مواضيع اليوم

أم العفاف عائشة رضي الله عنها

مدونة قصة الاسلام

2012-01-23 05:29:47

0

 أم العفاف
رضي الله عنها

 

 


لفضيلة الشيخ:
علي بن عبد الخالق القرني حفظه الله

 

 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
أم العفاف رضي الله عنها

الحمد لله، الحمد لله المنتصر لأوليائه، المنتقم من أعدائه، المتفرد بعظمته وكبريائه، المقدس بصفاته وأسمائه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، أحمده على ما أسبغ من نعمائه، وأسبل من عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ أنبيائه، وصفوة رسله وأُمنائه.
رفع الله ذكره فلا يُذكر إلا ذُكِر معه، وجعل شريعته ناسخة للشرائع فلو كان موسى حيًّا لاتبعه، بُعث للعالمين وكان النبي يبعث لقومه، صاحب الشفاعة العظمى حين يذهل كل أحد عن ولده ووالده وأمه، من خصه الله بالقرآن معجزة ما نالها مرسل قد جاء بالدينِ.
ذاك الذي اختاره الباري وأرسله.....برّا رؤوفا رحيما بالمساكينِ
صلى عليه الإله البر ما صدحت.....قُمرية فوق أغصان البساتينِ
عليه سلم رب العرش ما ضحكت....مباسم الزهر في ثغر الأفانينِ
وآله الغرِّ والأصحاب كلِّهمُ.....وتابعيهم ليوم الحشر والدينِ
ما عَطَّر الروض في الأسحار عَرْفَ صبا....وفاح نشْر خزامًا مع رياحينِ
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، أما بعد:
فيا أيتها الأنوف الحمية، والنفوس الأبية، يا قلادة النحر، وفريدةَ الدُّر، أتباعَ البشير، وعزةَ الأهل والعشير، وتاجَ الفخر الذي يقصُر عنه كسرى وأزدجير.
حياكم الرحمن خير تحية.
معطَّرةٍ حُفّت بمجد وسُؤددٍ....تسير بها الركبان في كل فدفدِ
فعالة بالود في أهلها.....ما تفعل القهوة بالشاربِ
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلاما مثل عَرف المسك طيبًا....وحُسْنا مثل أزهار الرياض
يهتز من طرب كأن حَنينه....رعد وأحْرُفَه السحاب الماطرُ
حياكم الله وأحياكم، وشرفكم بالدين وتولاكم، وحفظكم وسددكم ورعاكم، يسركم لليسرى، ونفعكم بالذكرى، وكتب لكم السعادة، وبلَّغكم الحسنى وزيادة؛ دمتمُ في خير حالِ، ما سرى في الجسم روح، وجلَى الإصباح غَيْهَبْ.
معشر الإخوة:
من المعلوم بجلاء، أن صحابة رسول الله نجوم الغبراء، كما أن الكواكب نجوم السما، رسم معالم مكانتهم ودافع عنهم كتاب الله، وشهد على عدالتهم رسول الله. (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم)، ما انقطع الوحي حتى تاب الله عليهم وأكرمهم، وشاع في الخافقين ذكرهم والثنا عليهم، فليس لأحد أن يغمزهم بعد قول الله: (ثم تاب عليهم)، وليس لأحد أن يتقصدهم بسوء بعد أن أكد رسول الله فضلهم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم)، ونهى عن سبهم وأذيتهم، (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم).
زكاهم الله والمعصوم أدبهم….أولئك القوم أطهار وأبرارُ
ما أرهفوا السمع إن غَنَّتْ مغنية…..أو هزهم طربًا عود ومزمارُ
يرجون جنات عدن والخلود بها….جناتِ عدن بها حور وأنهارُ
لا يركنون إلى الدنيا وزُخْرفها….ماهَمُّهُمْ درهم فيها ودينارُ
رضوان ربي عليهم دائما أبدًا….ما غردت في غصون الأيْكِ أطيارُ
ومن الصحابة الأطهار يا معشر الأخيار، الطاهرات المطهرات أزواج المختار، إختارهن الله لخليله مبرآت، وجعلهن للمؤمنين أمهات، (النبي أولى بالمومنين من انفسهم. وأزواجه أمهاتهم) آيات بينات، وحكم وهو خير الحاكمين، (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات)، تُليت في بيوتهن آيات الله كثيرًا، وبنص القرآن أذهب الله عنهن الرجز وطهرهن تطهيرًا.
تسمو إلى الرتب العُليا منازلهم…..فما ترى وسطا فيها ولا دونا
من قاس ذا شرف بهم فكأنما….وزن الجبال الشمَّ بالأشباحِ
ولقاؤنا الليلة معشر الإخوة، مع زهرة من تلك الرياض، وقطرة من تلك الحياض، نكرعها زلالا، ونديرها حلالا، عنوانها:
أم العفاف
إنها همسات دافئات تُلامس الشِّغاف، ودوحة ظِلالُها المُتفَيَّئُ العفاف، لا يماري فيها سوى الأجلاف أو صرعى السُّلاف.
لم أخترع فيه البديع وإنما….من بحرها الفياضِ هذا اللؤلؤُ
ذي روضة فانشق شذا نفحاتِها…..والقُطْ نفيس الدُّرِّ من زهراتها
وسل لنا اللهَ القبول والهدى….والعفو والصفح عن الذنب غدا
