الأمة العربية حقيقة أم خدعة؟!
بقلم : د.إبراهيم قويدر، رئيس منظمة العمل العربية السابق

الدكتور إبراهيم قويدر، رئيس منظمة العمل العربية السابق
بعد انتهاء العهد العثماني واجتياح الدول الاستعمارية- بريطانيا وفرنسا وإيطاليا- للعديد من ولايات الرجل المريض، تم تقسيم إرثها من قبل هذه القوى الاستعمارية إلى ولايات تشبه إلى حد ما تقسيم الولايات العثمانية، وأطلقت عليها مسمياتها الجغرافية، وأخذت الدول الغازية في تنصيب الحكام عليها في شكل ملوك أو أمراء اختيروا من أسر لها تاريخ اجتماعي أو سياسي أو ديني في هذه الدويلات، أما بعض الدول الأخرى فمنها من حاولت شعوبها المقاومة لمناهضة الاستعمار الاستيطاني، ولو استثنينا فلسطين نظرا إلى وضعها الخاص المختلف من حيث المستهدف والشكل الاستعماري- فإن آخر الدول التي طال كفاحها من أجل الاستقلال هي الجزائر التي استطاعت أن تنتزع استقلالها بصعوبة بالغة كان ثمنه مليون شهيد كافحوا باقتدار واستشهدوا أمام المغتصب الفرنسي للتراب الجزائري.
إن الباحث في الوثائق التاريخية إبان الحقبة الاستعمارية يتجلى له حقيقة في غاية الخطورة، وهي أن فكرة تكوين تجمع لهذه الدويلات العربية ظهرت في كواليس الخارجية البريطانية منذ بداية الأربعينات، وكان الغرض من هذا الشكل التجمعي إنشاء اتحاد يشبه اتحاد المستعمرات البريطانية في آسيا وأفريقيا، وبالتالي يسهل تنظيم استمرارية استعمارها اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًا بوجود قواعد عسكرية فيها، ومن هنا تبلورت فكرة إنشاء الجامعة العربية كفكرة بريطانية كُتب عنها الكثير من التقارير في ملفات المخابرات البريطانية ووزارة الخارجية في لندن.
ولا أريد أن أخوض في سرد تاريخي لإجراءات تكوين الجامعة العربية، فيمكن للقارئ أن يطلع عليه من خلال موقعها حيث الاجتماعات التمهيدية في لبنان والقاهرة وأسماء من شارك فيها، وكذلك سيجد في أرشيف الخارجية البريطانية الالكتروني الكثير والكثير من التقارير التي أشرت إليها.
وبعد تكوين الجامعة ومع بداية ظهور الثورات العربية في الخمسينات ظهرت بقوة حركة القومية العربية أو النزعة العربية والأمة العربية، ولقد جذبت تلك الفكرة أنظارنا وألهبت مشاعرنا وأحاسيسنا، وانخرطنا جميعًا في هذا الفكر العربي القومي التقدمي الذي يستهدف الوحدة العربية وتحقيق العدل والمساواة والديمقراطية ومواجهة الفساد والاستبداد، وكذلك الحد من كل أشكال العلاقات الظالمة داخل مجتمعاتنا العربية ومحاربة التيارات المعادية للاتجاه القومي العربي، واستطاع هذا التيار ببريقه الخلاب أن ينسينا الكثير من الأمور التي لم ننتبه لها والتي كان أهمها "أننا مسلمون"، وأنه "لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى"، حيث زرعت فينا النزعة القومية بشكل تعبوي فعال، خاصة بعد أن استطاع العديد من الخبراء في مجال الفكر والإعلام أن يلمعوا لنا الشكل والمضمون، ولازال هذا التوجه موجود حتى الآن، حيث كنت أعتبر نفسي شخصيًّا من القوميين العرب.
