اطلق السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي منذ ايام مبادرة للمصالحة الوطنية اثارت جدلا كبيرا في الصحافة العراقية وفي الشارع العراقي . وسبب هذا الجدل هو الخوف من عودة البعثيين الى الساحة العراقية بعد ان دعى المالكي الى قبول عودة البعثيين اللذين لم تتلطخ ايديهم بدماء العراقيين ولا بسرقة اموال الدولة لأكمال المصالحة الوطنية الللتي يتفق جميع العراقيين على أنها السبيل الوحيد لعودة الحياة الطبيعية في العراق , الا انهم يختلفون حول معنى هذه المصالحة .
صحيح ان البعثيين وبعد حكمهم اللذي دام خمسة وثلاثون عام قد تركوا العراق محطما ومنقسما تنهشه الامراض الاجتماعية والتخلف والاحتلال . وبعد ان قتلوا اكثر من ثلاثة ملايين وشردوا بصورة مباشرة او غير مباشرة اربعة ملايين من شعبه . الا ان مبادرة السيد نوري المالكي تثبت وصوله والحكومة العراقية الى قناعة بان البعثيين ما زال لهم ثقل في الشارع العراقي , والا فما اللذي يجعل المالكي يصرح بقبول عودتهم ويجازف بسمعته وبأصوات ناخبيه لابرام هذه المصالحة ؟ . بل ان كثير من الاصوات حذرت المالكي من ان هذه المصالحة هي بمثابة لعب بالنار وانتحار سياسي اذا ما اصر عليها , وأعتقد ان هذه التحذيرات صحيحة , ومن يعرف الشراع العراقي جيدا سيقتنع بصحتها .
ولمن لا يعرف فان حزب الدعوة اللذي ينتمي اليه المالكي هو اكثر حزب سياسي عانى من بطش البعثيين في السبعينات ايام حكم احمد حسن البكر وفي الثمانينات ايام حكم صدام ولأنه كان الاقوى بين احزاب المعارضة في ذلك الوقت فلقد نكل البعثيون بمأسسه اية الله محمد باقر الصدر وباخته قائدة التنظيم النسوي انذاك وبقياداته تنكيلا شديا . ولقد استشهد عشرات الالاف من اعضاء حزب الدعوة في سجون البعث ومحي اثر عشرات الالاف منهم , اما الباقي منهم فأما تركوا الحزب خوفا او فروا الى خارج العراق . حتى انتهى وجود حزب الدعوة داخل العراق تقريبا في منتصف الثمانينات بعد ان اعدم البعثيون حتى اقارب واصدقاء اعضائه لمجرد الشك .
اذا فما اللذي يجعل نوري المالكي واللذي يذكر دائما بانه خسر من عائلته العشرات وشرد منهم المئات على يد البعثيين , ينادي بمصالحتهم ؟ .
اعتقد ان الرد على هذا السؤل قد اجابت عنه نتائج انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة . حيث ان المالكي قد فهم جيدا منها بان حزبه اكتسح معظم الاصوات فقط لاعتقاد الناخبين بانه قادر على القضاء على القاعدة والمقاومة المسلحة من صدريين او غيرهم , ولانه استطاع خفض معدلات العنف في العراق الى معدلات لم يكن يحلم بها الناخب منذ سنتين . ولكن هذا النجاح جعل هذا الناخب يرفع سقف طلباته من حكومة المالكي بتوظيف جيوش العاطلين عن العمل وارجاع البنى التحتية والخدمات من كهرباء وماء ومرافق خدمية وصحية الى سابق عهدها في السبعينات والثمانينات .
لكن الحقيقة اللتي يعيها المالكي جيدا هي انها لا تزال هناك اعمال عنف متنوعة وكثيرة بالمقاييس المطلوبة لتشجيع الاستثمار . مما يعيق الاستثمار المحلي والاجنبي في العراق ويبقي على جيوش العاطلين عن العمل وعلى انعدام الخدمات والبنى التحتية على حالها .
ومع اقتناعي بان التحسن الامني الملحوظ اللذي طرأ على الساحة العراقية الان تقف ورائه قوى اقليمية مناوئة لامريكا تريد تهدئة اللعب في العراق حتى تعطي الرئيس اوباما الفرصة لسحب قواته , ولسحب الحجج لاي تاجيل لخططه في هذا الصدد . وأن هذه القوى قادرة على ارجاع معدلات العنف الى ما كانت عليه اذا ما احست نكوصا امريكيا عن والوعود .
الا ان المالكي توصل الى فكرة اعتقد برأيي المتواضع انها السبيل الوحيد الباقي امامه لكبح جماح العنف نهائيا عن طريق شق صفوف البعثيين اللذين طالما حملتهم وتحملهم الحكومة وحلفائها المسؤولية الكاملة عن معظم اعمال العنف في العراق , باعطاء فرصة لقسم كبير منهم للرجوع الى الحياة السياسية وتشجيعهم على نبذ القسم القليل من المجرمين منهم , واعلان تمسكهم بالمباديء الديمقراطية والدستور العراقي الجديد وتعهدهم بالانصياع التام له . الامر اللذي سيكسب المالكي الوقت اللازم لبناء مؤسسات الدولة بصورة كاملة قبل الانسحاب الامريكي المزعوم , وبالتالي البدء بالاستثمار المحلي والدولي داخل العراق وتوظيف الالاف وبناء المرافق الخدمية والبنى التحتية اللتي يطالب بها العراقيون مما سيضمن له السيطرة الكاملة له ولحزبه على البرلمان في الانتخابات المقبلة .
انها مقامرة كبيرة يقوم بها المالكي . فهو سيخسر كل شيء اذا لم يستطع الوفاء بوعوده بعد ارجاع البعثيين , ولكنها مقامرة تستحق القيام بها على ما اعتقد فليس لها من بديل .
التعليقات (0)