مواضيع اليوم

الأذن تعشق قبل العين أحيانا

حسن توفيق

2010-02-24 02:19:04

0

                                               شاعران فصل بينهما  الزمان لكن الحب صهرهما  معا

                    يا قوم أذني لبعض الحيِّ عاشقة
                    والأُذْن تـعـشق قـبل العين أحياناً

                                   بقلم : حسن توفيق

يفرح العاشق حين يلتقي مع حبيبته، ويظل يتأمل حديقة مفاتنها ونظرات عينيها وهمسات شفتيها، وجمالها ودلالها، لكن كل هذا لا يتحقق إلا إذا كان العاشق واحداً ممن لهم عيون، وبها يبصرون، ويستطيعون بالتالي أن يميزوا بأبصارهم بين المليح والقبيح، وبين لون وردة وألوان سواها من الورود، كما أنهم يستطيعون كذلك أن يعرفوا الوردة التي تبث عطراً مسكراً رغم أنها ليست جميلة الشكل، وأن يميزوا بينها وبين وردة أخرى فائقة الجمال، لكنها بلا رائحة، أو أن لها رائحة مزعجة، وهؤلاء العشاق يعرفون بالطبع ما يعرفون لأنهم يتمتعون بحاستين  هما حاسة البصر وحاسة الشم .
هناك عاشق يختلف عن هؤلاء فهو قد عرف الحب مثلهم، لكنه لم يكن يستطيع أن يرى وجه حبيبته ولا أن يبصر ملامح هذا الوجه، لسبب بسيط، هو أنه قد وُلد أعمى، فكان بإمكانه أن يشم الوردة دون أن يراها، وكان باستطاعته أن يسمع صوت البلبل دون أن يتمكن من رؤيته، وكان حاله على هذا النحو مع كل امرأة يعشقها ويتغزل فيها، وقد أحب هذا العاشق بدل المرة مرات، على امتداد سنوات حياته التي انتهت بالحكم عليه بالقتل، بسبب بعض ما قاله من شعر، وهذا يؤكد بالطبع أن من الشعر ما قتل .
إذا أردنا أن نعرف اسم هذا العاشق، فلابد أن نعود لنقرأ بطاقته الشخصية أو جواز سفره، حيث نعرف أنه «بشار بن برد بن يرجوح» وأنه قد ولد في البصرة خلال العقد العاشر من القرن الهجري الأول، وقد ولد بشار أعمى، وإلى ذلك يشير، مؤكداً أن الأعمى إنسان ذكي


       عميتُ جنيناً والذكاء من العَمىَ
            فجئت عجيبَ الظن للعلم موئلاً
لم يكن هذا الشاعر العاشق الأعمى متوافقاً مع تقاليد مجتمعه، كما أنه كان في حالات كثيرة يتجاوز حدود الدين، ويجاهر بآرائه المتمردة التي تصدم الآخرين من العرب والمسلمين خلال العصر العباسي الأول الذي ينتمي إليه، فهو يريد أن يخلو «خـلوة غير شرعية» مع المرأة التي يعشقها، عساه أن يقــبلها أو أن يحظى بقبلة منها، لكن الآخرين يقولون له إن ما يريده ليس حلالاً :


       قالوا حرامٌ تلاقينا فقلتُ لهم
          ما في التلاقي ولا في قُبلةٍ حَرَجُ
      مَنْ راقب الناس لم يظفر بحاجته
         وفاز  بالطيباتِ   الفاتك   اللهجُ
إذا كان بشار قد استفز الناس، فإن تلميذه الشاعر «سلم الخاسر» قد استفزه هو الآخر، حين سرق معنى البيت الثاني «من راقب الناس لم يظهر بحاجته » وقام بصياغته صياغة سهلة بوزن أكثر موسيقى، وهذا ما جعل الناس تنسى بيت بشار مع أنه الأصل، وتُردد بيتَ سلم الخاسر

        مَنْ راقب الناس مات غماً
                 وفاز  باللذة  الجسورْ
وعلى أي حال، فإن بشار بن برد خرج من بيته ذات ليلة، لكي يتمشى وحده، بالقرب من بيت إحدى النساء اللواتي عشقهن، وكانت هذه المرأة ذات صوت أنثوي يفيض بالسحر والدلال، وقد سرى هذا الصوت من أذنه إلى قلبه، فتأكد له أن الأذن يمكـن أن تؤدي نفس الوظيفة التي تؤديها العين المبصرة، وهكذا يستطيع العاشق الذي لا يبصر أن يحس بالعشق متغلغلاً من الأذن إلى القلب


         يا قوم أُذْني لبعض الحي عاشقةٌ
                والأُذْن تعشق قبل العين أحياناً
        قالوا بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم
              الأُذْن كالعين توفي القلبَ ما كانا


وقد شهد «الأصمعي» أحد رواة الشعر المشاهير شهادة فيها الكثير من الإشادة حين قال عن هذا العاشق الذي لا يبصر:
«وُلد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قَطُّ، وكان يشبِّه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله » وهذا ما يؤكد المثل السائر «كل ذي عاهة جبار» وهكذا كان بشار
إذا عدنا من رحلتنا إلى القرن الأول الهجري، فإننا نرى شاعراً عربياً من شعراء القرن العشرين الميلادي، وهو عزيز «باشا» أباظة يكتب قصيدة رقيقة، يغنيها الموسيقار العبقري محمد عبدالوهاب، وهي بعنوان «همسة حائرة» وقد تذكرت هذه القصيدة، لأنها من نفس الوزن والقافية اللذين استخدمهما بشار في بيتيه السابقين «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة» لكن علينا هنا أن ننتبه إلى الفارق بين الشاعرين، فالأول أعمى لا يرى حبيبته، أما الثاني فكان ممن لهم عيون وبها يبصرون، ولهذا استطاع أن يتمشى مع حبيبته على شاطىء النيل، وهو نشوان ومبتهج، لدرجة أنه يظن طالما أن الحبيبة معه أن الدنيا قد تحولت إلى شجرة عملاقة، تماماً كما تحول الزمان في نظره إلى بستان، وإذا كان بشار لم يعرف الحياء والخجل، فإن عزيز أباظة يؤكد أن الحياء هو الذي يكسو الحب بغلالة جميلة ونبيلة، ولنستمع إلى ما قاله الشاعر المبصر عزيز أباظة :


       هل تذكرين بشط النيل مجلسنا
             نشكو هوانا فنفنى في شكاوانا
       تنساب في همسات الماء أنتنا
              وتستثير شجون الليل نجوانا
      وحولنا الليل يطوي في غلائله
             وتحت أعطافه نشوى ونشوانا
      نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها
             نرى الدُّنى ايكةً والدهر بستانا
     ونحسب الكون عُشَّ اثنين يجمعنا
            والماء صهباءَ والأنسام ألحانا
     لم نعتنق والهوى يغري جوانحنا
                 وكم تعانق روحانا وقلبانا
     نغضي حياءً ونغضي عفة وتقى
             إن الحياء ثياب الحب مذ كانا
     ثم انثنينا وما زال الغليل لظى
            والوجد محتدماً والشوق ظمآنا

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !