-المعترك الراهن- قراءات في المعترك الراهن
(1)
الخلافات السياسية التي شهدتها الساحة اليمنية وما مرت به البلاد منذ إعادة تحقيق الوحدة 22 مايو 90 من أزمات مفتعلة تبدو هذه الخلافات والأزمات المتواترة أقرب إلى الجنون منها لدواعي العقل وروابط الحرص على الحد الأدنى من التعايش إن لم يكن التفكير بمصالح موضوعية أكثر أهمية كمصالح الوطن مثلاً..
وتنتاب الناس حالات توجس ناجمة عن إدراك عميق أملته تجاربهم المريرة لأشكال مختلفة من الأزمات التي جرى اختلاقها طوال الفترة القصيرة الماضية والتي لم تتح لهم فرص التعرف على دوافعها الحقيقية سيما وأن لدى المواطن اليمني قناعة كاملة بأن همومه وقضاياه وتطلعاته أبعد ما يكون عن مجمل الأسباب التي تحرك الصراع السياسي بين أطراف السلطة..
ولا ريب أن المؤتمر الشعبي هو أكثر الفرقاء تضرراً من الخلافات ليس لعجزه عن استيعاب المرحلة الراهنة بما ارتكزت عليه من تعددية سياسية وما طبعت به من سمات التنوع والتباين وإنما لكونه صاحب الحظ الأوفر من الاستهداف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم في تقديرنا أن الخلافات تجاوزت القواسم المشتركة وبدأت تلوح بمحاذير تصل خطورتها حد المساس بالوحدة والديمقراطية.
ذلك فيما يخص موقف قيادة المؤتمر أما قواعده التنظيمية المنتشرة على امتداد الساحة اليمنية فإنها تلقت ضربات موجعة وغدت في موقف لا يحسد عليه نظراً لأنها لم تجد تفسيراً واضحاً يبرر التنازلات المتكررة التي تقدمها قيادة المؤتمر على حساب انتصاراتها المشروعة التي تحققت خلال انتخابات 27 إبريل الماضي.
صحيح أن تلك التنازلات إنما قدمت من أجل الوحدة وسلامة الوطن كما جاء على لسان الأخ الأمين العام الفريق/ علي عبد الله صالح وتلك حجة واضحة تعبر عن هدف نبيل و غاية وطنية شريفة وبوسع قواعد المؤتمر تأييدها والحث على الاستزادة منها لولا جحود الأطراف المستفيدة وإنكارها على المؤتمر تضحياته ومحاولتها الدائبة عض اليد التي تسدي الجميل وإشهار التجاهل بالقول "إننا نرى أن الروح التي يذكيها الشعوب بالتعالي هي التي تشكل في حقيقة الأمر خطراً محدقاً بوحدة البلاد، ومثل هذا الشعور إذا امتلك تصرفات الناس وسيطر على سلوكهم يهدد لغة الحوار فيما بينهم لأن موضوعات الحوار تندمج في الذات وتتسيد ألفاظ ذات مغزى خاص مثل (التنازلات) أي تنازلات يمكن الحديث عنها!؟ فقد تراجع المؤتمر الشعبي العام عن تنفيذ اتفاقيات الوحدة" الخ.. ولا غرو أن يكون هذا التعبير تلخيصاً دقيقاً لموقف أحد أطراف الائتلاف حتى السادس من أكتوبر الماضي فالتنازلات موضع إنكار قطعي والمؤتمر متهم بعدم التزامه اتفاقيات الوحدة. فعن أي اتفاقات يدور الحديث وتطرح الشروط وتتواصل رغائب الابتزاز..؟
وما المسوغ لإذابة دولتين شطريتين في كيان وطني ودولي واحد؟ وهل كنا نعبث بعقل وجهد وكرامة الشعب اليمني عندما هب للاستفتاء على الدستور؟ وهل كنا نتسلى بإرادة الجماهير عند إقرار التعددية السياسية ركناً من أركان النظام السياسي الديمقراطي..؟ ولماذا جرى إعلان الجميع أحزاباً سياسية ومنظمات جماهيرية وفئات اجتماعية عن قناعتهم بالديمقراطية وقبولهم بإرادة الشعب وهل كنا نفتري على المواطن حينما أكدنا امتثالنا لنتائج الانتخابات..؟
كثيرة هي الأسباب التي تتبادر إلى الذهن كلما ارتفعت وتيرة المطالبة بتنفيذ اتفاقيات الوحدة.. وكأنها الفيصل الذي يفترض التمسك به وليس الدستور.. وكأن الوحدة اليمنية ما زالت مرتهنة لاتفاقيات ثنائية وفعل ماضوي.. بل لكأن التعددية السياسية مجرد ديكور للزينة بينما يجب أن تدار شئون الحكم بنفس الآلية الثنائية أثناء مراحل التشطير.. وكلما اشتد وقع المطالبة باتفاقيات بين المؤتمر والاشتراكي ازددنا إيماناً بأن ثمة طرف أو أطراف مستعدة لإعلان تمردها على الوحدة اليمنية وإعلان العصيان في وجه إرادة الشعب واللجوء لخيارات الإطاحة بتصالح الوطن ومكاسبه.