ومع مرور الأحداث حصل صراع بين الفكر القومي العربي من جهة وبين فكر من أطلقوا على أنفسهم "الإخوان المسلمين" خاصة في مصر، وكذلك ظهرت بقوة الحركة الوهابية في السعودية كحركة تنتقد التوجه الفكري القومي العربي وتصفه بالفكر الماركسي الشيوعي؛ لأنه رفع شعار الاشتراكية، ومن هذا المنطلق بدأ صراع أيديولوجي أنسانَا حقيقة- اعترف بها اليوم بعد أن نضجنا فكريًّا واتضحت لنا الأمور- أننا مسلمون، وأن الإسلام هو الذي يوحدنا بحق، فنحن نبدأ صلاتنا بالتكبير "الله اكبر" في أي مكان من العالم، ونصلي في مواعيد واحدة حددت لنا مواقيت الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، ونمسك عن الطعام في الفجر في رمضان بمجرد سماعنا أذان الفجر وتكبيرة "الله أكبر"، ونفطر بمجرد سماعنا لنفس التكبيرة عند المغرب، ووفقا للسنة نبدأ إفطارنا بالرطب أو التمر والماء، كما أننا في الحج وحدنا الإسلام في الوقوف بعرفة وطواف البيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات، كما وحدنا شكلاً في لباس الإحرام، كما حدد لنا الإسلام التكافل بين بعضنا البعض في شكل نظام الزكاة وعرفنا أنها حق الفقراء في أموال الله التي منحها للأغنياء، وكذلك الصدقات وزكاة الفطر في العيد الأضحى بذبح الأضحية وتوزيع جزء منها على الفقراء.
وكما وحدنا الإسلام في عباداتنا وحدنا في سلوكياتنا من خلال القرآن والسنة النبوية التي وحدتنا في كافة مناحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى أن أوصلنا إلى أن "المسلم لا يؤمن حتى يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه"، و"أن المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
هذه هي روعة التوحيد: رب واحد لا إله إلا هو، ورسولنا ومعلمنا وقائدنا واحد، وكتابنا كمنهج وأسلوب حياة ودين عبادة وسلوك هو القرآن الكريم، مضافًا إليه تطبيقاته العملية وشروحاته النظرية في السنة النبوية المشرفة.
ولعل كل ما سبق دعاني إلى تساؤل بريء، ألا وهو: هل التوجه القومي العربي مخطط له منذ ذلك الوقت لضرب التوحيد الإسلامي؟ وهل من علمونا القومية العربية كانوا يعلمون بذلك حقيقة أم أنهم متورطون بدون علم أو دراية؟
بل التساؤل المحير حقا: هل الحركات الإسلامية التي ظهرت وحملت لواء الضدية والمعارضة للتوجه القومي العربي كانت مخطئة في اتجاهها الانفعالي العدواني؟ وكيف نقيمها بعد هذه الحقبة التاريخية المريرة؟ وأيضًا هل إنشاء رابطة المؤتمر الإسلامي في ذلك الوقت جاءت باعتبارها قوة معاكسة لتوجهات الوحدة العربية والقومية العربية سواء الناصرية منها أو البعثية؟
وهل كل هذه الحركات رغم اختلا ف مسمياتها ومبادئها وأهدافها البراقة التي تبهر الأنظار والعقول كانت واقعيًّا لخدمة زعماء معينين في استمرارية وجودهم بالسلطة ولم تكن توجهات حقيقية تستهدف الرقي ورفاهية الإنسان العربي أو المسلم؟
حقيقة يدور الآن في ذهني أسئلة كثيرة بعد أن انكشفت كثير من الحقائق من خلال اطلاعي على العديد من الوثائق التاريخية التي للأسف أثبتت لي بالدليل القاطع أن معظم الحركات التحررية القومية منها أو الإسلامية تختار أهدافا براقة وأيديولوجيات ساحرة مخدرة للشعوب من أجل أن تحكمها وتستمر في حكمها عكس ما يتناوله القرآن وفقه السنة من أن الأيام دول {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} [آل عمران:140].
