المجتمع المغربي بين رهان التحديث وسؤال القيم
منذ الصدمة التي عاشها المغرب بعد هزيمة إيسلي 1845 التي أعادت النظر في الخارطة الذهنية للصورة التي كان يظهر عليها المغرب من قبل، خصوصا ما بقي عالقا في نفس الآخر بعد معركة الملوك الثلاثة، وكرست ذلك من بعد هزيمة تطوان 1860، وما لاحظه الإسبان آنذاك من خَوَرٍ في الجيش المغربي الذي اعتمد إثرها أسلوب الكر والفر التقليدي، بينما الجيش الإسباني كان منظما، لذلك فغياب التنظيم هو في الوقت نفسه غياب للتعقيل. وهذا نفسه ما أدخل المغرب في صدمة الحداثة التي لازلنا نعيشها في لاوعينا إلى اليوم، مما جعل الفاعلين في الخطاب المغربي من رجال الدين وفلاسفة وأدباء وغيرهم، منذ ذلك الحين، يطرحون سؤالا إشكالا لازلنا نردده إلى اليوم أيضا مفاده: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟
1- الخطاب المغربي المعاصر بين التحديث والتجديد
كانت الرحلات السفارية التي قام بها المغاربة إلى أوربا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين باعثا على التعرف إلى قوة الصدمة التي عاشها المثقفون المغاربة عموما، وصيروها من خلال انبهارهم بالثقافة الأوروبية في جميع مناحي الحياة، ومن تم حاول كل مؤسسي الخطاب المغربي المعاصر أن يجيبوا عن هذا السؤال السالف طلبا لتحديث المغرب وتجديده ومسايرة التطور المتسارع الذي تعرفه أوربا على الخصوص، فانقسم المغاربة في الإجابة إلى تيارات متضاربة، في كثير من الأحيان، نجملها في:
- تيار ليبرالي يرى أن طلب التحديث متعلق بالأخذ بأسباب الحداثة الأوربية دونما الرجوع إلى السلف، لأن كل عصر له رجاله وله أسئلته التي يجيب عنها في ذلك الحين، إذ لا يمكننا مثالا أن ننتظر من ابن خلدون أو ابن رشد أو الغزالي الذين عاشوا في أزمان غير زمننا، وفي إطار تداولي غير الذي نعيشه اليوم أن يجيبوا عن أسئلة حاضرنا المعقد، كما رأى هذا التيار عينه أن أوربا ما كانت لتتقدم لولا القطيعة الإبستيمولوجية التي جعلتها مع الماضي في كل شيء: مع الكهنوت من خلال الإصلاح الديني والحد من تدخل الكنيسة في سياسة الناس (العَلمانية)، والقطيعة اقتصادا مع الفكر الإقطاعي الذي ساد القرون الوسطى والتوجه نحو الفكر البورجوازي الرأسمالي، كما قطعت مع التفكير اللاهوتي الميتافيزيقي نحو تفكير نقدي عقلي قائم على مسح الطاولة والذات المفكرة التي تمكن الفرد باعتباره عاقلا، والعقل أعدل قسمة بين الناس، من أن يرقى إلى تسخير الطبيعة وتطويعها لصالحه. فالإنسان أصبح منذ النهضة الأوربية محور الكون لا غيره (النزعة الإنسانية) المالك للحقيقة، وليست الكنيسة، عن طريق العلم وتقنياته؛ كما قطعت النهضة الأوربية إبان عصر الأنوار مع الاستغلال والعبودية، وأخرجت أوربا من ظلمات الكنيسة إلى نور العقل، فكرمت الإنسان ونادت بالمساواة والعدل والديمقراطية.
لذلك كانت الحداثة الأوربية قائمة بالذات على العَلمانية في الدين والديمقراطية في السياسة والتقنية في العلم، وكل هذه المبادئ التي كانت سبب نهضة أوربا دعا التيار الليبرالي وداعي التقنية إلى التشبث بها لأجل التحديث ثم الحداثة، فما نهض به غيرنا في العصر الحديث قادر أن يكون أساس نهضتنا، وهذا ما دفع هذا التيار نفسه إلى محاولة تَبْيِئَةِ هذه المفاهيم في التداول الاجتماعي المغربي وغيره للدخول في الحداثة. وقد كان المعرقل الوحيد في نظرهم هو التراث بكل ما يحمله من رموز ومثل وقيم، ينوء كَلْكله بها علينا، لهذا رأوا أن القطيعة معه هي السبيل نحو الأخذ بأسباب الحداثة.
غير أن ما يعاب على هذا التيار إلى اليوم هو استنساخ تجارب الآخر دونما وضع في الاعتبار الإطار التداولي المختلف قيما ووعيا ونظرة إلى العالم وتنشئة اجتماعية، وهذا التأثر بالنموذج الغربي في الحداثة جعلهم يطلبون أشياء بعيدة المنال، وفق الشروط التاريخية التي نعيشها نحن، مما صَيَّرَهُمْ يعيشون وعيا شقيا ولا تاريخية؛ فالعَلمانية مثالا غير واردة في المجال التداولي العربي الإسلامي، مادام الدين لا يخضع لسلطة كهنوتية كالكنيسة في أوربا.
