قال الدكتور إبراهيم الجعفريّ: نحن أمام مُشكِلة الإرهاب وهي من جنسيّات مُتعدِّدة، ولسنا أمام مُشكِلة عراقيّة-عراقيّة، ولا أمام مُشكِلة عراقيّة-عربيّة، ولا أمام مُشكِل عراقيّ- إسلاميّ. نحن أمام مُشكِل مُعولـَم.
مُوضِحاً: عندما سقطت الموصل ضحيّة هذه الحملة الشرسة والوحشيّة أوصلنا خطابنا إلى كلِّ العالم، وتعاطفت دول العالم معنا كلٌّ بحسبه. دول عربيّة، ودول إسلاميّة، وكذلك ذهبنا إلى نيويورك، وفيها كانت الاستجابة مُمتازة، وكلـُّها ركَّزت على مجموعة نقاط -في تقديري- تـُشكـِّل بمجموعها مُركَّباً استراتيجيّاً مُهمّاً، ومنها: أنَّ داعش لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة، وأنَّ الإسلام براء منها.
مُشدِّداً على أن تكون المُساعَدة من دون دخول قواعد التحالف الدوليِّ إلى العراق، بل تقتصر على الدعماً الجوّيّ، والدعم الإنسانيّ.
مُبيِّناً: أنَّ تجربة الحشد الشعبيِّ في العراق تجربة رائعة، وفيها من خيرة الناس، وأنا أعرف بعضهم ممَّن كانوا معي في المُعارَضة، وهم مُخلِصون، مُؤكِّداً أنَّ ما يُشاع في بعض وسائل من تجاوزات تـُنسَب زيفاً إلى القوات المُسلـَّحة، وقوات الحشد الشعبيّ ما هل إلا تخرُّصات لا أساس لها من الصِحّة. أمّا مرجعيّة الحشد الشعبيّ في القرار، والحركة، والتنفيذ فهي بيد القوات المُسلـَّحة العراقيّة؛ لذا فازت، ونجحت، وتقدَّمت.
مُبدياً عزم العراق على أن يـُرسي حلَّ المُشكِلة على قاعدة التفاهم السياسيِّ، ولم ننبرِ لمُواجَهة داعش بحُلـُول عسكريّة فقط، بل فكَّرنا جيِّداً بالبيئة التي تـُشكِّل مناخاً مُناسِباً لوجود داعش في العراق، فوجدنا أنَّ بعض النعرات الطائفيّة لدى بعض السُنـّة على الشيعة، وبعض الشيعة على السُنـّة، علاوة على خلافات بين بعض السياسيِّين، وبعضها كانت أنَّ الحكومة كانت تـُعاني من فراغين أساسيِّين في وزارتي الدفاع والداخليّة، وكذا وجود فجوة بين الحكومة الاتحاديّة في بغداد وحكومة الإقليم في كردستان؛ لذلك قلبنا هذه المشاكل إلى حُلـُول، واتفقنا على ميثاق شرف يضمّ عشرين بنداً، وشرعنا فيه، وكان أوَّل هذه البُنود في مُعاهَدة الشرف هو تشكيل حكومة تتسع مُكوِّناتها لمُكوِّنات الشعب العراقيِّ، مثلما تتواجد جميع الشرائح الاجتماعيّة في البرلمان.
مُخاطِباً العرب: أنتم أشقاؤنا، وليس لدينا عُقدة من أن نأخذ من أيِّ شخص منكم، وهناك بون شاسع بين ما تسمعون، وما نراه نحن على الأرض -وثقافة المسموع تأتي بالدرجة الثانية بعد ثقافة المرئيّ- تفضّلوا، وزورا العراق، أو ابعثوا مَن يُمثـِّلكم ستجدون العراق على غير ما تسمعون.
نافياً وجود قوات إيرانيّة على الأرض، معتبراً أنَّ الموجود هو مُستشارون على الأرض فقط، وقد فتحنا مبدأ الاستشارة ليس فقط مع إيران، بل مع كلِّ الدول، إذ يُوجَد عندنا مُستشارون إيرانيّون، وبريطانيّون، وأستراليّون، ونيوزلنديّون.
وحول نازحي الأنبار أفصح الجعفريّ: لا يُوجَد رفض لدخول الأنباريِّين إلى بغداد، مُستدرِكاً: يُوجَد تشدُّد على بعض مَن يدَّعون أنهم من مُواطِني الأنبار، ورُبَّما يكون عليهم شبهة إرهاب، فيكون هناك تشدُّد بالتفتيش، لكنَّ قلوب العراقيِّين، ومُدُن العراق مفتوحة لكلِّ إخواننا في كلِّ مكان. أنا أتكلم على مدينتي -وأنا ابن كربلاء- موجود فيها مُواطِنون من المناطق المُتضرِّرة من الموصل، ومن الأنبار ممَّن سبق أن تعرَّضت الأنبار إلى ضربة عنيفة سابقاً، فلاذوا، وشرَّفونا في كربلاء، واحتضنهم الكربلائيّون وخصَّصوا لهم مناطق للسكن، وهم إلى الآن يسكنون في منطقة بين النجف وكربلاء.
جاء ذلك في كلمة ألقاها الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة خلال لقائه مع السفراء العرب في الجمعيّة العُمُوميّة للأمم المُتحِدة بنيويورك.
وإلى حضراتكم النصَّ الكامل للقاء الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير الخارجيّة العراقيّة مع السفراء العرب في الجمعيّة العُمُوميّة للأمم المُتحِدة بنيويورك
رئيس الجلسة: اجتمعنا هذا اليوم، ويسرّني أن يكون معنا الدكتور إبراهيم الجعفريّ وزير خارجيّة العراق؛ ليُطلِعنا على التحرُّك السياسيِّ على المُستوى الإقليميِّ، والدوليِّ التي يقوم بها معاليه من خلال تواجُده في نيويورك الآن.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: بسم الله الرحمن الرحيم
في بداية الحديث أتقدَّم لكم بوافر الشكر، والتقدير لهذا اللقاء بالخُصُوص السيِّد رئيس الجلسة على إتاحة هذه الفرصة لقراءة العراق سواء أكان من الداخل العراقيِّ، أم الخارج العراقيّ، وأتحدَّث هنا عندما أجالِسكم باعتبار أننا عائلة واحدة يهمُّنا جميعاً أيُّ بلد من بلداننا.