إن أصعب شيء في حياة الإنسان أن يكون محارباً لذاته دون قضية وثائراً دون سبب وموجوداً دون هدف والأكثر قسوة من ذلك أن تصل السذاجة عند شخص بعينه أو كيان بذاته على درجة الاعتقاد بأن في وسعه استدراج سواه نحو أي هاوية يريد واستغفال الآخرين والتغرير بهم عبر خطاب مموج أو شعار مزوز أو تكتيك أدنى إلى فهلوة الصغار وألعابهم وقصص حياتهم الخاصة بما طبعت عليه من عفوية مضحكة وإمتاع..
وحين يذهب هذا البعض لممارسة العمل السياسي معتقداً قدرته على تمييع قضايا لوطن والعبث بجهد الآخرين فإن النتيجة التي لا مفر منها هي تحوله إلى بهلوان ا ضرورة للتفكير في إصلاحه ولا مسوغ يستدعي التعامل مع اللهم إلا حين تصل الكآبة ذورتها ويغدو المهرج وسيلة للترويج عن النفس والبحث عن لحظة ممتعة.
وبالنظر إلى عدد من المؤشرات والظواهر السياسية التي سادت بلادنا منذ الـ 22مايو ومولد الجمهورية اليمنية حتى الآن نجد لونا ممتعقاً لشروط ومتطلبات الممارسة السياسية بما هي اختبار للعقل وامتحان للرجولة ومدار تتبلور في محكاته العملية مصداقية التعامل بين مجمل الأطراف التي تقدم نفسها للجماهير كطليعة قائدة وتوجهات رائدة وبرامج للتغيير وخطط للتطوير..
ولا بد عن استقراء مختلف المواقف التي جرى التعبير عنها كقناعات لبعض التوجهات السياسية من إدراك جملة من الحقائق الواضحة وفي صدارتها على سبيل الإيجاز وضرب الأمثلة:
1- إحساس البعض بالندم القاتل لمشاركته في تحقيق الوحدة.
2- الإحساس بأن الإفلات من الأزمات الطاحنة وتحويلها على ذمة الوحدة يعتبر أمراً متعذراً..
3- عدم القدرة على التعاطي الإيجابي مع الديمقراطية والتعددية الحزبية والمشاركة الواسعة نظراً لتحكم الماضي في ذات العقلية التي يسودها الندم والعجز عن مواكبة الظروف الجديدة بمنطق يخلو من عجرفة النظم الشمولية بما استمت عليه من ميزة تدميرية عادة ما تكون هي المنطق السائد لمواجهة التباينات وإدارة شئون الدولة.
4- أن تصدع المعسكر الاشتراكي وتهور هؤلاء في مجرى التعامل مع الاتجاه العالمي النقيض بالإضافة إلى ممارستهم اليومية التي تعبر عن همهم المتسرع في الحصول الثروة والوصول إليها مهما بدت الوسيلة فجة وغير مهذبة كل ذلك قد جعل هؤلاء يقعون ضحايا شرخ ذهني واضطراب نفسي عميق يكاد يكون خطابهم السياسي الراهن أحد بيناته وصورة حقيقية لهذا التشوه المخيف.
