عندما إندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية و التي تسببت في کوارث و مآس و فظائع جمة لحقت بالشعبين الجارين و ترکت آثارا سلبية کثيرة على البلدين بشکل خاص و المنطقة بشکل عام، فإن الخميني قد بادر الى الترحيب بالحرب و کأنها نعمة إلهية هبطت عليه من السماء عندما أطلق مقولته الشهيرة: الخير فيما وقع! وقد تمسك الخميني أيما تمسك بإستمرار الحرب لغاية"إسقاط"نظام صدام حسين و ظل يطرح شعارات بالغة الغرابة نظير"طريق تحرير القدس يمر عبر کربلاء"!!، وعلى الرغم من کل الدعوات و الندائات الدولية المختلفة التي ناشدت الخميني بوقف إطلاق النار و الجلوس الى طاولة المفاوضات، فإنه کان يرفض ذلك بشدة و يعتبره أمرا مستحيلا، واستمرت تلك الحرب الضروس ثمان سنين عجاف کانت تنهل خلال أيامها السوداء من دماء ابناء الشعبين و تطحن عظامهم برحاها الخشن القاسي، ولسنا هنا في صدد إعلان براءة النظام العراقي من إندلاع تلك الحرب او دوره المباشر في إندلاعها، لکننا في نفس الوقت ندرك تماما الاوضاع و الظروف التي مهدت لتلك الحرب الطاحنة والتي تم تهيأتها من جانب النظام الديني بشکل عام و الخميني نفسه بشکل خاص، وان التمعن في موقف الخميني من إندلاع الحرب من جهة، و رفضه الکامل لإيقافها من جهة ثانية، وربط هذا الموقف بمواقفه الاخرى من قضية المواجهة مع مجاهدي خلق و قرارات الاعدام التعسفية التي صدرت بحق سجناء الفکر و الرأي و الموقف السياسي من أعضاء منظمة مجاهدي خلق والتي إستهجنها نائبه آية الله منتظري محذرا من أن مجاهدي خلق مدرسة فکرية لايمکن أن تنتهي او تتلاشى بالقتل وانما تنمو و تترعرع، في حين کانت نظرة الخميني الى منظمة مجاهدي في غاية التشدد و التزمت، ولاسيما عندما أخفق في إقناع المنظمة و قادتها بتقبل مبدأ ولاية الفقيه من خلال سلسلة لقائات و إتصالات مکثفة جرت بين أبنه احمد الخميني و بين قادة المنظمة والتي لم تسفر عن أية نتائج إيجابية بالنسبة للنظام، ومن هنا فقد تحامل الخميني کثيرا على المنظمة و زعيمها مسعود رجوي و أضمر لهم حقدا استثنائيا دفعته نعتهم بأشنع صفة قرآنية، ولم تمر مناسبة او ظرف ما، إلا وسعى لصب جام غضبه عليهم، فهو يقول عن أعضاء المنظمة المعتقلين في سجونه، في معرض حديثه عن مجموعة من أتباعه الذين قد تم إغتيالهم بيد أعضاء المنظمة:( أولئك الذين تم إلقاء القبض عليهم، ريثما تصبح توبتهم مسلمة و يتم التيقن منها، يجب أن يعتبروا بمثابة محاربين إلا فيما لو يأتوا بأنفسهم و يقولوا نتقبل الاسلام و الجمهورية الاسلامية و نترك الکفاح المسلح جانبا، أما بخصوص اولئك الذين مسکتم الاسلحة بإيديهم و کذلك بخصوص من شجع وحث سواءا عن طريق القلم او اللسان لکي يحملون الاسلحة بأياديهم، کمثال؛ کاتب صحيفة المجاهد الذي دائما يحث و يؤلب هؤلاء على الکفاح المسلح، يجب أن لايؤخذ أقل مراعاة ممکنة بحقهم بنظر الاعتبار)، أي يقول و بصريح العبارة اما يصبحوا في صفي او ليس أمامهم من أي خيار آخر!! والحق أن الخميني هنا على وجه التحديد، وقبالة طرف يرغب أن يکون له موقفه و خياره الفکري و السياسي الخاص به"والذي أساسا لايتعارض او يتنافى مع المعتقدات الاسلامية"، يکشف عن ديدن و معدن نظام ولاية الفقيه و ماهيته الحقيقية، ولاسيما فيما لو کان هناك ثمة رأي مخالف لهذا المبدأ کما هو الحال مع منظمة مجاهدي خلق، بالاضافة الى مواقف شديدة القسوة