إذن علينا أن نحاول أن نعمل في اتجاه جديد يتحمل مسئوليته كل إنسان مؤمن بالإسلام قرآنًا وسنةً ويسعى لوجه الله تعالى لنهضة أمة الإسلام دون أي مطامع سلطوية، بل يكون السعي نحو تحريض دائم ومستمر للناس من أجل أن يكونوا في سلوكهم الاجتماعي والسياسي إسلاميين دون أن يكون لهم حزب إخوان أو نهضة أو عدالة إسلامية، بل نكون كلنا إسلاميين كلنا مؤمنين، وإذا كان لهذه النخبة التي تدعو لذلك أن يكون لها تنظيم فلا يكون تنظيمًا سياسيًّا يستهدف الوصول إلى السلطة بل تنطلق من المساجد والإنترنت لإيجاد النزعة السلوكية الإسلامية التي لا تخاف أحدًا ولا تخشى في الحق لومة لائم، وتكون صادقة في تعاملها مع بعضها البعض، بل يكون عملها الوحيد هو تطوير المجتمع من خلال تقويم السلوكيات التي تقف أمام الجور والظلم وتثور من أجل إحقاق الحق وصون كرامة الإنسان وتنتفض إذا تم التحرش بامرأة مسلمة وكأنها أخته أو ابنته، وتعلم المسلم كيف يسعى إلى رفع الظلم على أخيه المسلم وكأن الظلم وقع عليه هو.
من أجل ذلك فإنني أتوجه بدعوة إلى كل فرد مسلم- عاديًّا كان أو مثقفًا، بل على كل مؤسسة اجتماعية أن تبدأ بتنمية التوجه التوحيدي الإسلامي الوسطي غير المتطرف الذي يتناول الإسلام سلوكًا وعبادةً وأسلوبًا ومنهجًا للحياة بمختلف تفرعاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ونبتعد بحزم وصرامة عن كل ما نهانا عنه قرآننا الكريم ونبينا المعلم الأكبر والقائد الأعظم.
علينا أن نحاول جادّين توسيع قاعدة العلاقات بين الشعوب وألاّ يكون مقياسنا عرقيًّا عربيًّا بل إسلاميًّا، هذا التوجه هو الذي يجعل الأعداء يهابوننا ويحترموننا في نفس الوقت ولا يستهترون باجتماعاتنا وقممنا العربية الهابطة.
إن المحاولة التي تقوم بها الجامعة العربية من خلال إنشاء رابطة الجوار العربي بإدخال تركيا وإيران وبعض الدول الإسلامية مع الدول العربية لمحاولة خجولة، جاءت بعد شعور الأمانة العامة للجامعة بأن قوتها بالإسلام وليست بالعروبة، وإذا كان الأمر كذلك فلنكن واضحين ونقوي رابطة المؤتمر الإسلامي، ولنجعل منها منظمة قوية فاعلة بقوتنا، أما تنظيماتنا العربية فنصيحتي- عن تجربة شخصية- فلنحولها إلى مؤسسات اجتماعيه أو مراكز للدراسات والبحوث من أجل خدمة المنطقة من الناحية الإقليمية الجغرافية، أما التحولات وبرامج التوحيد والتكامل الاقتصادي والسياسي والتنسيق العسكري فيجب أن نجعلها إسلامية مائة في المائة، ولنستيقظ من غفلتنا وكفانا ما مر بنا من نكبات وتجارب تؤكد صدق ما توصلت إليه بعد تجارب طويلة أيضًا.
أعلم أن كلامي هذا لن يعجب البعض، ولكني أنصحهم بالاطلاع على الوثائق التي أشرت إليها وأيضا قراءة التاريخ بتمعن وروية، ساعتها سيكتشفون أن أمة الإسلام ستكون أقوى من أمة العرب.
التعليقات (0)