5- إدراكهم بأن وجودهم ككيان سياسي يعتبر مشكلة في حد ذاتها وليس حلاً..
6- إدراكهم وأحسبهم في ذلك قد أصابوا بأن عدم استنادهم لقضية وطنية محددة ومعرفتهم بأنه لم يعد من الممكن تقديم أنفسهم باسم شريحة اجتماعية بعينها كل ذلك هو ما يحدو بهم اليوم للاستماتة على بوابة السلطة بوصفها الوسيلة الوحيدة للتماسك بما توفره من مصالح وما تتيحه من إمكانات للعبث.
ومما تقدم يتضح أن الانتقال من عقلية الماضي إلى ظروف الحاضر والتسليم بالشرعية الدستورية بدلاً عن الشرعية الثورية والقبول بالديمقراطية ومترتبات التداول السلمي عوضاً عن ديكتاتورية الحزب القائد الواحد ما زال في عداد القضايا التي لم تحسم بعد..
وعلى نفس السياق الذي أوردناه بداية الحديث يحسن بنا أن نكون أكثر قرباً من الظاهرة السياسية في بلادنا وذلك ما يتعين عمله من خلال ما سوف نأتي عليه من استدلالات لا ينقصها الوضوح ولا يطالها الشك نظراً لعلنيتها ولأنها موصولة بنسب لمصادرها الحقيقية.
إن مما يؤسف له أن تصل الأوضاع السياسية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في بلادنا إلى هذا القدر من التردي الذي يفصح عن شلل في المسئولية وعجز عن الاستيعاب وقصور في الفهم.
بل إن ما تشهده اليمن يعد أمراً جديداً في التاريخ الإنساني الذي تستوقفنا صحائفه أمام انهيارات متعددة لحكومات ودول ولمفاهيم وقيم وكانت تلك الانهيارات في كل الأحوال إما طبيعية بحكم نشوء ظروف قاهرة أو غير طبيعية لأنها ناجمة عن كوارث مفاجئة بيد أن الذي يحدث هنا أو في هذا المنعطف التاريخي الحاسم وفي ظل علامة مشرقة في مسيرة النضال الوطني الخلاق كالوحدة والديمقراطية يعد حالة استثناء في التاريخ ,إلا فما الذي يدفع بمناضل كبير على سدة الحكم لتجريد نفسه من شارات البطولة والتنصل من مسئوليته أمام المجتمع والعودة إلى المرجعية الانفصالية والظهور على هيئة رجل غمرته الأخطاء حتى أخمص رأسه فهو لا يرعوي عن التعلق بأي مشجب لكي يبدو على هيئة أخرى غير التي علقت في ذهن الشعب وارتبطت بمعاناته.
لقد كنا في أحايين متعددة نستكثر على الصحف الحزبية سواء منها التابعة للائتلاف الحكومي أو الأخرى من صحف المعارضة نستكثر عليها الانزلاق في مغبة الاتهامات المتبادلة والمهاترات العبثية وتغليب المكائد والمصائد السياسية على العمل المشترك في تقويم وتهذيب شكل الممارسة السياسية وتوخي مصلحة الوطن في كل ما يطرح وابتغاء المعالجات الموضوعية الجادة لكل ما يثار.
أما الآن فإن في وسع زعيم سياسي حاكم أن يأخذ على كاهله مهمة المهاترات ليس على المستوى المحدود من القراء والمتابعين ولكن على شاشة التلفزيون بحيث يفرض على أكثر من 12 مليون سماع تهكماته وتلويحه بالانفصال وتعريضه بغيره من الرموز الوطنية التي تعمل بصمت وتملك الشجاعة الكافية للاعتراف بسلبياتها.
