الفيزون والهوية والحرية
بلال الشوبكي
في ظل التحولات الإجتماعية والإقتصادية التي يشهدها المجتمع العربي، أصبح الحديث عن الحريات والحقوق أمراً واجباً، وخصوصاً قضية الحقوق والحريات الخاصة بالمرأة، وقد سخّرت جزءاً من وقتي في المجالس الأكاديمية والإجتماعية ومساحات من أوراقي لأطرح هذه القضية من جانب تنموي، فحديثي عن حقوق المرأة العربية كان وما زال مرتبطاً بقضية الإنتاج، فتحول الخلفية الاقتصادية للمجتمع العربي من بيئة ريفية زراعية منتجة - كانت فيها المرأة تسير جنباً إلى جنب مع الرجل فيما يمكن تسميته بالمشروع الزراعي الأسري- إلى بيئة استهلاكية تجارية دون إنتاج أضحت فيها المرأة عنصراً مستهلكاً يعاني شعوراً بالدونية.
إلى جانب وجهة نظري التي يحملها العديد من المهتمين بهذا الشأن، ظهرت وجهات نظر أخرى للحديث عن حقوق المرأة من زاوية ثانية، وهي حقها وحريتها في استيراد ما يلفت نظرها من أي مكان دون أي انتباه لدور ذلك المستورد في استعادة المراة كعضو منتج، بل في بعض الأحيان دون الالتفات إلى أن هذا المستورد يؤدي إلى تكريس المرأة كعنصر أكثر استهلاكاً وهامشية في المجتمع، وللأسف فإن أتباع وجهة النظر هذه أقوى مالياً ومؤسساتياً بما هو كاف لتمرير وجهة نظرهم فتتبناها بنات وفتيات ونساء المجتمع العربي تحت شعارات جذابة مثل الحضارة والمدنية والتقدم والحرية.
مع هذا التفوق الذي أحرزه أتباع وجهة النظر تلك، لم يعد هناك تمييز بين الداعي لاستعادة المرأة كعنصر منتج وذلك الداعي لاستيراد شكل جديد للمرأة يزيدها استهلاكية، وحين ينتقد أحدهم طريقة التعامل العربي مع المرأة فإن المعظم سيعتقد أنه يريد لها تحوّلاً في سلوكها الاجتماعي الشكلي بحيث تغدو صورة ممسوخة عن المرأة الغربية، ولذلك نرى ان الكثير من التيارات السياسية والفكرية التي لا تنسجم مع الغرب تتجنّب الحديث عن حقوق المرأة خوفاً من الظن بأنّها تتملق الغرب أو تتقرب منهم، في إشارة إلى سيادة الفهم المغلوط لحقوق المرأة وربطها بالنموذج الغربي.
ما دفعني للبدء في كتابة هذه السطور هو مشاهدتي لشابّان عربيّان في كوالالمبور يلاحقان فتاة عربية أيضاً، وحين اقتربت منّي الفتاة همست لها مواسياً ما هذه التفاهة؟ قاصداً ما قام به الشابان، فقالت لي: هل ترى العرب؟ حتى الحجاب لا يمنعهم من المعاكسة، فكان ردّي السريع؛ أين هو الحجاب؟ فقد كانت ترتدي ما هو أشبه بالطلاء على الجسد - المعروف باسم (فيزون) – وتغطّي شعر رأسها. امتعظت من ردّي ولملمت ثقتها المصطنعة وقالت بهدوء مرتبك: ظننتك متحضراً لكن يبدو أن كل رجال العرب سواء في التخلف والرجعية.
تجنّبت الرد عليها مباشرة، وأردت أن أدوّن ردي في هذه السطور علّها تكون رسالة لها ولغيرها، فبالإضافة إلى ماسبق، أورد الآتي:
أولاً: إذا ما اتفقنا على أن معنى الحضارة والتقدم والحرية يمكن اختصاره في (الفيزون) فإني أعترف برجعيتي، لكنّي لا أظنّ أن هناك توافقاً على ذلك بين أي شخصين، كما أودّ الإشارة هنا إلى رفضي لتقييم لباس ما ولا أدّعي علمي بمواصفات يمكن اعتبارها مثالية للملابس، كما أنّي لا أدافع عن الحجاب أو نقيضه، وإنما اعتبر اللباس أحد ملامح الهوية وجزء مكمّل للسلوك الفردي والجماعي.
ثانياً: إن استيراد جزء من الهوية الغربية وتركيبه على الهوية العربية سيخلق مشكلة يمكن إيجازها في تناقض عناصر هذه الهوية بشكل يدفع إلى مشكلة نفسية ومرض اجتماعي. كما أن عملية استيراد السلوك الفردي بشكل منقوص أو خاطئ سيؤدي إلى حالة من الاغتراب لدى الفرد، فلكل حضارة مجموعتها القيمية المتكاملة، فإن تم إدخال جزء متناقض مع هذه المجموعة فإن ذلك سيقود إلى علاقات إنسانية موتورة.