إتخذها هذا الرجل و هو في الثمانينات من عمره، توحي بثمة أمر في غاية الاهمية وهو أنه"أي الخميني"، کان رجلا قاسيا بمعنى الکلمة وان مواقفه الصارمة التي يسعى أنصاره و مواليه لتفسيرها على اساس و وحي من القرآن و السنة النبوية الشريفة و نهج آل بيت النبوة، فإن رفضه إيقاف القتال وقد التمس منه ذلك معظم زعماء العالم الاسلامي ناهيك عن بلدان عدم الانحياز و مختلف دول العالم الاخرى، لهو مصداق عملي على رفضه للمنطق القرآني: وان جنحوا للسلم فاجنح لها و توکل على الله انه هو السميع العليم. لکن هنالك ثمة مسألة حساسة نجد من المفيد الاشارة إليها وهي ان الخميني و رجال الدين الذين کانوا تحت إبطه، کانوا أساسا ينظرون نظرة"تکفيرية"الى زعماء العالم الاسلامي و يعتبرونهم "غاصبي السلطة"، وان قتلهم مباح شرعا کما أفتى الخميني لجماعة الجهاد الاسلامي في مصر بإغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات و بحسب ماورد في رسالة بعث بها مهدي هاشمي الذي کان مسؤولا لحرکات التحرر في الحرس الثوري الايراني، الى آية الله منتظري نائب الخميني وقد ورد فيها بالنص:
(العلاقة مع هذه الجماعة"يقصد الجهاد الاسلامي"، بدأت في إحدى اللقائات التي کانت لنا مع حضرة الامام و سماحته قال في جمع من مجالس قيادة الحرس الثوري: بخصوص تصدير الثورة يجب أن تتحوطوا من ذلك کثيرا کي لاتتأثر سمعة الجمهورية الاسلامية، لکن في أية زاوية من العالم إذا مارأيتم في أي بلد طاغوتا من الممکن إسقاطه فإفعلوا ذلك)، و يستطرد هاشمي بعد إيراد فتوى الخميني بالعمل على إسقاط أي طاغوت في أي مکان من العالم فيما لو کان هنالك مجال او إمکانية لذلك، قائلا:( ولذلك، وقبل قتل السادات، إرتبطنا بهؤلاء الاخوة وکنا على إطلاع وعلم بقرارهم"إي قرار إغتيال السادات"، وارسلنا لهم مبالغ من المال لکننا تعجبنا من إمتناع هؤلاء الاعزاء عندما قاموا بإرجاع الاموال و طلبوا منا فقط ان يدعو لهم حضرة الامام بالموفقية). والحقيقة، أن هذا النظام و الخميني بشکل خاص، کان ينظر لکل زعماء العالم الاسلامي على أنهم ثلة من غاصبي السلطة وان حکمهم غير شرعي و يجب إزاحتهم من مناصبهم، وهذا الکلام وان لم يقله بصريح العبارة، فإنه کثيرا ماصرح به ضمنيا في الاجتماعات التي کان يعقدها في حسينية جماران غير انه کان يصرح و يفتي بها جهارا لأجهزته الخاصة في الاجتماعات ذات الطابع السري کما ذکرنا آنفا. لکن السر الحقيقي و الکبير الذي کان يکمن خلف عبارة: الخير فيما وقع، لم يکن متعلقا بالعراق وانما کان على علاقة و إرتباط مباشر بالاوضاع الداخلية في إيران و التي کانت تتقاذفها أمواج سياسية و فکرية و إجتماعية و إقتصادية و لم يکن لحد ذلك اليوم الذي إجتاح صدام الاراضي الايرانية بجيشه أي نظام سياسي متبلور بالمعنى الحقيقي و الواقعي للکلمة، وانما کان الامر عبارة عن مجاميع من الميليشيات و الکتائب المسلحة وکانت ماتسمى بمحاکم الثورة منهمکة في حملات الاعدام الصورية المذهلة في اسلوبها و سرعتها ولاسيما سئ الذکر آية الله خلخالي الذي تجاوز کل المقاييس في قراراته الابعد ماتکون عن الطابع الانساني، وقد کانت هنالك فوضى في کل مجال ولم يکن من الهين على الخميني و أتباعه السيطرة على الاوضاع و التحکم في الامور وقد جاء هجوم صدام حسين بمثابة نعمة هبطت من السماء على الخميني و رجال الدين الذين کانوا بالاضافة لکل الاوضاع