يقول محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه " تكوين العقل العربي " وهو الأول في سلسلة : " نقد العقل العربي ": ( يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. ان نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة. ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر الى الآن. وهل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟. )
كانت هذه الكلمات تحمل في طياتها مشروعا فكريا رائدا بدأ سنة 1983، ولكنه صار أكبر مشروع في الفكر الاسلامي المعاصر.( و العقل العربي لا ينفصل تاريخيا عن الاسلام، لأن المرجعية الأساسية في الثقافة العربية كانت دائما تتأسس على حضور الدين الاسلامي سلبا أو ايجابا.). وقد انتبه المفكر المغربي الذي رحل عنا مؤخرا الى أن مشكلة العقلنة هي حجر الزاوية في أية حركة فكرية. اذ أن كل الأدبيات التي ناقشت قضية السؤال الأبدي : لماذا تقدم الغرب و تخلف المسلمون؟ كانت تنطلق من مواقف ايديولوجية ظرفية رسمت شكلا معينا من ملامح القراءة التاريخية للثقافة الاسلامية. وهذا يعني أن كل الجهود التي بذلت من أجل فهم هذا الماضي، والبحث عن سبل النهوض والتحرر من قيود التخلف والتبعية، كانت دائما تنطلق من قناعات محددة وخلفيات معرفية مسبقة توجه نوعية البحث والقراءة. لكن مشروع الجابري جاء ليقطع مع هذه الأساليب. فقد تأسس على تحليل تكويني وبنيوي لهذا العقل وذلك كمنهج يمكن من استئناف النظر في العقل العربي الاسلامي. وكانت الأسئلة المحورية الموجهة لقراءة الجابري هي : ماذا نعني بالعقل العربي؟ وما علاقته بالثقافة العربية؟ وكيف يتحدد زمن هذه الثقافة؟ والى أي اطار مرجعي يجب ربطها به؟.
ان أصالة القراءة " الجابرية " للتراث الثقافي تتمثل في نظرته الشمولية الى فروع هذه الثقافة، والتي يحددها في النحو والفقه والبلاغة والكلام والتصوف والفلسفة... وهو بذلك لا ينظر الى هذه الفروع بوصفها جزرا منعزلة، بل يعتبرها غرفا تربط بعضها البعض أبواب ونوافذ. وفي تفاصيل قراءة الجابري لمعالم العقل العربي نتوقف عند الدور السياسي والاجتماعي في بناء الثقافة العربية. وفي هذا اشارة واضحة الى أن الثقافة عانت من مشكلة التبعية للدولة، لأن التاريخ الرسمي يعنى فقط بالاختيارات الثقافية التي تناسب المشروع السياسي لنظام الدولة المهيمنة. وهذا يعني أن هذا الارتباط من شأنه أن يهمش الثقافات المضادة ( ثقافة المعارضة بلغة أهل السياسة). لذلك ففهم الجابري لتكوين العقل العربي انطلق من ضرورة الامساك بخيوط الثقافتين معا، مادامت كل واحدة منهما تتحدد من خلال علاقتها بالأخرى. غير أن النقطة الأساسية التي أماط عنها مشروع الجابري اللثام في نقد العقل العربي هي ذلك الحضور المزدوج للمعقول واللامعقول في هذه الثقافة. وهو ما انتهى به الى التصنيف الشهير لبنية الثقافة العربية الاسلامية الى : البيان والعرفان والبرهان. واذا كان المستوى البياني مرتبطا باللغة وخصوصا بالنص القرآني المعجز ببيانه ولغته، فان النظام العرفاني يمثل مزيجا من المعرفة والوجدان موروثا عن تقاليد غنوصية وهرمسية لاعقلانية. أما فيما يتعلق بالبرهان ( أي المعرفة العلمية )، فقد كان الأثر اليوناني واضحا في هذا المقام. لذلك فان أولى ملامح العقلنة في الاسلام تمت بموازاة مع الانفتاح على فكر فلسفي وافد. لكن واقع الفكر العربي بالنسبة للجابري شهد تراجعا حادا للعقلانية التي كان النص الديني يحمل بذورها، وهكذا انتصر اللامعقول العقلي على المعقول الديني. وهنا أبدع الجابري عندما نحت مفهوم " العقل المستقيل " نسبة الى تراجع العقلانية في الفكر العربي الاسلامي.
ان صاحب " نقد العقل العربي " يعتبر عصر التدوين اطارا مرجعيا للفكر العربي، اذ تبلورت خلاله الأنظمة الثلاثة للفكر العربي، لكن كل بوادر العقلانية كان يتم وأدها في المهد. ومن تم فان مشروع الجابري وضع الأصبع تماما على الجرح. وهذا يعني أن تجاوز معضلة التخلف لابد أن يتأسس على تغليب العقلانية سواء في الواقع الفكري العام أو في الشأن الديني الذي يعتبر حضوره لازما في كل مشروع حضاري في بلاد المسلمين.
محمد مغوتي. 08/05/2010
التعليقات (0)