ليس هذا فقط ما تذهب إليه البراجماتية السياسية عند بعض من رموز السلطة بل هي تأنس لدغدغة مشاعر البسطاء من الناس فتطرح سلبياتها في صورة تهم ملقاة على عاتق الأبرياء، ومثل ذلك.. الشرعية الدستورية واعتبارها البديل الوحيد للشرعية الثورية.
وهنا نسأل من الذي قبل لنفسه بتجاوز أحكام الدستور في سبيل منصب يمثل قمة الخروج عن قواعد وأحكام الدستور.
ومن الذي يجنح للشرعية الثورية ويتحدث خارج نطاق الهيئات ومن الذي يريد هدم كل شيء من أجل ضمان موقعه.. ومن الذي يترافع باسم الشعب ويدمر إحساس المواطن بالأمن والاستقرار وشعوره الطبيعي بإمكانية تعايش المتناقضات داخل الوطن؟
لنبحث بتجرد كامل عن الذين أعاقوا العمل بالدستور غثر الاستفتاء عليه وقبلوا لأنفسهم تبوأ مواقع غير دستورية؟
لنبحث عن البرامج الانتخابية عن الذين وعدوا بإجراء تعديلات دستورية..؟
لنبحث في الاتفاق الذي تم بموجبه تشكيل حكومة ائتلافية وعلى ماذا ينص؟
لنستقرئ في هدوء كل الاتفاقات التي وقعها المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي ونحدد الجهة التي عطلت هذه الاتفاقات.
لنبحث أخيراً في الاتفاقية التي وقعها المؤتلفون الثلاثة بصدد التعديلات الدستورية ونعرف من منهم تنصل من مسئوليته.
ولا ريب أن التعامل مع قضايا الوطن وهموم الشعب يفترض نوعاً من الجدل الحاد ويقتضي وجود أكثر من وجهة نظر ويسترعي القبول بمخاضات عنيفة وهزات متوالية شأن أي تحول تاريخي في حياة الشعوب وتاريخ الحضارات غير أنه لا بد من سياق تدور في رحاه التباينات وعادة ما تكون الأزمات التي تتزامن مع أي تحولات عظيمة في أي مكان على الأرض نتاجاً موضوعياً لتصادم مشاريع وتناقض برامج واختلاف مواقع ذات طبيعة أيديولوجية وتكوين اجتماعي وخصائص سياسية.
أما إذا اتحدت المشارب وتطابقت الرؤى واكتملت شروط التجانس على رقعة واحدة انطلقت التباينات من مواقع مماثلة عندئذ تنعدم المسوغات الطبيعية لوجود أزمات حقيقية تبشر بمخاضات جديدة أو تحولات جذرية محسوبة على حركة التطور التاريخي.. ومن هذا المنطلق يفرق الناس بين الأزمة كبعد فكري يستند على معطيات جوهرية وبين الصراع السياسي العقيم والفذلكات المتواضعة وما يرتبط بهما من مزاعم وادعاءات وما ينبثق عنهما من افتعال وانفعال لا يقودان في أحسن الأحوال إلى نتيجة ذات معنى ولكنهما يضيفان على شكل الممارسة السياسية الواعية تشوهاً لا يلبث أن يسفر عن تحقيق مغانم لصالح فرد أو مجموعة أفراد امتهنوا العمل السياسي بأفق ضيق ونفس قصير لا يرقى إلى مستوى الممارسة السياسية ببعديها الوطني والإنساني.
وعلى سبيل المثال هل في وسع أحد أن يطلق على أحداث الشغب التي مررنا بها أواخر ديسمبر 92م أنها حركة ثورية أو يسميها أزمة من أي نوع كان.
إن السياسي الذي حرك هذه الأحداث وحشد العاطلين عن العمل ليكونوا ضمن ضحاياه، هذا السياسي افتقد أدنى مقومات الانتماء الوطني وخرج عن وقاره واتزانه وراح يقود معركة ضد بلده.. يحرض على الفوضى ويدعو لإحراق المتاجر ويحث على نهب الممتلكات ويدفع لاقتلاع الأشجار من جذورها ويرشق إشارات المرور بالحجارة فيما لا يحمل بيده مطلباً واحداً يخدم هؤلاء الذين وظفت ظروفهم المعيشية السيئة في الاتجاه المضاد لحقوقهم.
