع مجال للشك أنها أصبحت عصية على التحرك، خلف أي تيار كان، حتى وإن كان تيار 20 فبراير القوي وطنيا، وذلك بعد تجميدها بكل تلك الخطط الدنيئة والماكرة التي رُسمت بداخل مقر البلدية وأسهمت بتدمير جسر الثقة تدميرا شاملا.
وإذا كان مجرد تحريك المياه أصبح صعبا للغاية، فالرهان على صنع موجة احتجاج جديدة والركوب عليها "للخروج" من أزمة انعدام الثقة، التي زرعتها "اركانة" في قلوب المواطنين، فهو الأمر المستحيل!
لقد كان على الرئيس المخلوع أن يبادر إلى التنقل بسيارة "الكات كات" أو "سكودا"، التي اقتناها بمجرد انتخابه رئيسا، إلى مكتب المدير العام للمكتب الوطني للماء الصالح للشرب ومطالبته بتوفير الإمكانيات اللازمة، التي من شأنها أن توفر على التقنيين العاملين بالمصلحة اللجوء إلى الخطوات الترقيعية كمزج مياه السد بمياه نجهل منبعها، و التي حولت الماء الى مادة غير صالحة للشرب و سببت حالات إسهال حادة في صفوف المواطنين، عوض الجلوس و التباكي أمام حائط وضعه الهش والكارثي الذي يتحمل، هو وحده، مسؤولية انهياره الحتمي.
والتقصير لا يقف عند حدود قضية الماء فقط، بل يتعداه الى قضايا أكثر أهمية وأولوية، فأوضاع المستشفى المتردية، التي ساهمت بشكل كبير في إشعال فتيل الاحتجاجات بالمنطقة، لم تدفع المسؤولين، بما فيهم، رئيس المجلس البلدي، إلى التحرك وإنقاذه من حالة الخطر الذي يعانيه من غياب تام للاختصاصات الطبية، وهل يعلم من يهمه الأمر أن جهاز "الراديو" معطل منذ مدة، مع العلم أن فريقا وطنيا للحماية من الاشعة سبق له أن قام بزيارة مراقبة ، يوم 30 مارس 2007 و خرج بتقرير مفصل حول الجهاز و رصده لثلاث ملاحظات خطيرة تهدد صحة المواطن!
هل من الضروري أن نُذكر السيد الرئيس أنه شخصية عمومية، ينبغي عليه أن يوفر الدموع الى غاية محطة الانتخابات المقبلة، لها صلاحياتها القانونية تُجبره على التوجه إلى حيث توجد وزيرة الصحة، ياسمينة بادو، التي لم تلتفت إلى مستشفى يئن منذ عشرات السنين تحت وطأة التهميش ورغم ما يزيد على 3 سنوات على جريمة أحداث السبت الأسود التي تتحمل حكومتها الاستقلالية المسؤولية السياسية والاخلاقية عن إخفاء معالمها؟
لقد علق الجميع الآمال على حبل الثقة المتين، الذي نسجته أحداث تاريخية استثنائية، غداة إعلان نتائج الانتخابات الجماعية الاخيرة، معتقدين أن روح الوفاء والاخلاص ستستقر وتستمر بداخل مؤسسة تسيير الشأن المحلي، إلا أن رياح تغيير معاكسة لأمالهم، لم تشتهيها سفنهم ولا أنفسهم، هبت فجأة لتخلط الاوراق و تقذف بورقة التوت بعيدا من على جسد هزيل لم يلبث أن تهاوى بمجرد جلوسه على كرسي المسؤولية.
وربما يظن البعض أن الرأي العام كان ينتظر تحقيق إنجازات غير مسبوقة من فريق، على ضعف بنيته، مُنح ثقة عمياء ، إلا أن أهم ما كان يراهن عليه الشارع الطويل العريض، في الحقيقة، هو إبقاء أمله حيا في أن يظل المجلس البلدي، الذي يقوده أبطال معركة كرامة، قريبا لنبضه و متشبثا بنفس جماهيري و مجسدا لقيم التضامن والوحدة لتسخيرها واستثمارها من أجل الضغط على مراكز القرار كي تلتفت إلى حاجيات ومطالب الجماهير المنسية، ففشل "اركانة"، اذن، ليس الا نتيجة مباشرة لعجزها عن الحفاظ وحماية الإرث التاريخي، الذي خلفته معركة الأحداث الأليمة بسيدي افني و التي دارت رحاها على جبهات متعددة: سياسية و ميدانية وإعلامية، تُوجت كلها بنجاح جماهيري باهر.
كان يجب أن يمر وقت طويل، وللأسف، قبل أن يكتشف أتباع "اركانة" والباحثين عن مكان أفضل حول فتات على مائدتها، الفراغ القاتل، حين حضروا، بمناسبة عيد العرش، تدشين المشاريع باسم المجلس الاقليمي، و لم يجدوا ما وُعدوا به من مشاريع وحدائق مُعلقة باسم مجلسهم البلدي، بعد ان انقشع ضباب الكذب، الذي غشي بصرهم وبصيرتهم، من بين أيديهم ومن حولهم وهم لا يشعرون.
لهذا لم يجد الرئيس بُدا من الغياب عن حضور الانشطة المبرمجة و الفرار بجلده ، بعد أن قام بأقصى ما يمكن فعله في اتجاه الهروب إلى الامام، وهو التوجه الى مقر العمالة للاحتجاج على نصب إحدى لوحات المشاريع، والتي كانت، بطبيعة الحال، خالية من أي ذكر لاسم البلدية، لأن هذه الأخيرة، وببساطة شديدة، ليست صاحب المشروع.
فمشروع البلدية الوحيد، والذي تمت زيارته، يوم 29 يوليوز2011، هو ذاك الذي استهدف ترميم ساحة الحسن الثاني، بلاسا اسبانيا سابقا، حَوَل إحدى اجمل لوحات المدينة التاريخية و الفنية الى ورش تخريب آتى، في أيام قليلة، على القيمة الجمالية والتاريخية لفضاء صمد، رغم كل سنوات الزمن الطويلة والقاسية، أمام رياح الاقصاء والتهميش.
اليوم، و بعد أفول نجم البروباغاندا الفاشلة، ما على الذين دعموا وساندوا توجه الرئيس الإقصائي والاستئصالي، بما فيهم من فضل "المنفى الاختياري" ، و ساروا عميا وراء سراب انجازات "المجد والخلود"، إلا أن يَقدموا على تقديم الاعتذار بصريح العبارة ودون مزيد تَردُد أو إصرار وقح على تغليط الراي العام.
ها نحن، والحمد لله، على أبواب مرحلة جديدة تبخرت فيها الآمال المعلقة على ميثاق جماعي أُحرقت أوراقه على نار احتجاجات 20 فبراير، وما على هؤلاء الذين اختفوا دون إشعار مسبق إلا أن يتحملوا أصوات الرفض والاحتجاج بعد أن استمتعوا طويلا، وسط وجوه كثيرة، بالمدح والزغاريد.
التعليقات (0)