- تيار سلفي أو ذهنية الشيخ: يعد المعاكس الموضوعي للتيار الليبرالي جملة وتفصيلا، فقد رأى هذا التيار أن الأمة لا يمكن أن تتجدد وتصلح إلا من خلال ما تجدد به السلف الصالح، وتخلفنا عن الغرب أساسه ابتعادنا عن ما ورثناه في المنهاج الإسلامي قرآنا وسنة وقياسا وإجماعا، ولا يصلح حاضر الأمة ومستقبلها إلا بما صلح به ماضيها، لذلك يرون أن ما يبدو من أوربا من تقدم استجابة لمطالب الحداثة، فإنها بعيدة عن روحها ما دامت لا تأخذ بالقيم والأخلاق، ولهذا بحثوا في حداثة مأصولة عاقلة راشدة قائمة على التدين باعتباره الحاضن لكل تقدم إنساني، منطلقين بالأساس مما يخوله الحديث النبوي المشهور "يبعث الله للأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها"، كما أن التيار الليبرالي الذي ينبهر بالإنجاز الغربي في كل شيء ينفي الأخلاق في العلم، مما دفع الغربيين أنفسهم إلى الحديث عن ما بعد الحداثة أو تخليق الحداثة أو الحداثة الأخلاقية، وأن إصلاح الأمة بَيِّنُُ من خلال المقتضيات الدينية وما نهجه السلف في الإمامة والسياسة وجددوا حياتهم على إثر ذلك.
- تصور توفيقي: يرى هذا التصور أن الطرفين معا سلفيان في مضمونهما ماداما يرتدان إلى نموذج مثالٍ سالفٍ، وقائمان أيضا على إقصاء الطرف الثاني، كما أنهما لا يأخذان بقدراتنا الذاتية في التحديث والإصلاح، فالليبرالي يرى نموذجه المثال في الحداثة الغربية ويقصي التراث بكل تمفصلاته. نصوره مثل شجرة مقطوعة الجذور والجذوع، لا يمكن أن تقام لها قائمة البتة، ويأخذ التيار السلفي بالتراث من دون مراعاة لشروط التحيين، ولاختلاف المجال التداولي الإسلامي عما كان زمن السلف الصالح القدوة. وهذا التيار ينفي الأخذ بأسباب الحداثة الغربية، وهو أشبه في ذلك بشجرة مقطوعة الأغصان، حيث لا ثمار لها ولا أوراق.
إن هذا التحجيم الذي يعتري التيارين مَعًا دفع إلى تبني تصور يجمع بين الأمرين، لكن بطريقة معتمدة على التفكير العقلي، نأخذ من التراث عبر قراءته وتحيينه والكشف عن طبيعة العقل الذي تَحَكَّم في إنجازه، وطبع التعدد الذي يشهده الخطاب العربي المعاصر في إيديولوجياته وبنياته، معتمدين منهجا علميا غير متحيز إيديولوجيا إلى أي موقف أو نزعة مسبقة، وهكذا نضع مسافة فاصلة بيننا والتراث تسمح لنا بكشف آليات تكوينه وبنية تشكله، كما أننا من خلال هذا الإعمال العقلي قي قراءة التراث نستطيع تحيينه لكي نتمكن من تجاوز معيقات التفاعل معه، لا أن نقابله بالصد والقطيعة، وفي الوقت نفسه نتعامل مع أسباب الحداثة الغربية عبر التمحيص، والنقد، وتبيئة المفاهيم التي أنتجتها مع مراعاة المجال التداولي العربي الإسلامي، وخصوصيات هذا المجال حتى لا نسقط في "الإجتثاث المفهومي واللاتاريخية". وهذا هوالسبيل، في نظرنا، الكفيل بالتحديث والتجديد.
2- المجتمع المغربي و"نهاية القيم"
لا أحد ينكر أن المجتمع المغربي يعرف حَرَاكًا في جميع المجالات، وهذا الحراك نفسه يرجع إلى طبيعة السؤال الذي طُرِح منذ صدمة الحداثة السالف الذكر، بغية طلب تحديث بنيات المجتمع في جميع المجالات، فمنذ الاستقلال عرف المغرب قطيعة مع ما كان يعرفه "زمن السيبة" التي لا يمكن أن يعيشها المغرب مرتين كما أشار المرحوم محمد عابد الجابري، لذلك عمل المغرب اليوم على النهوض بمجاله في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها، وهذا ما حصل بالفعل من خلال الانتقال الديموقراطي منذ حكومة التناوب التوافقي، وظهور قوى المجتمع المدني في الواجهة، ومحاولة تجاوز سطوة المجتمع السياسي، وتقليص هيمنته على الشأن العام عبر جمعيات متعددة: كجمعيات حقوق الإنسان ومناهضة الغلاء وحماية المستهلك ومحاربة الرشوة وغيرها كثير. وضمن هذا الحراك السياسي انفتح المغرب أكثر على حقوق الإنسان، كانت هيئة الإنصاف والمصالحة أكبر تمثيل لها، كما خرجت المرأة من قمقمها ومارست السياسة، فاحتلت مناصب مهمة في الدولة، وتطور الاهتمام بالحكامة، وحسن التدبير بوصفه أساس للتسيير الإداري الرشيد، واعتماد اللامركزية وعدم التمركز، وتخليق الحياة الاجتماعية بصفة عامة.