وعلى نحو من ذلك وعلى نفس المشاكلة جرى افتعال الأزمة الراهنة ولكن المفارقة الغريبة هنا أنها حدثت بين أطراف يتعين عليها أن تكون مسئولة عن حل الأزمات وليس افتعالها في حين يحدث العكس دون سبب مقبول أو مبرر وجيه فالمشاركة في الحكم لا تعني شيئاً مختلفا عن المشاركة في تحمل التعبات.. لقد عرف الشعب اليمني طرقاً كثيرة لمواجهة الطغيان ومحاربة الغزاة ولكنه الآن أمام مواجهة من نوع آخر أشد ضراوة وخطراً لاسيما وأن أعداءه هذه المرة هم من بين أعز الأبناء وأكثرهم عقوقاً؟
ويهي لي أن رفاقنا في قيادة الحزب الاشتراكي ولجنته المركزية الذين اشتركوا مع المؤتمر في إعادة تحقيق الوحدة اليمنية واحتلوا أهم المراكز السياسية وتصدروا قيادة البلاد أثناء المرحلة الانتقالية من خلال إمساكهم برئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان وتبوئهم المركز الثاني في رئاسة الدولة يهيأ لي أنهم لم يجدوا في الوحدة مبتغاهم علاوة على ضيقهم من الديمقراطية واستنكافهم أن يمارس أبناء الوطن وقواه السياسية حقوقاً متساوية في ظل دولة الوحدة نظراً لارتباطهم بموروث ثقافي وأيدلوجي قديم لا يسمح بأكثر من قبضة واحدة ورأي فريد وحزب قائد.. وعلى امتداد تجربتهم الشمولية لم يكن الآخر دائماً إلا ذلك المتشرد المدان بتهم شتى أهونها الانتهازية والتآمر على الحزب والتعامل مع القوى الرجعية والإمبريالية..
وهي الصفات التي ثبتتها وثائق الحزب للتعريف بدول مجاورة وأنظمة حكم عربية من الأشقاء بل هي في نفس الوقت الذرائع السياسية التي وصم بها الرفاق بعضهم وأطيح جرائها بالكثير من القادة السياسيين لما كان يسمى بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ومن هؤلاء وزير الخارجية محمد صالح مطيح والأديب اليمني المعروف محمد عبد الولي وبثلة من المناضلين في سبيل الوحدة..
لقد بات من المؤكد أن رفاقنا أبعد ما يكونوا على الاتعاظ بالدروس التي لقنتها شعوب مختلفة للأحزاب الماركسية في العالم.
لقد كان اشتراك رفاقنا في الوحدة ولادة جديدة للحزب ومخرجاً من مسلسل التصفيات الدموية التي صارت عرفاً سائداً وعادة متأصلة وكان اشتراكهم مع المؤتمر في صنع المنجز التاريخي العظيم صفحة مشرقة في سجل لا تكاد تضيء فيه غير لحظة نادرة وقع فيها الأستاذ علي سالم البيض الأمين العام للحزب على اتفاقية 30 نوفمبر إلى جانب أخيه الفريق علي عبد الله صالح.. بيد أن أصحاب المشروع الحضاري المزعوم قد اقتادوا الوحدة نحو مآزق متعددة وأوثقوا مسيرتها بإغلال التقاسم وراحوا يستثمرون أفقها الرحب في تغيير علاقاتهم بالقوى الخارجية ويبذلون كل جهودهم لزج البلاد في مواقف غير محسوبة وذلك بغر النيل من أجواء الثقة والاحترام التي استمت بها علاقة المؤتمر بأشقائه خلال مراحل طويلة من التعامل الأخوي الحميم والتجارب المتبادلة.
ومع كل هذا القدر من المخاتلة والمكايدة وافتعال الأزمات ظل المؤتمر على دأبه متجمل بالصبر متحل بالمرونة وقدم في سبيل ذلك تنازلات متوالية الأمر الذي فتح شهية الشريك ومكنه من تحقيق مكاسب غير مشروعة على مختلف المستويات.
