بقلم .. يحيي البوليني
من تراب هذه الأرض ومن قلب ريف مصر خرجا وتسميا على أسماء الأنبياء كعادة المصريين المحبين للدين والذين يأملون أن يجدوا في الأبناء تعويضا عما كابده الآباء من المشقة والتعب وويرجو كل أب منهم أن يرى ابنه في منزلة عالية متمنين لهم حسن السيرة والمسيرة
ففي أواخر العشرينيات من القرن الماضي يشاء الله سبحانه أن يكونا مقتربي المولد والسن , فكانت ولادتهما قريبة جدا ففي أوخر عام 1926 وفي قرية صفت تراب يولد طفل أسماه والده على اسم نبي الله يوسف , وفي قرية كفر مصيلحة وفي أوائل عام 1928 يولد طفل اسماه والده محمد ..
وكبرا سويا وهم لا يدريان أن القدر سيربط بينهما معا كطرفي مقص فكلاهما سيتجه لاتجاه مختلف عن الآخر ومع ذلك فسيظلان مرتبطين برابط لن ينفك ألا وهو أنهما مصريان وكلاهما سيمثل قوة لا يستهان بها تصعد وتهبط بهما حتى آخر عمريهما وسيظل كل واحد منهم في ذاكرة الآخر لآخر يوم في حياتهما .
اتجه يوسف القرضاوي للدراسة الشرعية وحفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر الشريف
واتجه حسنى مبارك للدراسة المدنية حتى التحق بالكلية الحربية , وامترج كل منهما بمبادئه وثقافته وأفكاره وأولوياته حتى صار كل منهما بارزا في اتجاهه الذي بدا وكأنه متعاكسا متضادا .
وفي أوائل الخمسينات أتما دراستهما الأساسية والتكميلية معا أيضا , ففي عام 1954 حصل الشيخ يوسف القرضاوي على العالِمية (الدكتوراة ) وحصل الضابط حسني مبارك على شهادة تخرجه من كلية الطيران بعد حصوله على شهادة الكلية الحربية وكان ترتيبهما متقدما على أقرانهما .
وبدأ الاختلاف بينهما منهجا وفكرة ,
فانضم القرضاوي إلى الاخوان المسلمين
وآمن مبارك بمبادئ الثورة وكان من رجالها بحكم انتمائه
, وإن بدا الأمر في البداية اختلافا أيدلوجيا بين فكرتين ولم يصل بالفعل إلى أنه اختلاف شخصي فكلاهما لا يزال لا يعرف الآخر حتى لو سمع به .
وكان انضمام مبارك للمؤسسة الحاكمة وقتها صاحبة القوة والنفوذ والسطان والتي تمتلك أدوات كثيرة استغلتها أسوأ استغلال في فرض كلمتها وقمع معارضيها بشتى أنواع القمع , في حين انضم القرضاوي للحركة المعارضة التي كانت تدعو إلى الله سبحانه والتي لم تكون تمتلك من عناصر القوة شيئا إلا أنهم كانوا أكثر تلاحما مع الشعب .