الحركة الدبلوماسيّة التي بدأنا بها منذ تشكيل الحكومة إلى الآن قامت على أساس الانفتاح الاستراتيجيِّ على الدول خُصُوصاً دول الجوار؛ لذا حظيت باهتمامنا، وأخذت الأولويّة بين زيارة بعض الدول، وبين استقبالنا الكثير من الدول سواء على مُستوى الرؤساء، أم الوزراء، أم أيّ صفة أخرى. ولعلّي أقول: الخطر ليس عربيّاً، ولا خطراً إقليميّاً إنما هو خطر دوليّ، ونحتاج إلى المزيد حتى نصل إلى هذه النتيجة. يكفي أن نقول بكلِّ صراحة: إنَّ هناك 62 دولة تواجدت في العراق من خلفيّات مُتعدِّدة.
نحن أمام مُشكِلة الإرهاب وهي من جنسيّات مُتعدِّدة، ولسنا أمام مُشكِلة عراقيّة-عراقيّة، ولا أمام مُشكِلة عراقيّة-عربيّة، ولا أمام مُشكِل عراقيّ- إسلاميّ أعني: الدول الإسلاميّة. نحن أمام مُشكِل مُعولـَم، أي: إنَّ كلَّ دول العالم من أقصى قارّاتها إلى أدناها ساهَمَ أفرادها، ومُواطِنوها بالتواجُد؛ لذا عقدنا العزم على أنـَّه يجب أن نـُواجه هذه الحالة، وعندما سقطت الموصل ضحيّة هذه الحملة الشرسة والوحشيّة أوصلنا خطابنا إلى كلِّ العالم، وتعاطفت دول العالم معنا كلٌّ بحسبه. دول عربيّة، ودول إسلاميّة، وكذلك ذهبنا إلى نيويورك، وفيها كانت الاستجابة مُمتازة، وكلـُّها ركَّزت على مجموعة نقاط -في تقديري- تـُشكـِّل بمجموعها مُركَّباً استراتيجيّاً مُهمّاً، ومنها: أنَّ داعش لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة، وأنَّ الإسلام براء منها. كلُّ رؤساء العالم، وكلّ وزراء الخارجيّة، ورؤساء الوزراء تحدَّثوا بلغة واحدة من على منبر نيويورك في الشهر التاسع من العام الماضي، وفي الوقت نفسه طلبنا أن تكون هناك مُساعَدة من دون دخول قواعد التحالف الدوليِّ إلى العراق، وتـُعيد شبح شيء قريب من الاحتلال إلى الأرض العراقيّة؛ لذا طلبنا دعماً جوّيّاً، ودعماً إنسانيّاً؛ لأنَّ حوالى مليونين وستمائة ألف مُواطِن نزحوا من الموصل جراء عدوان داعش، ومن الأنبار نزح مُواطِنون إلى مناطق أخرى؛ فكان هناك تجاوب جيِّد من قِبَل دول الجوار، ومنها: المملكة السعوديّة، والكويت، وإيران، وبقيّة الدول الأخرى، وعبرنا إلى حوض ما بعد الحوض الجغرافيِّ، وتجاوبت معنا الكثير من الدول، ووقفت إلى جانبنا، بل أكاد أجزم بأنـَّه ما من دولة إلا وتحرَّكت مُستجيبة للطلب العراقيِّ. كلٌّ أخذ الشيء الذي يستطيع أن يستجيب به إمّا خدمات إنسانيّة، معونات، أو حتى أسلحة، لكنَّ الخط الأحمر هو إننا قلنا: لا نـُريد قوات على الأرض، وتبني لنفسها قواعد؛ لأننا نعتبره مسّاً بالسيادة، وإعادة العراق إلى ما قبل انسحاب القواعد الأجنبيّة.
وكلما مضى الوقت نتقدَّم مع إخواننا، وشركائنا بشكل مُستمِرّ، ووجدنا بعض التطوُّرات الأخيرة التي تحدث بشكل أو بآخر تصبُّ في صالح مشروع الحلِّ، وبعضها رُبّما يُشكـِّل عقبة، ولكن ليس أمامنا إلا الحلول الدبلوماسيّة. نحن نعرف أنَّ المنطقة مضطربة، وبمرور الأيّام تظهر مشاكل جديدة قد تـُساهِم في تفعيل هذه القضيّة، وهو: إنـَّنا عازمون على أن نـُرسي حلَّ المُشكِلة في العراق على قاعدة التفاهم السياسيِّ، ولم ننبرِ لمُواجَهة داعش بحُلـُول عسكريّة فقط، بل فكَّرنا جيِّداً بالبيئة التي تـُشكِّل مناخاً مُناسِباً لوجود داعش في العراق، فوجدنا أنَّ بعض النعرات الطائفيّة لدى بعض السُنـّة على الشيعة، وبعض الشيعة على السُنـّة، علاوة على خلافات بين بعض السياسيِّين، وبعضها كانت أنَّ الحكومة كانت تـُعاني من فراغين أساسيِّين في وزارتي الدفاع والداخليّة، وكذا وجود فجوة بين الحكومة الاتحاديّة في بغداد وحكومة الإقليم في كردستان؛ لذلك قلبنا هذه المشاكل إلى حُلـُول، واتفقنا على ميثاق شرف يضمّ عشرين بنداً، وشرعنا فيه، وكان أوَّل هذه البُنود في مُعاهَدة الشرف هو تشكيل حكومة تتسع مُكوِّناتها لمُكوِّنات الشعب العراقيِّ، مثلما تتواجد جميع الشرائح الاجتماعيّة في البرلمان.
