مواضيع اليوم

الشرق .. كم من طفل شرده الجوع ؟ وكم من يتيم لفظته الشوارع ؟

بقلم/ عبدالهادي محمود كسلا

إستمراراً لما بدأناه في الحلقة الماضية ( كسلا .. إستمرار الركوض وراء لقمة هاربة لا تنتظر ) والتي عكسنا خلالها واقع الباعة المتجولين بأعمارهم المختلفة صغار وشباب وكبار سن بولاية كسلا. حيث تناولنا معاناتهم من خلال قصص وحكايا مؤلمة عكسو لنا كيف يكافحون لأجل البقاء لا أكثر.
اليوم أجتهد الكتابة في قضية مشابهة لها ، فأكثرها من واقع ميداني والقضية هي واقع أطفال الشوارع في شرق السودان ، وقبل الولوج والكتابة عن واقعهم الأليم لابد من أن أوضح للقارئ من هم أطفال الشوارع لأن الكثيرين باتو يعتقدون أنهم مجهولي الأبوين ليس كذلك فأولاً يجب أن نعرف بأنهم الأطفال تحت سن 18 عاماً الذين يعيشون بلا مأوى ويقضون ساعات طويلة من يومهم أو يومهم كله بالشوارع وهنالك إختلاف في تعريفهم فبعضهم يحددون طفل الشارع بأنه الطفل الذي يعيش بصورة دائمة في الشارع بلا روابط أسرية أو بروابط أسرية ضعيفة ، ويذهب آخرون لضم كل الأطفال العاملين في شوارع المدن لتلك الفئة.إلا أن اليونسيف قد قسمتهم لثلاث فئات تمثل الفئة الأولى فئة القاطنين بالشارع وهم الأطفال الذين يعيشون في الشارع (بصفة عامة بما يضمه من مبان مهجورة ، حدائق عامة وكباري وأماكن أخرى) وهم أطفال يعيشون في الشارع بصورة دائمة أو شبه دائمة بلا أسر وعلاقاتهم بأسرهم الأصلية إما منقطعة أو ضعيفة جدا. والفئة الثانية هي فئة العاملين بالشارع وهم أطفال يقضون ساعات طويلة يومياً في الشارع في أعمال مختلفة غالباً تندرج تحت البيع المتجول والتسول. و أغلبهم يعودون لقضاء الليل مع أسرهم وبعض الأحيان يقضون ليلهم في الشارع والفئة الأخيرة هي أسر الشوارع وهؤلاء هم أطفال يعيشون مع أسرهم الأصلية بالشارع. وتبعاً لهذا التعريف قدرت الأمم المتحدة عدد أطفال الشوارع في العالم بـ150 مليون طفل. ولهذه الظاهرة أسباب تختلف من مكان لمكان ومن دولة لدولة لكن هنالك أسباب تبقى هي وراءها وأهمها هو عدم اهتمام الحكومات بمتوسط دخل الفرد وعدم إنشاء دور الرعاية لهم . وكذلك الفقر‏ الذي جعل الأسر تدفع بأبنائها إلي ممارسة أعمال التسول والتجارة من بعض السلع الهامشية مما يعرضهم لانحرافات ومخاطر الشارع‏ لكن لم يكن ليحدث هذا لو وجد الإنسان فرص عمل تحفظ حياته وكرامته ويؤمن مستقبل هؤلاء الأطفال ، فقد تحدثنا وتحدث عشرات الكتاب والخبراء أن السياسات الإقتصادية الخاطئة وسياسات أخرى خططت لها ومارستها حكومة المؤتمر الوطني تسببت في ظهور مجموعة ظواهر سالبة وسط المجتمع .
في الشرق نجد أطفال بلا مأوى ، بلا جدران تحتويهم ، أخذوا أسقف الرواكيب البالية في أسواق القرى والفرندات بالمدن وبعض الأشجار الظليلة هنا وهناك ، ساتر لهم كنوع من الحماية ، لأن الإنسان بطبيعته يبحث عن مأوى يحميه من قسوة الطبيعة ، سكن في البداية الكهف ثم بنا الأعشاش و بعد أن مر بمراحل تطوير نفسه و عقله أخذ يشيد المباني ليستقر بها .. يبني جدران لتشعره بالأمان . وليت القوالب الإسمنتية فقط تجلب الأمان لهؤلاء الأطفال ، بعضهم يمتلكون الحوائط و لكنهم لا يمتلكون الرعاية و الحب من أهل دارهم التي تفوح منه رائحة الفقر .