وبدأ الصدام .. واعتقل القرضاوي في عهد عبد الناصر ثلاث مرات , ولقي هو ومن معه ممن وضعوا في آلة التعذيب الرهيبة أشد أنواع التعذيب والإهانة التي وصلت إلى القتل الجائر الظالم بلا محاكمة ولا ضمير
وتعرض الظهر العاري للسياط الشديدة وتصدى لها بما يمتلك من قوة وشجاعة رافضا الاستسلام أو الخنوع أو التبديل رافعا صوته الذي لا يزال مرددا
تالله ما الطغيان يهزمدعوةً يوما وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي علي السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصما بحبل عقيدتي وأموت مبتسما ليحيا ديني
وحينما كان القرضاوي تنهشه وإخوانه زبانية عبد الناصر كان مبارك يتدرج في الكلية الحربية معلما ثم اركان حرب ثم قائد سرب ثم بعثات دراسية تأهيلية وتكميلية في ما كان يسمى قبل ذلك بالاتحاد السوفيتي ليرقى بعد ذلك للعمل كمدير للكلية الجوية ثم شغل منصب رئيس أركان حرب القوات الجوية، ثم قائداً للقوات الجوية في أبريل 1972م، وفي العام نفسه عُين نائباً لوزير الحربية , وفي تلك الأثناء وبعد خروج القرضاوي من المعتقل الذي قاسى فيه من كل انواع المعاناة هو وأخوانه ممن كانوا شرفاء عصرهم وأخلص الناس لدينهم ولبلدهم .. يخرج القرضاوي فلا يجد له مكانا في وطنه فقد سلبه هؤلاء الذين كانوا يظنون أنهم ملكوا البلاد والعباد وأن الشعب قطيع من الأغنام بل هم أذل وكان يتصرفون بلا خوف ولا رقيب وكأن كلا منهم قد صار إلها يطلب من الشعب أن يعبده من دون الله .
خرج القرضاوي وإخوانه من شيوخ الازهر حملة رسالة سيد الأنبياء , وخرج العلماء الثقات وذوو الكفاءات في كافة الميادين من المعتقلات فوجدوا وطنا غير الوطن , وجدوا وطنهم لا يسعهم ولا يتحملهم ولا يريدهم فخرجوا سياحة في كل أرجاء الأرض يحملون ما آتاهم الله من خير وحكمة معتبرين أن وطنهم الأكبر هو كل أرض يُعبد فيها الله سبحانه حتى وإن حملت قلوبهم حبا جارفا للأرض التي نشأوا عليها ورغبوا أن تستفيد منهم بعد أن أعطتهم خيرها ولم تتح لهم الفرصة لرد جميلها .
ففي الوقت الذي كان فيه الطيار مبارك يتلقى تعليمه في الاتحاد السوفيتي وينتظر اليوم الذي سيعود فيه إلى مصر مرحبا به مقدما في كافة الميادين , كان القرضاوي في قطر يعلم ويدرس أبناءها العلم الشرعي علم كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وينتظر أيضا اليوم الذي يعود فيه إلى موطنه ومسقط راسه ولكنه لا يستطيع فهناك من سيترقب وصوله لا لكي يرحب به ولكن لتضمه جدران السجون مرة أخرى .
ولم يستطع القرضاوي أن يدخل بلده ثانية إلا حينما نال الجنسية القطرية - شاكرا لأهلها حسن ضيافتهم وتقديرهم لمكانته – فكان يزور مصر كضيف قطري له موعد محدد للدخول وللخروج من بلده ولا يستطيع الاقامة فيها شأنه شأن كل مصري .
واستمر نجم مبارك في الصعود والترقي حتى جاء عام 1975 ليكون مبارك الرجل الثاني في مصر نائبا لرئيس الجمهورية والذي سرعان ما جاء عام 1981 حتى صار الرجل الاول رئيسا للجمهورية محققا أقصى أماني والده التي كانت تبدو مستحيلة في ريف مصر يوم مولده ان يصل إلى مرتبة رئيس جمهورية بلده , وتستمر معاناة القرضاوي مع بلده مصر وكأن مبارك لا يريدها أن تتسع للرجلين فاحدهما يمثل الظهر العاري والآخر يمثل السوط الغليظ ومصر لا تتسع للظهر والسوط معا فوجود أحدها زوال للآخر .