وفيما يتعلق بلباس المرأة، يمكن القول إن استيراد شكل اللباس الغربي من قبل نساء لا يمتلكن القيم الغربية الأخرى المنسجمة مع هذا اللباس، فإنها لا محالة ستكون غريبة في مجتمعها مدّعية أنها حرة في مجتمع متخلف. ربما تكون المرأة حرة في طريقة لباسها، لكنّها إن اختارت لباساً غربياً كأسلوب حياة فعليها أن تتقبّل الشق الآخر من هذه الثقافة فيكون لديها الاستعداد النفسي لتقبل ردود الأفعال على هذه الملابس من إعجاب أو رفض، فالمرأة الغربية ستقابل الإعجاب بالشكر، وعلى العربية أن تحذو حذوها إن أرادت استيراد ثقافتها بشكل متكامل.
قد يرد أحدهم إن ما يقوم بها شباب العرب ليس إبداءً للإعجاب أو المجاملة وإنما ملاحقة وتحرّشاً، وهذا صحيح، لكنّ هذا السلوك أيضاً هو نتاج الاستيراد المنقوص من الغرب، فإمّا أن تُبقي المرأة العربية على الزي العربي المحتشم فيبقى الحياء لدى الشباب العربي وإما أن تستورد لباساً غربياً وتتقبل كل ما هو مكمّل لهذا اللباس من ثقافة المصاحبة والمواعدة والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، فإن هي استوردت الملابس ورفضت تكييف سلوكها بما ينسجم مع هذه الملابس فإن الطرف الآخر من المعادلة وهم الشباب سيكيّفون سلوكهم بما ينسجم مع اللباس الغربي والعقل الشرقي، فتصبح النتيجة انحرافاً وانجذاباً عدوانياً نحو الأنثى.
ثالثاً: إن الفكرة الأساسية من اللباس هي الستر ومن البديهي أن يكون جميلاً نظيفاً، لكن حين يفقد اللباس وظيفة الستر ويتم التركيز على جوانب جمالية فهو بذلك يتحوّل إلى وظيفة أخرى هي العرض، بمعنى تحويله إلى أدة والجسم إلى مادة. المادة بلغة الاقتصاد سلعة، والعرض بنفس اللغة تقابله عملية أخرى هي الطلب، وبذلك يصبح النموذج الغربي للباس المرأة ركيزة أساسية من ركائز الفكر المادي الذي حوّل الإنسان إلى شيء كما أشار عبد الوهّاب المسيري، وهو ما حول معظم القيم المعنوية إلى قيم مادية خاضعة لقانون العرض والطلب.
قبول المرأة العربية لنموذج اللباس الغربي من المفترض أن يعني قبولها ايضاً بأن جسدها تحوّل إلى شيء يعرض من خلال لباسها كسلعة قابلة للطلب في أي وقت ما دام العرض مستمراً، أما تلك التي تصرّ على استخدام اللباس كساتر جميل فهي أخرجت جسدها من دائرة العرض واحتفظت به كقيمة إنسانية، وعليه فإن الطلب غير مسموح لأن الجسد ليس سلعة، فيما تحتفظ هي بالحق في هبة جسدها لمن تختاره وفق علاقة إنسانية قويمة.
رابعاً: إن النقد السابق ليس للباس ما وإنما هو نقد لثقافة استيراد القيم المتناقضة مع الهوية بغض النظر عن أهمية هذه القيمة، وهذه المسألة ليست مرتبطة فقط باللّباس، فاستيراد الديمقراطية مثال آخر على الاستيراد المنقوص، فمحاولة تطبيق الديمقراطية في المجتمعات العربية الأبوية سيعني تناقضاً بين عناصر الهوية، ورغم أهمية الديمقراطية ومميزاتها فإن العمل بها في ظل منظومة القيم الأبوية يعني تشويهاً لها كأداة، مما سيؤدي -كما يقول أحد المنظّرين ضد الديمقراطية-، إلى أن يكلّف شخص ما بقيادة حافلة مليئة بالركاب لأن معظم الركاب اختاروه فيما هو لا يعرف ما هي الحافلة، بل ويتوقعوا منه أن يوصلهم بأمان إلى حيث أرادوا.
وأخيراً: إنه من المثير للاشمئزاز أن تقابل سؤالاً أو نقداً بإطلاق الأحكام على السائل والمنتقد بأنه رجعي متخلف، فإن كان من الحرية أن يلبس المرء ما يشاء فإنه من الحرية أن يعبّر الآخرون عن إعجابهم أو رفضهم لهذا اللّباس، ومن الحضارة أن تتقبل موقف الآخرين ورأيهم فتقبله بالنقاش لا بالأحكام النهائية.
التعليقات (0)