تراهم فوق أرصفة الشوارع والأزقة والأشجار كأكوام القماش المتسخ ، البعض ينظر لهم نظرة اشمئزاز و البعض يلقي لهم بضعة قروش كنوع من التعاطف و لكن الأغلبية السائدة تحتقر وجودهم و تهمشهم و تحول نظرها عنهم حتى لا تتأثر مشاعرهم ، و لكن الحقيقة التي تفرض نفسها علينا هي أن عدد أطفال الشارع وفق التصنيف الثلاثي لليونسيف في إرتفاع جنوني نتاج الثالوث المدقع الذي يضرب الإقليم بصورة أذعجت أصدقاء نظام الخرطوم والنظام ذاته قبل أعداءه أكدوا بعدد من تقارير الرعاية الاجتماعية وتقارير بعض منظمات المجتمع المدني قد تجاوز عدد هؤلاء الأطفال بشرق السودان الـ75ألف طفل على مستوى الإقليم .
و تأتي هنا علامة استفهام ، ما هو مصير هؤلاء الأطفال الهاربين من واقعهم المؤلم إلى واقع أشد ألماً يمحو كل معالم طفولتهم و حقوقهم ؟ ما مصير سكان الإقليم بـ75ألف طفل كارهين الحياة ممتلئين بالغضب ، لا يبالون لشيء ، تعلموا الحياة و تعايشوا معها بالفطرة ؟
ليس موضوعي مناقشة حلول جذرية لطفل الشارع بهذا الإقليم المنهك الذي عانى ما عانى نتاج سياسات النخب الحاكمة منذ الإستقلال ، وقد إزداد سوءاً في حقبة هذا النظام فبرغم أهميته الاستراتيجية كمنفذ وحيد لصادرات و واردات البلاد لكن صار سكانه كالأيتام في موائد اللئام . وهنا كل ما أبتغيه هو أن ألقي الضوء على هذا الكم الهائل من أطفال اليوم وقادة المستقبل و أتساءل كيف سيصبحون قادة وهم في الشوارع يبحثون عن فتات الأطعمة بين النفايات وبين الرواكيب والفرندات ومناسبات الزواج . أرفع صوتي لينتبه بعض البشر أن هناك جريمة في حق أطفال الشرق وأن حياتهم يجب أن نتوقف فيها و نفكر قليلاً من أجلهم لحل مشكلاتهم والتي أولها يجب أن تبدأ بإخراج إنسان إقليم شرق السودان من حالة الفقر التي يعيش فيها ومن ثم إعطاءه حقوقه كاملة دون نقصان فهي ليست مِنّة لكنها حقوق طالما هم مواطنون بأرضهم لهم سهْمُهم الإقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في الدولة السودانية .
للظاهرة إفرازات سالبة في صحة هؤلاء الأطفال حيث نجد جلهم مصابون بأمراض وإصابات عدة وفق ما ذكرته عدد من منظمات المجتمع المدني أبرزها ( التسمم الغذائي نتيجة أكل أطعمة فاسدة – الجرب – التايفويد وهو نتيجة تناول خضروات غير مغسولة يجمعها أطفال الشوارع من القمامة – الملاريا وهي نتيجة أن أطفال الشوارع معرضون لكميات هائلة من الناموس الناقل للملاريا أثناء نومهم في الحدائق العامة ليلاً دون أغطية تحميهم – الأنيميا وهي نتيجة عدم تنوع واحتواء الوجبات التي يأكلونها - الكحة وتعب بالصدر: وذلك نتيجة استنشاق أطفال الشوارع لعوادم السيارات لتعرضهم لها طوال اليوم بالإضافة إلى تدخينهم السجائر وتعرضهم لنزلات البرد في الشتاء نتيجة بقائهم في الشارع .
ومن وجهة نظري التي سيتفق فيها معي عشرات المئات بأن المسئول الأول في هذا الجُرم هي الحكومة التي جعلت سكان الإقليم جميعهم معدومين أي تحت خط الفقر . ففي ظل الوضع الذي يكابده كثير من الأطفال في السودان عامة والشرق بصفة خاصة وغياب الدور الحكومي في إيجاد حلول لمثل هذه المشاكل ، التي بلا شك ستؤثر على مستقبل البلاد بشكل عام ، فهنالك الكثير من الأطفال الأذكياء الذين يمكن أن يفيدوا البلاد نجدهم يتسربون من التعليم بسبب الفقر من جهة وغالبا بسبب فقدان عائل الأسرة إما مرضاً أو فقراً . فنجد اليوم نسبتهم في حالة إرتفاع مستمر ، وأصبح القليل من أبنائنا من يلتحق بالتعليم ، وصار طموح الحصول على عمل لتحسين الوضع المعيشي للأسرة هو الهم الأول لدى الجيل الذي لم يبلغ سنة الثامنة عشر بسبب تفاقم الفقر والذي بتفاقمه يكون مشجعاً ومسبباً وداعماً للجهل والمرض . و ما يُطلب هو مزيد من تفاعل منظمات المجتمع المدني وقبلها الحكومة بإعتبارها المسئول الحقيقي للعمل على معالجة مثل هذه الإشكالات حتى لا يُصبح هؤلاء الصغار بيئة خصبة للفساد بأنواعه .