لقد اتسم نهج المؤتمر بالمرونة واختار أن يخسر مصالحه ليكسب الوطن وتنجو الوحدة من شراك خصومها..
وعمد المؤتمر إلى انتهاج سياسة وطنية واضحة يدفعه لذلك ضمير حي وتربية سوية وتاريخ لم تلوثه دماء الأبرياء.
بينما ذهب شريكه بتمادي في استغفال الآخرين بما فيهم أقرب الحلفاء وليس أدل على ذلك من استماتته في سبيل إسقاط عدد من رموز الحركة الوطنية وقيادات المعارضة السياسية الذين رشحوا أنفسهم لعضوية مجلس النواب في الانتخابات البرلمانية التي مضت.
إن مما يؤسف له استخفاف شريكنا بوعي الجماهير وخدشه للمشاعر الوطنية التي يضمرها الشعب اليمني حيال الوحدة والديمقراطية.
على أننا ونحن نتحامل على جراحنا التي خلفتها خناجر الأخ الشريك يدركنا إلى ذلك إحساس بالفرح الغامر لأننا إنما ندفع ثمناً متواضعاً لارتباطنا بالوحدة وانتمائنا لهذا الوطن ولقناعتنا بالديمقراطية ولحرصنا على تقدم الشعب واستقراره وسيادة دولته الوطنية على كامل التراب اليمني. وإذا كان ثمة ما يثير كوامن الحسرة في ضمائرنا فهو لتلك الحملات المسعورة التي تجاوزت مذاهب التنافس الشريف وباتت تستهدف الوحدة من خلالنا.
ولسنا لننكر أن شغفنا بالوحدة قد جعلنا نحرص على غض الطرف عن مغزى الرسائل التي حملت مضموناً انفصالياً لا غبار عليه، فعند الإعلان عن نتائج الانتخابات وفوز شريكنا بأكثر من 90% في الدوائر الانتخابية للمحافظات الجنوبية وبرغم استيائنا للطرق التي لجأ إليها شريكنا في سبيل تحقيق تلك النتيجة الباهرة برغم ذلك كله باركنا للشريك وسحبنا كل الطعون والتحفظات.. لكن الأمر بالنسبة له كان رسالة تشطيرية حرص على توضيحها في أكثر من مناسبة عند قوله بأن هذه النتائج مثلت استفتاء على أحقية وشرعية ونفوذ الشريك في المحافظات الجنوبية والشرقية.
وعندما عبر هذا الشريك إلى دولة الوحدة على أكتاف المنسيين من أعضائه الذين كابدوا المرارة في المحافظات الشمالية اعتبرنا ذلك ضمن مستلزمات التربية الحزبية ولم نكن بعد قد حسبنا ذلك رسالة ثانية على نفس النمط وبذات المغزى.. وتواصلت الرسائل واستمر المؤتمر في تجاهله إياها لأنه يرى أن إشاعة القبح في المعترك السياسي يكدر صفو المجتمع ويعكر الأجواء.
ويوم التأم البرلمان المنتخب سلمنا شريكنا مفتاح التنمية والاستقرار وجئنا به من رداهات الإحباط إلى رئاسة الحكومة تحدونا في ذلك رغبة مخلصة لتشابك الأيدي وتظافر الجهود وتكامل المسئوليات.
