فى مثل هذه الأيام من خمسة وأربعين عاما , وبينما الأرض العربية مجللة بعار الهزيمة , وآلاف الضحايا متناثرو الأشلاء فوق رمال الجولان وسيناء والضفة الغربية , كان كبيرهم الذى علمهم السحر , ولا يزال سحر بيانه وفصاحة لسانه يضربان العقل المصرى والعربى حتى الآن , كان يصلى لله شكرا على الهزيمة التى أصابت العرب على يد إسرائيل والتى ضربت عبد الناصر فى مقتل وأسقطت جبروته وتجبره , كان الشيخ الشعراوى يرى ان الهزيمة إنما جاءت انتقاما من الله بسبب خروج عبد الناصر عن نهج الإسلام وعدم تطبيقه لشريعته , واضطهاده للإخوان وسجن بعضهم , وتم ترويج هذه الفكرة وزرعها فى العقل المصرى بالذات , ولم يتحدث أصحاب هذا الفكر عن سوء التخطيط , ووضع الرجال حيث لا يجب ان يوضعوا , وإهمال المنهج العلمى , ,عدم التدريب على استخدام التقنيات الحديثة , والاستغراق فى هوس الهتافات وأحاديث البطولة , . إن الهزائم التى تصيب الشعوب تكون دروسا قاسية تتعلم منها الأمم وتأخذ الدروس وتتجه بقوة إلى المستقبل , ولكن عندنا جعلنا الهزيمة وسيلة ارتداد للماضى , واستدعينا تراثه لنتلحف به كى لا نشعر برعشة العار , . وبعد رحيل عبد الناصر ركز السادات على هذه الثقافة ليزيد من أسهمه فى وجدان الشعب المهزوم . وبعد نجاح الجيش المصرى فى عبور القناة فى أكتوبر 73 تناقل الكثيرون أن بعضهم رأوا الملائكة يحاربون مع الجيش المصرى ! . وانتشر هذا الفكر الخرافى شيئا فشيئا , وأطلق السادات يد التيار الدينى فى الجامعات المصرية يتصدى للحفلات الفنية ويوقف المحاضرات أثاء أوقات الصلاة , كما أطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن , إلى أن تم اغتياله على يد الذين مكنهم من عقل وعصب الوطن , وجاء حسنى مبارك الذى مرقت رصاصات الموت بجوار رأسه فخصص معظم موارد الدولة لقوى الأمن التى تسمع دبيب النمل لتكفل حمايته , وفى ذات الوقت سمح للقوى السلفية وللتيار الدينى بصفة عامة أن يلعب فى الوعى المصرى حتى يظهر بمظهر الحريص على الدين استرضاء لهذه القوى المتربصة , وفى عصره تغير شكل المجتمع المصرى وغطى الحجاب رؤوس النساء ثم تراجع أمام زحف النقاب . وأخيرا سقط مبارك , أسقطته ثورة قام بها شباب قارن بين حال وطنه الموغل فى التخلف والاستبداد والخرافة وبين حال شعوب أخرى تعيش كرامة الحياة . نجحت الثورة إذن , ولكن أصحاب الفكر الذى استغل الهزيمة لصالحه , والذى استقوى فى مصر بعد هزيمة المشروع الناصرى الذى كان أقرب إلى العقلانية . نعم انا هاجمت عبد الناصر فى مقالات عدة , هاجمت تركه مقاليد الوطن للمقربين منه , وتركهم يعبثون بمصيره حبا للسلطة والزعامة , ولكن مشروعه الفكرى التقدمى كان مشروع نهضة حقيقية . أقول إن الذين استفادوا من هزيمة الوطن , ومن انتكاسة المشروع الناصرى , كانوا الأقوى تأثيرا فى الشارع المصرى , فسلبوا ثورة الشباب النقى التقدمى , وأعتقد أنهم يقطفون الآن ثمرة هزيمة 67 التى طال انتظارهم لها . لقد فرحوا بهذه الهزيمة , وسجد كبيرهم لله شكرا عليها , ولم يعش الشيخ ليشهد جنى الثمار , ولكنه الآن سعيد قرير العين فى آخرته ,. وقبل أن أختم مقالى هذا فلا بد من القول إن مسئولية الهزيمة العسكرية التى حلت بالوطن احتلالا وهوانا عام 67 والهزيمة الحضارية والإنسانية التى حلت به عامى 2011 و2012 إنما يتحملها العسكر قدر وطننا المشؤوم ابتداء من عبد الناصر وانتهاء بطنطاوى
التعليقات (0)