هذه التخرُّصات التي تسمعونها من هنا وهناك لا أساس لها من الصِحّة. هذا هو الفرق بين أن تقرأوا العراق من خلال العراقيِّين، وبين أن تقرأوا العراق من غير العراقيِّين إن لم يكونوا أعداءً للعراق. ما بالكم لو أقرأ السودان من المُضادّ، وأقرأ الصومال من المُضادّ، وأقرأ قطر من المُضادّ، وأقرأ عُمان من المُضادّ، وأقرأ ليبيا من المُضادّ؟ سأحصل على صورة لكم تختلف تماماً عن الواقع فإمّا أن أذهب إلى هناك، وإمّا أن أكون مُنصِفاً، وأسمع منكم؛ لأنكم كما يقول المثل العربيّ: (أبناء مكة أدرى بشِعابها)؛ لذا أرجو أن تقرأوا العراق من خلال العراقيِّين، ما لهم، وما عليهم. قد يكون هناك مُلاحَظات، ولكن لا يُوجَد بلد إلا وفيه مُلاحَظة؛ والمُلاحَظة مدعاة للحوار، ومدعاة للنصيحة، ليس من موقع التبرُّم، والاستعلاء، بل من موقع المُشارَكة. فعندما تكون هناك مُشكِلة في الجزائر، أو في الإمارات، أو في البحرين، أو في الكويت ينبري العراق، ويُبادِر، ويستجيب..
أنتم أشقاؤنا، وليس لدينا عُقدة من أن نأخذ من أيِّ شخص منكم، ولكن هناك بون شاسع بين ما تسمعون، وما نراه نحن على الأرض -وثقافة المسموع تأتي بالدرجة الثانية بعد ثقافة المرئيّ- تفضّلوا، وزورا العراق، أو ابعثوا مَن يُمثـِّلكم ستجدون العراق على غير ما تسمعون..
هذه بشكل مُختصَر، وهناك محور آخر، وهو: إنَّ العلاقة بين المركز، وبين إقليم كردستان على أحسن ما يكون، وكذا العلاقة بين القوى السياسيّة المُختلِفة، وهي مُتواجـِدة كلـُّها في الحكومة، وليس لدينا أيُّ مُشكِلة، وتمَّت مُراجَعة الكثير من القوانين التي سبَّبت لبساً، ومشاكل عند بعض المُواطِنين العراقيِّين، ومنها ما يتعلـَّق بقانون المُصالـَحة الوطنيّة، وأمور أخرى.. وهكذا تكون دائماً كما يقول دكتور ميشيل أحد علماء الاجتماع: الحقيقة بنت الجدل.
عندما تدخل في الجدل والحوار المُباشِر تجد الحقائق موجودة؛ لذا لا نخشى الحوار، بل نحن عُشّاق الحوار ندخل بقلوب، وعقول مفتوحة؛ من أجل أن نهتدي، ونصل إلى ما يهمُّ العراق، ويهمُّ منطقتنا.
العراق لكم جميعاً بقوّته، وإذا أصابه ضرر -لا سمح الله- يُصيبكم كذلك. هذه هي العلاقة التي تربطنا بكم، وأنا أشكر السيِّد الرئيس لإتاحة هذه الفرصة لأن أتحدَّث معكم هذا الحديث، وأتمنى أن تـُثروا هذا الحديث بحوار. لسنا طرفين أن تسأل والآخر يُجيب إنما نحن طرف واحد، وحوارنا حوار الذات، وحوار مع النفس. وأروع شيء في الثقافة التي أستقيها هي ليست ثقافة الكتب، بل ثقافة الحوار؛ لأني أشعر عندما أستمع إلى شخص أفتح له قلبي قبل عقلي؛ حتى أستفيد، وأتعلـَّم منه.
شكراً جزيلاً..
أنا لاحظت الصمت الرهيب الذي ساد القاعة بعد حديث دولتكم، ودفعني التجرُّؤ لكسر هذا الصمت. كنتُ أتمنى لو أنَّ القاعة خلت من هذه الأسماء التي أمامنا؛ لأنها تـُقيِّدنا، وتربطنا بمواقف، وأحاديث رسميّة، لكني أستأذن سعادة الرئيس في أن أتحدَّث وكأنّ هذه اللوحات غير موجودة. أنا أتحدَّث معكم بصفتي مُواطِناً عربيّاً أشارككم في تطلعاتكم، وأفكاركم, والله يشهد أنَّ العراق عزيز علينا، وأننا نحبُّ العراق حُبّاً جمّاً، نحبُّ دجلة والفرات، نحبُّ العراق، نحبُّ كلَّ شيء في العراق؛ فإذا قلنا شيئاً عن العراق فهو من باب المحبّة، ومن باب الحرص على مصلحة العراق.