وظل مبارك ونظامه محافظا على سيرة أسلافه من قمع الناس وقهرهم وفرض إرادته بالقوة وعدم إحترام رموزهم وإهانتهم في الداخل والخارج حتى فقد كل مصري مكانته داخل بلده وخارجها وصار أقصى ما يتمناه كل مصري أن يخرج من بلده التي لم تعد بلده بل صارت بلدا لمبارك ولكل من يمشي في ركابه ولكل من ينتفع به من عصبة تعاهدت على الفساد والافساد وعلى انهاك الوطن والمواطن وعلى بيع كل ممتلكاته بأسعار زهيدة ويدخل الفارق في حساباتهم الشخصية حتى صارت مصر ملكا مباحا لمبارك يعطيها لما يرضى عنه ويمنعها عمن يغضب عليه – حاش لله –
ولم يكن هناك صوت واحد شرعي يملك الاعتراض على أفعاله وتصرفاته فجعل مجلس الشعب صوريا هزليا وكبل القضاء المصري وعطل أحكامه وانفرد بالاعلام الذي سمم عقول الناس ليسبح بحمده وبمجده , وصار هو وابنه ووحاشيته في مصاف الآلهة التي لا يستطيع أي انسان أن ينتقدها وتصرفوا بغاية الوحشية مع الناس وممتلكاتهم .
وظل القرضاوي متصلا ببلده مراقبا لها من بعيد مهموما بقضايا وطنه مؤيدا لحق الناس في كل موطن داعما لهم بالرأي والنصيحة متمنيا أن يكون يوما في بلده كمصري لا كضيف يمارس فيها كل حقوقه كمصري .
وظل الشعب المصري الذي طالما عانى كثيرا من تسلط الظالمين عليه واختزن تلك المهانة كثيرا حتى جاء اليوم الذي فاض به الكيل فقام كله وانتفض ثائرا مطالبا بحقوقه رافضا لنظام مبارك للقهر والإذلال والتبعية وللمهانة رافضا لعصر كله سرقة ونهب لخيرات مصر ولبيعها لأعدائها بأبخس الأثمان , واستعد الشعب لدفع الثمن للحرية والكرامة فدفعها من دمائه العزيزة الغالية , دفعها راضيا مختارا سعيدا بأنه يدفعها للعزة والكرامة بعدما كانت تهدر للذل والهوان في أقسام الشرطة وبين أيدي الجلادين .
وظل القرضاوي وهو بعيد عن وطنه ورغم بلوغه فوق الثمانين يحمس الشباب ويرفع من عزمهم ويشد من أزرهم ليثبتوا وليطمئنوا وليستعدوا ليوم النصر على هذا النظام الفاسد لاسترداد حريتهم وكرامتهم من تلك العصابة التي أذلتهم حتى من الله على هذه الفئة وتخلصت من رأس الظلم وزبانيته وخرج من القصر الرئاسي لمكان يتخفى فيه ولا يجرؤ على الظهور العلني في مكان وهو تحوطه الحراس , وليأت اليوم الذي يعود فيه القرضاوي لمصر ويدخلها بجوازه سفره المصري , لا يدخلها كضيف ولا يدخلها كزائر بل سيدخل بيته ووطنه عائدا إلى اهله مرحبا به ليلقي خطبة الجمعة في ميدان التحرير ميدان العزة والكرامة والشرف ميدان الشهداء الذي أصبح رمزا للصمود رمزا لانتهاء عصر من عصور الظلم والاستعباد
يعود القرضاوي ليكون اعلانا لانتصار الظهور العارية على سياط المتجبرين انتصارا لاهل الحق انتصارا للحرية على الاستعباد , ليكون تجسديا واقعيا حيا لتمكين يوسف عليه السلام بعدما خرج من السجن إلى الحكم ليعلنها لربه أن أقصى ما يتمناه قد حققه , ليقولها يوسف القرضاوي كما قالها يوسف الصديق من قبله " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض توفني مسلما والحقني بالصالحين "
فقد أتم الله النعمة وزال ظلم الظالمين وصدق الله العظيم " تلك الدار الآخرة نجلعها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين "
حقا ان العاقبة للمتقين ودولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة باذن الله وليسأل أبو جهل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوم بدر " لمن الدائرة اليوم ؟ "
التعليقات (0)