وفي المجال الاقتصادي شوهد حراك مهم طال محاربة الفقر والتهميش والهشاشة والفاقة في جميع تمظهراتها المعيشية، ورفع القدرة الشرائية للمواطنين، وبروز طبقة متوسطة أصبحت لها أهمية كبرى في الاستهلاك، وعظم الاهتمام بها باعتبارها قاطرة للتنمية، كما تبرجزت مجموعة من الفئات وساهمت في تغيير النظام الإقطاعي من خلال المساهمة فيه، وتحويل الإقطاعيات بيد ملاكين كبار يسكنون غالبا في المدن، وعرف المغرب مجموعة من المشروعات التي تضع نصب اهتمامها التنمية البشرية، والتنمية المستدامة الخادمة للأجيال وتشجيع الشركات والمصانع الخضراء، ونهج سياسة المغرب الأخضر.
مع كل هذه الإصلاحات التي يشهدها المغرب، فقد عرف تغيرا قيميا في المجتمع يتراوح بين السلب والإيجاب، إذ تحول المجتمع المغربي من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع "حداثي"، حيث حدثت تحولات جذرية بدءا بالأسرة ومرورا بالمدرسة وانتهاء بالمجتمع كله، فقد تحولت الأسرة من الأسرة البيطرركية التقليدية المحافِظة، التي كانت تسكن المنازل والرياضات وغيرها، إلى الأسرة النووية التي تسكن الشقق في الغالب، وتنهج الفردانية في المعيش، وارتفعت ظاهرة التمدين، فاختلفت بالضرورة القيم عما كنا نألفه في الأسرة البيطرركية، فبنهاية هذه الأخيرة انتهى صمام الأمان الذي يكفل للقيم التوارث بين الأفراد جيلا عن جيل، باعتباره الحاضن لها، لكن مع الأسرة النووية لم تعد الأسرة ذلك الصمام الحامي للقيم، بل أصبحت التنشئة الاجتماعية للفرد معقدة وتتداخل فيها مجموعة من القوانين الداخلية والخارجية الحتمية، إذ أضحى الفرد يكسب قيمه لا من خلال مبادئ وأعراف المجتمع كما اعتدناه زمن البطريرك، بل عبر ما تمليه عولمة القيم وتعدديتها الآن التي خلخلت مجموعة من الثوابت التي كنا نؤمن بها، وكما كان يؤمن بها الرعيل الأول الذي لا يخلو أن يكون سلفي القيم أو ليبراليها.
لم يعد الفرد اليوم يؤمن بالنماذج كما كان السابقون، اختلفت نظرته للعالم بحسب التطورات التي تعرفها المنظومة الإعلامية المستجدة المسوقة للقيم، إذ سادت القيم المادية فأصبحت الحَكَم في كل شيء بخلاف ما كنا عليه سابقا، ولم يعد الإيمان بالمبادئ كيفما كانت سياسية أو دينية القولَ الفصلَ في الحكْم على الشخص، بل إن قيمه المادية هي أساس كل شيء، وغدت النظرة البرغماتية هي المعيار، تنمط نظرتنا لكل دواليب الحياة، فالطالب، مثالا، الذي كان يدرس لأجل التفوق والتحصيل والمعرفة العالمة، أمسى اليوم يرى في التعليم وسيلة فقط للشغل لا غير، فلا خير في علم لا يشغل صاحبه، والعلاقات البيفردية مبنية كذلك على المنفعة، (قل لي ما تملك من مالٍ وجاهٍ وحسبٍٍ أقول لك من أنت) كما أن الانتماء نفسه مبني على المنفعة، وأمسى مألوفا أن نرى سياسيينا متجولين وراحلين، من دون أن يكون ذلك نقصا في شخصهم، تراه اليوم من حزب فلان وغدا مع علان وتارة غير منتم وهكذا، وحتى الانتماء الإيديولوجي لم يعد ذا بال، فقد ترى الفرد اليوم شيوعيا وغدا إسلاميا، حداثيا في الفكر تقليديا في الطبع وهكذا.
إن هذه التعددية في القيم تدفعنا إلى التساؤل ما إن كان التوجه نحو الفرد بدلا من الجماعة في المغرب اليوم، وطلب الحداثة من دون تحديث، وعدم الحسم في المجال القيمي بالنظر إلى التفاعل بين الأفراد، هو ما أنتج هذا الترهل القيمي، أليس حريا بنا أن نوازي بين هذا الحراك الاقتصادي والسياسي الناجع الذي يعرفه المغرب وترشيد المجال القيمي في بلدنا؟
التعليقات (0)