لديّ ثلاثة أسئلة لسيادة الوزير: أنتم ذكرتم أنَّ من الضروريِّ أن لا تسمع، بل ترى. أنتم ترون، ونحن نسمع؛ لذا نسأل: عندما نـُشاهِد، ونسمع أنَّ هناك قوات إيرانيّة شاركت في تحرير (تكريت)، ونسمع أنَّ قاسم سليماني يتبختر في شوارع تكريت، أو في أماكن أخرى.. هل هذا صحيح، أم لا؟ وثانياً: إلى أيِّ مدى يعكس الوجود الإيرانيّ نفوذاً إيرانيّاً ونحن نـُقدِّر أنَّ إيران دولة جارة، ولكنكم ذكرتم أنكم لا تـُريدون قوات على الأرض، أو من باب أولى أن لا تكون قوات على الأرض من دولة أجنبيّة؟ نحن نسمع أيضاً -وليس مَن سمع كمن رأى- لكن نسمع في الأخبار أنَّ المُواطِنين العراقيِّين من الأنبار رُفِض دخولهم إلى بغداد إلا بكفيل؛ وهذا يُذكِّرني بدخول المُواطِن الأجنبيِّ في بلدي، وغيره من الدول. هذه نـُطبِّقها على الهنديِّ، والباكستانيّ، والأجنبيّ من دول أخرى، وتـُطبَّق على بعض الإخوة العرب، ولكن لا تـُطبَّق على المُواطِن. هل هذا النبأ صحيح أساساً، وإذا كان صحيحاً فهل له تبرير بأنَّ مُواطِناً عراقيّاً يدخل إلى المدينة أو إلى عاصمة بلاده ينبغي أن يدخل بجواز سفر، أو شيء من هذا القبيل؟ السؤال الثالث؟ ما مصير مدينة كركوك المدينة التي نعلم أنها مُختلـَف عليها بين الإقليم الكردي وبين الدولة المركزيّة في العراق، ونعلم أنَّ إخواننا الأكراد يُمكِن أن يكونوا قد انتهزوا فرصة الفراغ العسكريِّ الحاصل في شمال العراق، وفرضوا سيطرتهم على كركوك. هل هذه السيطرة دائمة، وثابتة، ومُستمِرّة، أم إنـّها مُؤقتة، أم ماذا؟
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: بسم الله الرحمن الرحيم
أنا سعيد ببلاغة خطابك، واعتزازك بصفتك العربيّة بعيداً عن القوالب الرسميّة التي قد تتبدَّل، فالمُهـِمُّ هو المُحتوى، وقد ثبت عندي أنك تتكلم بصفة شخصيّة، وأنا أبادلك نفس الشيء، وأشكرك على ما قدَّمت من مشاعر باعتزازك بالعراق، وقد سمعتُ هذا الكلام عِدّة مرّات من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله-، وسمعت من الملك عبد الله في آخر لقاء قبل وفاته بأقلَّ من شهر، وهذه تكاد تكون ثقافة مثلما سمعتُ من المرحوم الشيخ عبد الله بن زايد يُؤكـِّدون على أنَّ العراق محط أنظارنا، ومحبّتنا، وقوتنا، وعزّتنا، وهذا أعتزُّ به، وأتشرَّف به، ومشاعركم هذه ليست من ضعفكم، بل من أريحيّتكم، وقوة إرادتكم جميعاً، والعراق لكم جميعاً.
أمّا بالنسبة إلى ما تفضَّلتَ به من السؤال عن وجود قوات إيرانيّة في تحرير تكريت، فأقول: لا تـُوجَد قوات إيرانيّة على الأرض أبداً، إنما يُوجَد مُستشارون على الأرض فقط، وقد فتحنا مبدأ الاستشارة ليس فقط مع إيران، بل مع كلِّ الدول، إذ يُوجَد عندنا مُستشارون إيرانيّون، وبريطانيّون، وأستراليّون، ونيوزلنديّون. وأيُّ دولة أذهب إليها يُعلِن بعضهم استعداده لأن يُرسِل مُستشارين، ونحن نطرح شُرُوطنا مُقابل وجود المُستشارين. فالتواجُد الإيرانيّ لا يعدو أن يكون على مُستوى الاستشارات، ومن غير المعقول حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد أنا أتقبَّل مستشارين من أقصى دول العالم أميركا، وأوروبا، وأفريقيا، وكلِّ دول العالم ولا أتقبّل من دول الجوار الجغرافيّ، أمّا شيء اسمه تدخـُّل في شُؤُوننا فلا نسمح به. ولعلَّ ذاكرتكم تختزل ردَّ فعلي عندما تحدَّث أحد بأننا نعتبر بغداد عاصمتنا، وأطلقته في العلن، ولم أخجل، ولم أستحِ من أن أطلِقه في العلن، وسبَّب له مُشكِلة حتى في داخل إيران، وحُوسِبَ على هذا التصريح. فلا يُوجَد شيء اسمه نفوذ، نعم.. يُوجَد مُستشارون؛ فنحن مُضطرّون ولسنا في نزهة في العراق، نحن فقدنا ثاني أكبر مدينة في العراق بعد بغداد؛ فمن الطبيعيِّ أن نستعين بمُستشارين من كلِّ الدول، فقبلنا الاستشارة من هذه الدولة ومن تلك، ومن جُملتهم من الإخوة في إيران، أمّا رفض دخول الأنباريِّين إلى بغداد فهو غير صحيح، نعم.. يُوجَد تشديد على بعض مَن يدَّعون أنهم من مُواطِني الأنبار، ورُبَّما يكون عليهم شبهة إرهاب، فيكون هناك تشديد بالتفتيش، لكنَّ قلوب العراقيِّين، ومُدُن العراق مفتوحة لكلِّ إخواننا في كلِّ مكان. أنا أتكلم عن مدينتي -وأنا ابن كربلاء- موجودة فيها مواطنون من المناطق المُتضرِّرة من الموصل، ومن الأنبار ممَّن سبق أن تعرَّضت الأنبار إلى ضربة عنيفة سابقاً، فلاذوا، وشرَّفونا في كربلاء، واحتضنهم الكربلائيّون وخصَّصوا لهم مناطق للسكن، وهم إلى الآن يسكنون في منطقة بين النجف وكربلاء.
العراق لكلِّ العراقيِّين. من دون شكّ هذا من جملة ما يُسوَّق من قِبَل العدو الذي يحاربك بالسلاح، وبأدقِّ العمليّات الإرهابيّة، وأكثر كفاءة بأن يُحاربك بالإعلام، فيُسرِّب هكذا معلومات.
لا يُوجَد أكثر من تشديد حول مَن تحوم حوله الشبهات، والتـُهَم.