وبرغم ذلك أرى وجوب عدم انتظار حلول تنزل من السماء فالله لم يخلق الشعوب لكي تستكين ، والحق يؤخذ باليد وعلو الصوت سلماً . فهؤلاء الأطفال ليس عندهم من يجلب لهم حقوقهم ، و بدافع الإنسانية المشتركة بيني و بينهم سوف يُعبر هنا قلمي عن لسان حالهم عسى أن تتعرفوا عليهم و تشعروا بهم فربما تتغير النظرة نحوهم ، و يتغير رد الفعل اتجاههم وفي النهاية أترك لكم الأسطر القادمة ، والتي هي عبارات ليراعي كأنه قد اختطفها من أفواههم وهي لكم و لي و لمن يريد أن يسمع ويعرف عنهم وهم يقولون لنا جميعاً: لسنا مجرمين ولا متمردين فقط نحن أطفال خائفين من الحكومة التي لا تريد أن تفهمنا وتفهم حاجتنا في هذه الحياة نشكوها لربنا وخالقنا ونحن نخاف من برد الشتاء ومن حرارة الشمس ونخاف من نظراتكم لنا ومن ردود أفعالكم تجاهنا فبعضكم ردود فعله قاسية لأنكم لم تعيشو ما نعيش وإن أردتم أن تعرفو عن بيوتنا فالهروب عنوانا وبيوتنا مليئة بالغربة والمهملين من الأطفال ومليء بالضرب والإهانات وأجسادنا تحمل حروق السجائر وأما إن سألتم عن عطورنا فالعطر هو الفقر الذي يفوح منا ولم يكن ذنب لنا سوى إهمالنا وإفقار أسرنا وأضطر بعضنا للعمل لإطعام الأسرة وبعضنا تشرد ليخفف العبء على أسرته وبعض آخر ليعلم آخرين أصغر منه سناً وبعض كذلك تركو حياة الأسر بعد أن لم يجدو الأمان داخل أسرهم بسبب إنفصال الأبوين . في بعض الأوقات تجدوننا نسرح وأحياناً تجدونا نلعب ساعات طوال مع ظل أجسادنا أو مع كلاب تبحث معنا على طعام في صناديق الزبالة وفي وقت آخر نجد أنفسنا نحلم بأن نصبح في المستقبل المجهول نجارين مهرة وبعضنا يحلم بأن يدخل لكلية تدرس الآثار أو الطب لنعالج بعضنا البعض أو معلم لنعلم أنفسنا بإختصار لسنا مجرمين ولا متمردين فحكاياتنا كثيرة وكبيرة ، ليس لذنب إرتكبناه فإن أردتم مساعدتنا ساعدونا وإن لم تساعدونا فالذي أتى بنا للدنيا قادر على إطعامنا وحمايتنا .
وأخيراً قلمي عكس لكم واقعهم ومشكلتهم وترك لكم الخيار وهذا لعامة الناس أما للمنظمات الوطنية والأجنبية والناشطين أقول أوقفو الجُرم الذي يمارسه النظام بحق إنسان هذا الإقليم ، وعلى الحكومة أن تستجيب إن كانت تراهم مواطنين كغيرهم وأما إن كانو غير ذلك ولا يستحقون حقهم في الحياة والماء والصحة والتعليم والعمل إلى آخر الحقوق المعروفة ، فهنا لهم أن يقرروا مصيرهم بين أن يرتضو بهذا الواقع في هذا الوطن أو أن يبدأو مرحلة جديدة من النضال والكفاح بشتى الوسائل ليعودوا لواقعهم قبل ميلاد دولة السودان ، ففي نهاية الأمر يجب أن تدرك الحكومة وكل النُخب بأن الإنسان سيختار الحياة إن تم وضعه بين أن يكون أو لا يكون وسيمشي في الذي كتبته له الممارسات والسياسات فبإرادة لا تقهر سيصل هذا الإنسان ولو بعد مائة ألف عام ولا ضير في طول لياليها لأنه كفاح ونضال البقاء على البسيطة وسينتصر .

كفى وسنلتقي بإذنه تعالى




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !