-استراحات-
أيهذا الصديق الحميم..
ليس بي من حاجة في استعراض ندوبي عليك.. ولكني أطلب منحي تأشيرة الهرب من قلب الحصار إلى قلبك ومن فحيح الصحراء في قيض الظهيرة إلى صدرك المعشوشب بالمحبة والود.. وإن في طواياي زفرات حرا يلفظها الموت إلى الحياة وتحثها الحياة على الفناء ويممت مستأنساً وما معي غير دمعة وجرح، وإلا أهداباً أفترشها في الطريق إليك..
أعندك أيهذا الأخ متسع من الوقت لتفتش عن زهرة ترتطم بوقع مرير.. تعاند الدهر ولا تنحني!!
أدرك أن لا حاجة بك إليّ ولكنها حاجتي إليك..
أكاد أصدق أن الزهور صار ضوعها مسموماً وأني إنما أشكو التيه بين تلاطم الأمواج ونطاح القمم، والعراقيب.
وما حيلتي إن كنت أشبه بوريد مقطوع ينزف دماً فتبكي له السماء..
أكلما صفعت في الخد الأيمن مالت على الخد الآخر لنفس الصفعة لذات اليد الآثمة..
أما آن للمسيح أن يأذن بالثأر أن يرجع عن حكمته لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف..
أيشرب البعير من دمي ويمنع العشير صرختي ويرقص الذباب فوق جثتي ولا أكون صارخاً بلا ؟!!
وثم تسألني.. لماذا لا أحمل عكازي وأرحل!
قلت لا راحلة لي ولا زاد لدي والطريق ليس محفوفاً بالزهور إنما هي رحلة طويلة.. وأنا لا أعرف فن القفزة النوعية..
فلقد طلب إلي أن أكون أقحوانة يمتصون رحيقها ثم يقتطفونها خلوا من العبير ثم يسحقونها تحت نعالهم..
لا.. لن أكون، فأنا ضد الزهور الخانعة، الزهور التي ولدت ميتة..
وما زلت برغم هذا الزمن المتعفن أبحث ولن أستسلم لليأس..
أبحث في ركام الأوراق المبعثرة، والموزعة الأشلاء عن "قصاصة" بلا ملَق..
عن "قلم" لم يرتجف في الأنامل ولم ينغمس في المعامع الرخيصة.. عن "كلمة" لم تسوّق.
عن "موقف" لم يستهلك..
أيهذا الحبيب..
أيكون لي أن أسألك.. ما الذي ينبغي عمله حين يكون كل شيء في الذروة..
عندما يصبح الألم ترفاً؟ أيكون من حقك أو من حقي البحث عن منطقة –الوسط-؟
أفكر في الأمر ملياً.. أفكر فيه طويلاً.. أفكر متى؟ متى نكون من الذين يصطادون في الماء العكر..
متى أكون مراسلاً لصحيفة زيتية..؟
متى أغدوا لصاً مهذباً يسرق من فوق رأسه بلباقة وكياسة فيظل مرفوع الهام عكس من يتلفظ لقمته من بين قدميه..
وأخيراً متى أمارس الدعارة الفكرية بقيمة مدفوعة بدلاً من ممارستها كهواية وطمع في التقليد..
إيهذا الصديق العزيز..
ِلمَ سدت كل النوافذ على عصفور بئيس ضل طريقه فعرج شطر دارتهم المضروبة في الصحراء اللافحة..
أما يزال يشجيهم انتخاب الشحارير
أأنت قلت لهم..
أي هؤلاء.. أطلقوا سراح عصفوركم المتعب.. خلوه يسبح في أرض الله في دنيا الضياع لتلمس طريقه جمراً أو تمراً..
أما آن لحرية الموت أن تُمنح في هذا العالم وتختار العصافير حتوفها كما ترى.. كما تحب.. المُديَة الأحدّ.. الجزار الأكثر إتقاناً لمهنة الذبح القبر الأوسع، الكفن الأكثر نصوعاً.
حرية الموت في هذا الوطن العربي المتخم باتت تشكل الطلب الأخير من كل مشتقات الحرية التي وصل إليها إنسان أو عصفور عربيان..
العصافير تموت اختناقاً بين الطنافس التي تزيد جدران سجنها الكبير..
إيهذا الصديق الحميم:
أتدرك لماذا لم أعد متحمساً لقيام حملة إبادة شاملة للذباب والبعوض..؟
لأن "الذباب البشري" أضرُّ على المجتمع من ملايين الحشرات الضارة في الوطن العربي..
لقد صارت "البراغيث" مولعة باقتحام المخاطر وذات شأن لأن حدود له في المغامرة..
الصحيفة: 26 سبتمبر
العدد:50-352
التاريخ: 8/9/1983م
التعليقات (0)