بالمُناسَبة هناك عدد غير قليل من التزاوُج بين العراقيِّين 26% تقريباً زواجات بين السُنـّة والشيعة، أي: إنَّ كلَّ أربعة عراقيّين واحد منهم ينحدر من أب وأعمام من مذهب، وأمّ وأخوال من مذهب آخر. هذه النسبة أخبرني بها الأخ وزير الدفاع السابق سعدون الدليميّ عندما كان معي. قلتُ له أريد أن أعرف بالضبط؛ حتى نتكلم بالإحصاء وهو لديه مركز دراسات عالي المُستوى، وهو دليميّ من الأنبار.
النقطة الثالثة حول مصير مدينة كركوك: القضيّة الأخيرة التي حصلت هي عمليّة تحريرها من داعش، أو منع داعش كمبدأ وقائيّ أمنيّ حتى لا تمدَّ يدها إلى كركوك. أمّا إذا أردتَ أن أعرِّف لك قضيّة كركوك، ونظرتنا إليها. فالإخوة الكرد قدَّموا دعماً وليس دفاعاً فقط عن مدينة كركوك، بل عن مُدُن أخرى، ومنها: الموصل، ووقفوا كذلك مع مُدُن أخرى ومنها: ديالى حين تعرَّضت إلى امتداد داعش وقف الكرد إلى جانب بقيّة مُكوِّنات الشعب العراقيِّ، ولكن -للأسف- هذا التقسيم (عربيّ سُنـِّيّ، وعربيّ شيعيّ، وكرديّ) جاء إلينا مُتأخـِّراً، وارتحل إلينا من الخارج نحن لم نعرف هذا سابقاً لا في الجامعة، ولا في الوظيفة.
أعتقد أنَّ إقليم كردستان جزء من العراق يتمتـَّع بحقٍّ دستوريٍّ فيدراليٍّ، وكركوك لها خصوصيّاتها كمدينة استثنائيّة، وباقة ورد تـُعبِّر بمُكوِّناتها عن الشعب العراقيّ، ففيها عرب، وأكراد، وتركمان، وفيها مُسلِمون، وقلة من غير المُسلِمين، وفيها سُنـّة، وفيها شيعة؛ لذا كنتُ، ومازلتُ أنصح بأنـَّه يجب أن تتلوَّن إدارة كركوك، ومجلس محافظتها بتنوُّع المُجتمَع الكركوكيّ، علاوة على أنَّ كركوك مدينة تحتلُّ موقعاً خاصّاً من الناحية الاقتصاديّة، نار كركوك الدائمة لكلِّ العراقيِّين مثلما بقيّة المحافظاتّ لكلِّ العراقيِّين.
لا يُوجَد شيء اسمه إقصاء؛ لأنَّ رئيس جمهوريّتنا من الإخوة الكرد، ورئيس جمهوريّتنا السابق من الإخوة الكرد، والآن السُنـّة في الحكومة، والشيعة في الحكومة، وكذلك الكرد. كيف تصوِّرون عراقاً رئيس جمهوريّته سُنـّيّ كرديّ، ورئيس برلمانه سُنـّيّ عربيّ، ورئيس وزرائه شيعيّ عربيّ، وفي الرئاسات يُوجَد كلّ واحد من المُكوِّنات واحد يُمثـِّله مثلاً: رئيس البرلمان من الإخوة السُنـّة العرب، لديه نائب شيعيّ، وآخر كرديّ، وهكذا البقيّة يتوزَّعون المسؤوليّة، ويتآلفون فيما بينهم بعلاقة مُتكامِلة أحسن بكثير من العلاقة في السابق.
مرّة أخرى أوجِّه لك وافر شكري لمشاعرك، واحتياطاتك حين قلتَ: أنا أتكلم كمُوطِن. شكراً جزيلاً.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: أشكرك كثيراً لهذه النقاط التي نقلتنا من الحالة العمليّة التنفيذيّة اليوم إلى الحالة الثقافيّة؛ إذ يجب أن ننظر إلى الخلفيّة الثقافيّة والتاريخيّة لما حصل.
العراق ما انهار كدولة، نعم.. تـُوجَد مشاكل، والدولة بخاموسها المعروف: (شعب، وحكومة، وبرلمان، وسيادة، وسلطة). كلُّ دول العالم هكذا تتكوّن. لا نزعم أننا أكملنا رحلتنا في الدولة بشكل رصين كما أنَّ بقيّة الدول في العالم لاتزال يُوجَد كلام في مصداقيّتها كدولة، ولكن -على أيّة حال- هي موجودة على الأرض، والشعب هو الذي يأتي بالبُنى الفوقيّة، أي: إنَّ ما بين 2003 إلى الآن سلسلة انتخابات حصلت، وسلسة رؤساء تشكَّلوا، وانتقال من حكومة مجلس الحكم إلى الحكومة المُؤقــَّتة إلى الحكومة الانتقاليّة إلى الحكومة الوطنيّة الأخيرة إلى الحكومة الحاليّة بشكل سلميٍّ، ولم تكـُن هناك انقلابات عسكريّة حتى عندما سلـَّمتُ رئاسة الوزراء إلى الأخ المالكيّ جلسنا على طاولة واحدة أنا ووزرائي، وهو ووزراؤه، واعتبرتُ كلَّ الوزراء الذين كانوا معي مُستشارين للوزراء الجُدُد إلى حين الاستغناء عنهم، وهكذا كان.. قلتُ لهم: ليسمع العالم أنَّ العراق لم ينتقل من الاغتيالات، والقتل، والانقلابات العسكريّة فقط، بل جمع بين حكومتين. لا تـُوجَد دولة في العالم جلس فيها مجلسا وزراء على طاولة واحدة.. ما انهار العرق كدولة.
أمّا سايكس-بيكو فأعتقد أنـَّك لا تختلف معي في أنها مُعاهَدة لا تـُشرِّف.. مُعاهَدة سايكس- بيكو جرَّت العالم إلى مُشكِلة؛ وأعتقد أنَّ هناك نوايا لإيجاد سايكس-بيكو جديدة في المنطقة، وهذه معركة لا رابح فيها فالذي يُخطـِّط لها هو الذي يُريد أن يستثمر نفط المنطقة، وثرواتها، ويجعل شُعُوب المنطقة هي الطرف المُتضرِّر، والمحروم؛ فلتذهب غيرَ مأسوف عليها.
