محسن الندوي - باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
تقديم :
يعتبر العرب والمسلمين، من أشد الامم في هذا العالم تعلقّاً بلغتهم العربية المقدّسة الناصعة الحية الثرية المتجددة. إلا أنهم يكتفون اليوم فقط بالتغني والتمجيد ولا يقدمون الخدمة الكافية العلمية والعملية، والتربوية والاجتماعية، والنفسية والإعلامية، لهذه اللغة الحية التي هي كيان أمتنا، وصورة ماضينا ومرآة حاضرنا وأفق مستقبلنا.
هذه اللغة العربية المتميزة التي تغنى بها الكثير من الشعراء ونذكر من قصيدة حافظ إبراهيم :
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
واليوم بات مستقبل اللغة العربية يشغل جمهور علماء اللغة والمفكرين والأدباء والكتاب والباحثين الذين يهتمون بتطور الفكر واللغة والأدب والحياة الثقافية بشكل عام في العالم العربي . وتنال هذه القضية قسطًا وافرًا من اهتمامات مجامع اللغة العربية، وأقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية، وفي الجامعات الإسلامية والعالمية التي بها كليات وأقسام للغة العربية، وفي مراكز البحوث والدراسات العربية الإسلامية، وفي المنظمات والهيئات والمؤسسات التي تخت ص بالتربية والثقافة، وفي المقدمة منها، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومكتب تنسيق التعريب التابع لها، وفي الصحافة والإعلام وأقسام الترجمة في المعاهد والكليات المتخصصة .
فالتفكير في مستقبل اللغة العربية قضية بالغة الأهمية، في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، لها صلة وثيقة بسيادة الأمة العربية على ثقافتها وفكرها، وعلى كيانها الحضاري، وعلى حاضرها ومستقبلها. فهذه (قضية سيادة) بالمعنى الشامل، وليست مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية.
انتشار اللغة العربية في زمن المجد العربي والاسلامي :
لقد انتشرت اللغة العربية بفضل الإسلام في آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، واقتبست لغات عدة نسبةً عاليةً من مفرداتها. ولم يقف انتشارها عند ذلك الحد، بل إنها تزدهر اليومَ في معظم بلدان العالم من خلال انتشار الإسلام فيها، وتطلُّع المسلمين إلى تعلم لغة القرآن الكريم، ليعرفوا دينهم ويتفقهوا فيه.
لقد انتشرت اللغة العربية في إفريقيا في جنوب الصحراء في زمن مبكر جدا، وحتى قبل أن يبلغها الإسلام، حملها التجار معهم، وأذاعوها في نطاق محدود قد لا يتجاوز الأسواق الرئيسة في المدن الكبرى، ولكنه هام ومؤثر، فلما جاء بعدها الإسلام ثبت أقدامها فظهرت المدارس القرآنية، واهتم بها المجتمع الإفريقي اهتماما كبيرا.
وقد ضم جامع الأزهر رواقا شهيرا يسمى رواق الجبرتية كان مخصصا للطلاب القادمين من شرق إفريقيا بعامة، وللطلاب الأحباش بخاصة، وكثيرون من الأحباش الذين درسوا في الأزهر عادوا إلى بلادهم وتولوا المناصب الدينية من قضاء وافتاء، وكانوا من مواطنيهم موضع إجلال وإكبار.
واذا اتجهنا الى الشرق ، يذكر الرحالة ابن جبير المتوفى عام 614هـ/1317م، أنه شاهد الأطفال في الهند يحفظون القرآن الكريم ويتعلمون الخط من خلال الآيات القرآنية في تدريب الصبية عليه.
وهكذا حفظت اللغة العربية الفصحى رغم أنها لم تكن لغة البلاد ولا لغة الحكومة، وكانت الكتب المتصلة بالتفسير والحديث والفقه والعقائد باللغة العربية، ولم تكن ترجمت إلى الفارسية حتى ذلك الوقت، وقدمت لنا شبه الجزيرة الهندية كوكبة عظيمة من كبار العلماء في مجالات اللغة العربية والعلوم الإسلامية المختلفة.
كما أن تركيا ليست بمنأى عن هذ الانتشار للغة العربية، ومثلها ألبانيا والبوسنة، ولكليهما أدب وطني مكتوب في اللغة العربية حيا، وبالحرف العربية أحيانا، وأما الجمهوريات الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي فيكفى أن تستقرئ تاريخها جيدا وتعيه لكي تحن إلى العربية، فقد كان إسهامها في الحضارة الإسلامية والعالمية مرموقا، وتم في اللغة العربية وحدها، ويكفي أن نذكر أن مكن بين علمائها الأجلاء الإمامين : البخاري ومسلم والفيلسوف الفارابي.
ويذكر بعض الباحثين ان باكستان حاولت غداة استقلالها وهي من كبريات الدول الإسلامية عددا وقوة، أن تجعل العربية لغتها الرسمية، وحالت دون تحقيق الأمنية عوامل مادية بحتة فحسب: صعوبة إيجاد المدرس الكفء والكتاب المناسب، والميزانية الوافية، ولكنها أصبحت اللغة الثانية على أية حال.
غير أن الاستعمار الأوروبي عمل بقوة على منع انتشار اللغة العربية والتهوين من شأنها في كل المناطق التي خضعت له في أفريقيا وآسيا أو التي مارس عليها نفوذا كبيرا، حاول اجتثاثها وتبغيض المواطنين فيها، واتهامها بأنها ليست لغة علم، وأن مفرداتها لن تتسع لمتطلبات الحضارة الحديثة، وأنه خير لهذه الدول أن تتخذ لها لغة أوروبية، وفي الوقت نفسه عمل على تجميد تدريس اللغة العربية ولن يتح للقائمين عليه أن يتقدموا أو يصيبوا شيئا من طرق التدريس الحديثة، وفي الوقت نفسه أهمل المدارس القرآنية، ودفع بها بقوة إلى الانكماش والتلاشي.
ومازال الغرب اليوم يعمل على اضطهاد اللغة العربية التي يعتبرها عدوّا ثقافيا وحضاريا لثقافتهم الغربية ولغاتهم الاجنبية، وهو يستخدمون الآن كل قواهم تخطيطا ومعلومات واقتصادا وعلماء للعمل على وقفها، بتدميرها من الداخل، وتفريغها من محتواها لا لشيئ وانما لكون اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم.
ومع ذلك، يبدو واضحا وضوح الشمس أن القرآن الكريم يزداد رسوخا، والإقبال عليه حفظا وتجويدا يشتد، وذلك يعني ان اللغة العربية يستحيل ان تضمحل.
التعليقات (0)