العامة الصعبة و المعقدة التي يواجهونها في إيران، يواجهون خصما مبدئيا عنيدا يتجلى في منظمة مجاهدي خلق التي کانت ثقيلة على کاهلهم و تربك حساباتهم و تفسد مخططاتهم و مشاريعهم، وقد خدمت اجواء و ظروف الحرب النظام الديني الى أبعد حد و وفرت له أفضل المبررات لکي يقوم بتصفية حساباته مع الخصوم من جهة، ويقوم في نفس الوقت بإرساء بنيان نظامه الاسلامي المتشدد وبقدر ماکانت الانظار متجهة الى جبهات الحرب بين البلدين، کان النظام يعمل بهدوء و بعيدا عن الانظار من أجل ترتيب اوضاعه و أموره الداخلية، خصوصا وان النظام ومن أجل القفز على قضية الحرية و تجاهلها و تکميم أفواه المطالبين بها، لجأ الى رفع شعار غريب وهو؛ أيهما أهم، محاربة"الاستکبار العالمي" أي الامبريالية أم الانشغال بقضية الحرية؟ وهو شعار براق في ظاهره لکنه أميبي و مطاطي في مضمونه، وقد إنطلى على بعض من القوى السياسية الايرانية رغم انه کان موجها بالدرجة الاولى ضد مجاهدي خلق لأنهم کانوا الطرف الاساسي المعني بإثارة قضية الحرية و المطالبة بها، رغم اننا يجب أن نشير الى ان القوى السياسية الايرانية التي کانت تعلن"وعلى مضض او کحالة لامناص منها"موافقتها و قبولها بمبدأ ولاية الفقيه کحزب توده الايراني بزعامة کيانوري الذي ساير النظام الديني الى أبعد حد ظنا منه أن ذلك سيمنحه فرصة ثمينة للبقاء والحقيقة أن حزب توده قد قدم خدمات مجزية للنظام الديني عندما قام بالتنظير لذلك الشعار المراوغ للنظام، بل أن حزب توده قد بالغ کثيرا جدا بهذا الخصوص عندما أعلن و بصريح العبارة: ان اللهاث خلف مسألة الحريات و الديمقراطية هو مايطلبه الليبراليون، و ان مجاهدي خلق قد ترکوا صف الشعب و وقفوا الى جانب الليبراليين في حين ان القوى الثورية تقف الى جانب النظام لکي تحارب الامبريالية. والحقيقة أن الذي کان يلهث هو حزب توده نفسه ولکن خلف النظام حتى أدى لهاثه و حماسته غير العادية هذه الى حدوث إنشقاق بين صفوف الحزب و إنشطر الى قسمين، الاکثرية وهي التي تحمست لذلك الشعار السارد الذکر، واقلية مالت الى مسألة الحريات و الديمقراطية و منحتها الاولوية، غير ان النظام الديني وفي نهاية المطاف بادر الى مکافأة موقف هذا الحزب بشن حملة عامة ضده و أعتقل قيادته و اجبرهم على الادلاء بإعترفات مهينة من على وسائل الاعلام الرسمية و قام بتفکيك و حظر الحزب!
والحق ان الخطأ الفادح و الجسيم الذي أرتکبه صدام حسين بهجومه على ايران بإيعاز و دعم غير مباشر من الغرب، کانت في الاساس بداية سلسلة الاخطاء التي قادت لنهايته وليس نهاية النظام الديني الايراني، بل وان هذه الحرب المجنونة التي کلفت البلدين الکثير من الضحايا و الاموال، صارت بمثابة شماعة علق عليها الخميني و نظامه کافة أخطائهم عليها و من خلال الحرب أيضا تمکنوا من التصدي للکثير من المشاکل و الازمات التي کانت تعصف بهم والتي کانت أهمها و أکثرها خطورة جعل هذا النظام الذي کان يحمل في جعبته الکثير من القلاقل و الازمات و المشاکل لإيران و المنطقة و العالم، أمرا واقعا عندما تمکن من وضع اسسه و رکائز بقائه في هذا البلد المهم و ذو الموقع الاستراتيجي، ولم تکن الحرب العراقية الايرانية ستارا للتصدي للمشاکل الداخلية في إيران فقط، وانما کانت أيضا فرصة ثمينة للتحرك على صعيد دول المنطقة و البدأ بتفعيل فکرة تصدير الثورة على قدم و ساق، وللموضوع صلة.
التعليقات (0)