بالمُناسَبة.. رُبّما كانت نفسها مُعاهَدة سايكس-بيكو مَن سبَّبت الأذى لألمانيا إذ قال أحدهم، وكان عاقلاً: أنصحكم أن لا تتشدَّدوا كثيراً بالضغوط على ألمانيا، وأن لا تدفعوها إلى الخطر، ولم يستوعبوا الدرس أنذاك، وانطلقت ألمانيا النازيّة في عام 1919، وتأسَّست النازية، ووصل الحزب النازيّ، وفاز (هتلر) 1933 بحوالى 78% في الانتخابات، وجاء بعمليّة ديمقراطيّة؛ ليجرَّ بعدها العالم إلى حرب عالميّة ثانية، ويخسر العالم 55 مليون بريء، وعندما انتهت الحرب العالميّة الثانية، وانكسر (هتلر) تذكّر (ترومن) رئيس جمهوريّة أميركا، وكذلك (مارشال) ذكروا أنَّ هذا هو الخطأ الذي جرَّنا لذلك؛ وبسرعة تسابقوا، وتحقق مبدأ (ترومن) رئيس الجمهوريّة إذ قدّم مبدأ (ترومن) ؛ لعدم تكرارها في الحرب العالميّة الثانية، وقالوا: لا نتشدَّد، وننتقم حتى لا ندفع ألمانيا إلى حرب جديدة، وأما مشروع (مارشال) قدَّمت فيه الأموال، وبُنيَت ألمانيا. هذا هو تاريخ سايكس-بيكو، ونحن لا نـُريدها.
ما يتعلق بسورية فنحن ننظر إليها، وإلى جميع الدول المجاورة كواقع جغرافيّ -والواقع الجغرافيّ لا يتبدّل، والحقيقة لا تـُبدِّل من نفسها شيئاً-، نعم.. يُمكِن أن تـُكيِّف الواقع الديمغرافيَّ السكانيَّ، أمّا الجغرافية فتبقى.
نحن مع شعوب الدول العربيّة عندما تجتمع كلمتها. وعندما تحرَّك الشعب التونسيّ ضدَّ زين العابدين بن علي كنا مع الشعب التونسيِّ، وكذا الشعب المصريّ عندما تحرَّك كلـُّه ضدَّ حسني مبارك وقفنا معه، وكذا الشعب الليبيّ عندما تحرّك كلـُّه ضدَّ معمر القذافيّ، ولكن عندما تحرَّك الشعب السوريّ وجدنا أنَّ هناك خلافاً إذ إنَّ قسماً معه، والقسم الآخر ضدّه. هذا الكلام قـُلته قبل أسبوعين مُباشَرة للأخ الدكتور بشار الأسد بأنَّ الشارع مُنقسِم، ولم نسمح لأنفسنا أن نتدخـَّل في شُؤُون الشعب السوريّ، ومادامت كلمة الشعب السوريّ مُنقسِمة فليحسموا الأمر فيما بينهم.. ليس لدينا عقد عاطفيٌّ مع سورية، وليس لدينا عُقدة عاطفيّة منها. سورية بالنسبة إلينا دولة جوار جغرافيّ يهمُّنا أن تستقرّ، كما تستقرّ بقيّة الدول.
أعتقد أنَّ السجالات التي حصلت، والتوجُّهات باتجاه بقاء النظام من عدمه كلـَّفت خمس سنوات؛ من نتائجها أن كان داعش الذي لم يكن وجوداً قبل خمس سنوات بهذا الشكل، فقد كان الجيل الذي قبلها هو القاعدة، ثم أصبح أقوى، وبعدها تصدَّر إلى مناطق أخرى، والجماعة يُناقِشون نقف مع النظام، أم ضدَّ النظام؟
قلتُ لهم: في أجواء الحرب تتقارب المسافة في دائرة العدوِّ المُشترَك بما لا تتقارب في دائرة المصالح المُشترَكة، وضربتُ لهم مثلاً عمّا جمع (ستالين) من أقصى الشرق إلى (ترومن) من أقصى الغرب، و(ولسن)، و(تشرشل). هو العداء لـ(هتلر)، و(موسوليني) فنسوا، أو تناسوا الخلافات فيما بينهم، واستطاعوا أن ينتصروا.
ليس من الصحيح الآن أن تفتح معارك جانبيّة مع الأنظمة. النظام تستطيع أن تـُعيد النظر فيه، فهناك شيء ينمو تحت الأرض يُعبِّئ، ويتسلـَّل، ويتخلـَّل مناطق مُختلِفة، وقرع طبوله في أرقى ديمقراطيّات العالم. ففي كندا دخل إلى بيت الشعب، وقتل ثلاثة من حُرّاسه، فنحن الآن أمام خطر مُعولـَم، وليس من الصواب أن ندخل في قضايا جانبيّة وهناك ثقافة سوء.
أنا أفهم داعش بأنـَّه تعبير عن ثقافة؛ وأخطر شيء هو ثقافة أن يُقدِّم روحه قبل أن يقتل الضحيّة.
هل نحن سألنا: لماذا يتفشّى هذا الخطر الآن، بدلاً من أن نفتح معارك مع الأنظمة؟
يجب أن نـُفكـِّر بالثقافة التي ولـَّدت هؤلاء. دول منطقة الشرق الأوسط تمتلك ثلثي احتياط نفط العالم ويعشون فقراء. لماذا؟ ألا يتسبَّب هذا بحالة استياء لدى الشباب، فيجعله يفكر بعقليّة الانتقام.
عالم الشمال 20% يستأثرون بـ 80% من الثروات، وعالم الجنوب 80% ليس لهم إلا 20% من الثروات.