وحين اكتملت الشرعية وتوفرت المقومات القانونية ذهبنا نحن والاشتراكي والإصلاح إلى مجلس النواب وطالبنا بتعديلات دستورية لترميم الاختلالات وتجاوز الصيغ التوفيقية في النص الدستوري.. واعتبرنا ذلك ضمن مقتضيات الوفاء للناخبين بما انطوت عليه البرامج الانتخابية من وعود أهمها العمل على تعديل الدستور وفيما بدأ المجلس إجراءاته بهذا الصدد رحنا نحن وشريكنا نبحث الصيغ ونبحث عن المشترك ليس لأن هذه التعديلات ضرورة لضمان شرعية بعض المواقع غير الدستورية منذ الوحدة وحتى الآن ولكن من أجل وحدة الإرادة السياسية وتحاشي التناقضات التي طبعت بها بعض أحكام ومفردات الدستور وعلى مدى ثلاثة أشهر تتواصل اجتماعاتها وتصل إلى الصيغة الملائمة ويوقع هؤلاء على وثيقة الإقرار وفجأة إذا بشريكنا ينكث العهد وينسى قيمة المواثيق ويعلن تنصله الكامل عن كل ما اتفق عليه ويذهب للتباكي على الدستور وحينها كنا ندرك ما يسعى إليه شريكنا فذهبنا إلى أبعد ما تكون عليه السماحة ورفضنا الضغط ووفرنا له الكثير من الوقت وبادرنا للتنازل عن حقنا في تنفيذ ما اتفق عليه.
وبلنا –وإن مؤقتاً- عن إثارة هذه القضية أمام الهيئات الدستورية وأعلنا الالتزام الكامل بالدستور كما هو عليه ونزولنا عند أحكامه.. وفجأة إذا بشريكنا يشترط الإبقاء على منصب نائب الرئيس دون أن يعني نفسه بشيء من الحرج أمام الشعب إزاء مثل هذا التناقض الصارخ.
وفجأة إذا بالأخ الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني وبعد كل هذا الإرباك والتناقض يعترف بأن الدستور عبارة عن صيغ توفيقية في إشارة واضحة لرفضه مبدأ الاحتكام للدستور..؟
لقد قررنا في المؤتمر أن نخوض مع أطراف الائتلاف كل الخيارات وسيكون لدينا خيارنا الذي لا نتزحزح عنه ويتمثل بمصلحة الوطن وعدم التفريط بالمنجزات أو المس من ثوابت الأمة.. أو اللجوء إلى العنف بينما قرر الشريك "الاشتراكي" إيذاءنا في أحب ما نملك واعز ما ندخر في الوحدة.. نعم في الوحدة!!
إنه يذهب لاعتبارها مساومة تاريخية.
لقد تحول حرصنا على الوحدة والديمقراطية إلى نقطة ضعف يستغلها حليفنا كل ما أراد إثنائنا عن إنجاز المهام الوطنية العظيمة كدمج القوات المسلحة وتعقب آثار التشطير والقضاء المبرم على كل مظاهرها في الواقع ومن جانب آخر أدركنا نحن في المؤتمر نقاط ضعفه القائمة على فتور علاقته بالوحدة وانقطاعه عن الديمقراطية طالما كانت نتائجها خلافاً لمصالحه ومن هذا المنطلق رحنا نفوت عليه فرص التصعيد ونشركه بدور أكبر من حجمه ونتغاضى عن حركته النشطة بتسليح مليشياته المدنية ونتعامى عن مضارباته بالعملة ونتستر على مؤسساته التجارية داخل الوطن وخارجه ونتظاهر بالغفلة عن مصطلحاته العامرة بنوايا هدم الديمقراطية ونحسن الصمت عن تفسير ما ترمز إليه (الديمقراطية العددية) "الجمهورية العربية اليمنية" "مع" و"وو" "المساومة التاريخية" "الاتفاق الجديد" ولم نطلب من أحد تفسيراً واضحاً لاعتذار إحدى الدول الاستعمارية عن نشر ملف استخباراتها المتعلق ببصماتها التي ما زالت قائمة في بعض المحافظات منذ 30 عاماً.
وتغافلنا أي إشارة توضح بالأدلة أينا تملكته سياسية "الظم" و "الإلحاق" على مدى سنوات القحط التشطيري كل ذلك أهملنا تناوله لاعتقادنا بأن الغلبة لا بد أن تكون للقوى الخيرة ولمنطق العقل.
بيد أن من العقل أيضاً تعاطي هذه الحقائق وذلك موضوع حديثنا القادم إن استدعى الأمر؟
الصحيفة: الميثاق
العدد: 570
التاريخ: 15/11/1993م
التعليقات (0)