والله حبانا بنِعَم في المنطقة يجب أن نعتزَّ بها، ونـُوزِّعها على إخواننا، وأشقائنا.
لماذا نـُفقـَر ونحن أغنياء. نـُفقـَر بالقوة ونحن نرفض؛ هذا ولـَّد استياءً.
سمعتم الانتهاكات والإساءة إلى رسول الله (ص) ما الذي تُولـِّده؟ تـُولـِّد ثقافة الاستياء، والسخط والانتقام، وحُبَّ القتل.. هم أنفسهم يُولـِّدون هذا.
هذه هي الأسباب الحقيقيّة، نعم تأتي أصابع من خلف الستار، وتحاول أن تـُوظـِّف هذا الاستياء لأغراضها الشخصيّة. أمّا عن مسألة الشرق الأوسط -وأنا لا أدافع عن هذا المصطلح- فمن الناحية الفكريّة الشرق الأوسط يعني أنـَّهم يُريدون أن يقولوا: إنَّ دول المحور هي العالم، وما هو أدنى منها فهو الشرق الأدنى، ثم الشرق الأوسط، فالشرق الأقصى، ولكن عبر المصطلح، وأصبح رائجاً في سوق التداول السياسيّ.
هل يُوجَد لدى ابن خلدون، أو المُفكِّرين السابقين مصطلح نشأ لتثبيت حقيقة أنَّ هذه الدول هي دول المحور، والبقيّة الأقصى منها، والأوسط منها، والأدنى منها، أم جاءت نظريّة في زمن بوش الابن، وهي: الشرق الأوسط الجديد.
بالمُناسَبة هو مصطلح غير مُتفـَق عليه؛ فمنهم مَن يمتدّ به إلى باكستان، ومنهم مَن يقصره على الدول العربيّة والدول غير العربيّة القريبة منها.
نحن نعتقد أنَّ السيادة حقٌّ لكلِّ الشُعُوب، ونقف معها، وليست الأمم المُتحِدة إلا مصداقاً لهذه الحالة، كما أعتقد أنَّ علينا أن نُحافِظ على الأمم المُتحِدة عندما تـُحافِظ على نفسها، وتـُمثـِّل سيادة الشُعُوب.
اشتبهت أميركا عندما لم تدخل في عصبة الأمم في زمن (ولسن)، وانعزلت عن العالم، وكانت عصبة الأمم المُتحِدة من فكرة رئيس أميركيّ، وهو: (ولسن)، وجاء إلى الكونغرس، وقدَّم مشروعاً من أربع عشرة نقطة. النقطة الأخيرة كانت تشكيل عصبة اسمها عصبة الأمم، ولم يُصوِّت الكونغرس، ووقعت أميركا في خطأ تاريخيٍّ، وعُزِلت عن العالم من عام 1919 إلى انتهاء الحرب العالميّة الثانية 1945، والآن لا تـُريد أن تـُكرِّر هذا الخطأ، فأسَّست هيئة الأمم المُتحِدة، والآن هي اللاعب الأساسيُّ فيها؛ فنحن الشرق الأوسط، نعم.. بغضِّ النظر عن المصطلح كلهم إخواننا، أمّا اختفاء دول فلا أعرف بالضبط ما هو المقصود.
أنا أعتقد أنَّ دول العالم في ديناميّة مُستمِرّة، ولكن لا تـُوجَد دولة تختفي عندما تكون مشروعة، ولها سيادتها، ومبنيّة على قاعدة شعبيّة، ولها تاريخها، فحين يُريد الآخر أن يُلغيك لا يستطيع.
أين وصلت كلُّ محاولات إلغاء الشعب الفلسطينيّ؟
الشعب الفلسطينيّ بقي حقيقة، بل أزعم أنَّ فلسطين أمدَّت الحركات الثوريّة في العالم خُصُوصاً الحركات الثوريّة في المنطقة أمدَّتها بالحياة عندما يرون في التلفزيون دماءهم، ومطالبهم الشعبيّة، وإصرارهم على البقاء احترموا فلسطين، والآن تـُوجَد ظروف تعرفونها جيِّداً لا تدوم مع الزمن.
الدكتور إبراهيم الجعفريّ: نبدأ من لبنان. العالم اليوم ليس عالم جوار جغرافيّ فقط، إنه عالم جوار اجتماعيّ، وجوار نفسيّ، وجوار سياسيّ فلم يعُد الأقصى الجغرافيّ هو الأبعد إنما الأبعد هو الأقصى الفكريّ، والأقصى السياسيّ. طبيعة المُقارَبات الآن تفرزها طبيعة الأنظمة والمُجتمَعات.
أنا أشاركك أنَّ بيننا وبين لبنان تاريخاً من التعامُل، وقبل سنتين كانت لي مُحاضَرة في جبل عامل، وفي أثناء الخطاب حيَّيت جبل عامل، ثم حيَّيت جدتي لأمّي من ثلاثة أجيال لأنها من جبل عامل، فتفاجأ العراقيّون قبل اللبنانيِّين، كما أنَّ لقبي الأشيقر وهو من السعوديّة. الأشيقر منطقة قريبة من الرياض. وهكذا العرب يتداخلون بنسبهم، وخلفيّاتهم، وكذا العالم كله. الأميركان الحقيقيون الهنود الحمر فقط كما تعلمون جاؤوا من هولندا، واسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، وكذلك في أستراليا فالشُعُوب تتداخل. فأحيّيك.
وتجربة السبعينيّات في لبنان كانت تجربة دامية نتمثـَّلها دائماً، وطالما سمعنا مصطلحاً -ليس نكاية- وهو: (اللبننة) وتجنـُّب اللبننة، وما حصل في لبنان من الاقتتال بين أطراف لبنان. بالمُناسَبة عندما اشتدَّت الأزمة في لبنان في نهر البارد جرى حديث مع الأخ عمر موسى. هذه ثقافة الجيل اللبنانيّ مُشبَع بالحرب الأهليّة، فيرفضها جملة وتفصيلاً، وهذه الحرب ليس حرب لبنانيّة-لبنانيّة، بل هذه لبنانيّة الانعكاس، وليست لبنانيّة المنشأ. وأنت تعرف حين أقصد ثلاث دول ليس فيها دولة لبنان ساهمت في هذه الحرب؛ الشعب اللبنانيّ مُتمنـِّع، ولديه مناعة قويّة لا يقبل بهذه الحرب.
تجربة لبنان بالنسبة لنا ثريّة، ونحترم تآخيكم. لا لبنان بلا خلافات، ولا عراق بلا خلافات، بل لا عالم بلا خلافات. عالم بلا خلافات عالم حالم لا وجود له، بل لا عائلة بلا خلافات، ومن يقل غير هذا فهو مُشتبـِه. ماذا يعني أن يكون لديك خمسة أو ستة أولاد. هل هم خمسة أجسام تأكل؟ الحيوانات تأكل، أم خمسة عقول تـُفكِّر؟
إذا كنتَ تعتقد أنَّ لديك خمسة عُقول في عائلتك تُفكِّر فضع في بالك أنهم يتفقون مرّة، وقد يختلفون مَرّات.
عالم الاختلافات يقتضي الحوار، ويقتضي أن نـُقيم العلاقة على الرغم من وجود الاختلاف. كيف نـُدير العلاقة مع وجود الاختلاف؟
هذه هي فلسفة علم الاجتماع في طريقة السيطرة على المشاكل.
أنتم عندكم لبنان، ونحن نستفيد منكم، وأنا دائماً أعتزُّ بها، ونظرت إلى قوائم الانتخابات وأنا في العراق أرقبها من كثب فقائمة من دين يكون فيها مُرشَّح من دين آخر، وقائمة من مذهب يدخلون فيها من مذهب آخر هذا شيء جميل.. هذا لبنان جديد، ونحن كذلك على نفس الاتجاه.
أمَّا عن المليشيات، والآثار السلبيّة. أقول لك: الكلام المنقول غير صحيح.
اسمحوا لي أن أقدِّم لكم الخلفيّة الثقافيّة للمليشيات. استرعى انتباهي أنَّ هتلر بعد أن احتلَّ جيكوسولفاكيا، وهولندا، وذهب إلى الدول الإسكندنافيّة لم يستطع احتلال سويسرا التي لم يكن فيها جيش، فاسترعى ذلك انتباهي. لماذا لم يدخلها، فوصلتُ إلى نتيجة أنَّ سويسرا التي لا يُوجَد فيها جيش فيها دفاع مَدَنيّ، وفيه تدريب مَدَنيّ أهليّ، ولو كان هتلر قد دخل إلى سويسرا لتحوَّلت سويسرا إلى مقبرة للجيش النازيّ؛ فأنت في الظروف التقليديّة تحتاج إلى جيش، ولكن في الظروف التي تـُريد أن تـُنمِّي الدفاع المَدَنيَّ، والدفاع عن نفسك خصوصاً بعدما انهارت ثاني أكبر مدينة في العراق، وهي: الموصل، ووجَّهت المرجعيّة الدينيّة نداءها: انهضوا، ودافعوا عن بلدكم، ودافعوا عن مُدُنكم، ودافعوا عن أعراضكم، وعن أموالكم، وعن سيادتكم؛ فتحشَّد الناس؛ لذا سُمِّيَ الحشد الشعبيّ.
ما الذي تتصوَّر ممَّن يذهب إلى منطقة ساخنة، ويقف في خط التماسِّ الأوَّل، هل يُفكـِّر ماذا يسرق، وماذا -لا سمح الله- يغتصب، أم يُفكـِّر كيف يُعطي دمه في معركة خطرة جدّاً؛ لحماية العراق؟
تجربة الحشد الشعبيِّ في العراق تجربة رائعة، وفيها من خيرة الناس، وأنا أعرف بعضهم ممَّن كانوا معي في المُعارَضة، وهم مُخلِصون.
أمّا البيشمركة فهم الآخرون فيهم طابع مَدَنيّ، ويحمون إقليمهم، وهم جزء من القوات المُسلـَّحة العراقيّة، وقد اشترطت المرجعيّة الدينيّة أن تعمل هذه التشكيلات تحت مِضلّة القوات المُسلـَّحة العراقيّة، نعم.. قد لا أجزم، ولا أقطع أن لا تحدث في هذا العدد الكبير جدّاً مُفارَقة هنا وهناك.. هل سمعتم بما حدث مع أسامة بن زيد عندما قــَتلَ جماعته أحد الأشخاص، وأحد الصحابة جالس إلى جانب الرسول (ص) وأحدهم صاح بصوت عالٍ: يا رسول الله نشهد أن لا الله.. قالوا له: قال هذا نظر إلينا، ونحن كنا كـُثـُراً وهو خاف على إبله، وقتلوه، وأخذوا الإبل.. قال له الرسول الكريم: يا أسامة أشققتَ صدره، وعرفتَ مّا في قلبه وهو يشهد بالشهادتين.. ودفع الديّة عن أسامة بن زيد من بيت مال المُسلِمين.
في أصعب الظروف رُبّما يكون هناك واحد أحمق يرتكب حماقة هنا وهناك، ولكن ليس لنا أن نحكم على الكلِّ من خلال فرد، أو فردين.. هذه ظاهرة غير طبيعيّة، الحشد الشعبيّ مُربَّون تربية صحيحة، وهم يهبُّون إلى هناك، ويحملون أرواحهم على راحة أكفـِّهم من أجل الدفاع عن العراق؛ لذا قلتُ: يجب أن أطبع قبلاتي على جبينهم.
أمّا مرجعيّة الحشد الشعبيّ في القرار، والحركة، والتنفيذ بيد القوات المُسلـَّحة العراقيّة؛ لذا فازت، ونجحت، وتقدَّمت.
التعليقات (0)