وأن يُقيل العثرات والزلل….وأن نكون مخلصين في العمل
أم العفاف.
من أم العفاف؟
إنها أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن من ترضى عنها.
ما الند نِدُّها ولا والورد مثلُها، فقد سار بين الورى ذكرها، فطاب برياه نشر الصبا، فأهدى السرور إلى خاطري وجدد عنديَ عهد الصبا.
والحديث معشر الإخوة عن أمنا عائشة رضي الله عنها من باب توضيح الواضح، وتبيين الجليّ.
فالشمس لا تخفى مَزِية ضوئها….إلا على ذي المُقْلَةِ العمياءِ
وإذا استطال الشيئ قام بنفسه….وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاَ
لكن!
مذ رأيت من ضئضئ ابن أُبَي عشرات الأذناب واللقطاء، وسمعت خِدْن الخنا والبِغاء، نائلاً من مقام خير النساءِ، شامخ الأنف أن غدا ذيلَ كلبٍ وعدوًّا لله والأنبياء، عندها قلت:
أي حليف الخَنَا ويا ابن الدَّنايَا كلْبُ….ما ضرَّ أن نبحتَ النجومَ
ومضيت أسعى جاهدًا في حصر ما حضيت به الصديقة العصماء، من مكروماتٍ أو مناقب فذة، شهدت بها آثارنا الغراء، ولم آبه لإفك الشَّعْبَذِ، فلسانه ما عُوِّدت غير البذي، ولم يزعج زئير الأُسْد قلبي، أيزعجه من البَقِّ الطَّنينُ.
وهل يَخشى عُقابُ الجو ضُرًّا…..إذا نبح الضعاف من الكلابِ
وأقول في نفسي وإن هم عابوا:
فالنسر يخفِق في الفضاء جناحُه….ويجوس في الأرض الخراب كلابُ
ولو كلما كلب عوى مِلت نحوه…..أجاوبه إن الكلاب كثيرُ
ولكن مبالاتي بمن صاح أو عوى قليل….لأني بالكلاب بصيرُ
ولكني خشيت بأن يقال:
ولم نسمع لكم في ذا مقالا….عقوق ذا، معاذ الله لا لا
ألا فليأخذِ الأعمه، وإن لم يفهم الأبله، سوف أصليه نار حرف تلظى، تسفع اللحم والحشى والأديمَ، وألقاه بلطم يهتك الأبصار والسمع، فإن لم يفهم المعنى سريعًا فهم الصفعَ.
ومن تباهى بأنه وتد، فليحتمل دقّض كلِّ مِرْزَبَّة.
ليس يبقى مع السيول الغثاء.....وبعرض العفاف يمحى الهراء
أمنا الشمس ما عليها غطاءُ....أمع الشمس للظلام بقاءُ؟
تالله ما الأمر إلا كما قال القائل:
ما كلام الأنام في الشمس إلا.......أنها الشمس ليس فيها كلامُ
فالله طهرها وأعلى قدرها.....عن نَبْزِ كل بَلَنْدَمِ عيَّابِ
وما طُهرها بالبِدْع لكن مورَّثُ.....أبَى منبت العيدان أن يتغيرَ
إن يكن للعفاف في الناس أمٌّ....فهي رغم الأوباش أم العفافِ
أم العفاف! ما أم العفاف!
قف بنا يا حاديَ الركب مليا....فالصبا أهدت لنا أطيب ريّا
عائشة ما عائشة.
من شاء يعرف قدرها وكمالها، فليتلو وحي الله فيها والسير، فضائل لا تخفى، ومحاسن لا تبلى، ومناقب تُستجلى وتستحلى، إنها أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق (ثاني اثنين إذ هما في الغار)، سيرةٌ مِعْطار، عزٌّ وفخار، يكبو اللسان واليراع في سيرتها ويمسُّه الإعيا.
إنها زوج خاتم الأنبياء، ومدرسة الرجال والنساء، الموفقة أم عبد الله، أحب النساء إلى رسول الله، وابنة أحب الرجال إليه. في الصحيحين: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) طاولت الثريا، وجازت الجوزا.
تمتد كف الثُّريَّا دون سؤددها....فلا تنال الذي نالت أياديها
عائشة ما عائشة! تلميذة مدرسة الصدق والإيمان، من أسرة كريمة مباركة عريقة أبواها مهاجران. يُثْني عليها عدوها فيقول حاسدها صدق؛ أبوها صحابي، وأبو صحابي، وجد صحابي، وابن صحابي، وابن صحابية، وزوج صحابية، لم تبلغ أسرة مسلمة ما بلغته أسرة أبي بكر في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.
بيت بوحي الله كان بناؤه.....نِعْم البنا والمبتنى والبانِي
أبوها أول من أسلم، ودعا أهل بيته فدخلوا واحة الإيمان، ولحقهم عبد الرحمن بعد زمان؛ سبابة التوحيد في راياتهم، أنشودة الإيمان في أفواههم، والعزة القَعْساء تاج بالجبين.
تولاها بالتربية في الطفولة شيخ المسلمين، ورعاها في شبابها سيد ولد آدم أجميعن عليه صلوات وسلام رب العالمين.
لها شرف من الأصلين تلْدٌ....وآخر منه مُكتسبٌ جديدُ
مولودة في بيت لم يقرع سمعَها فيه صوت الشرك والمشركين، وقد أعلنت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).
هي خير من رب السماء اختارها.....أمًّا ولم يولد لها أبناءُ
أم ولم يوصف بمثل حنانها.....أمٌّ ولم يُعرفْ لها نُدَداءُ
من أبغضها ورماها لم تكن له أمّا، بل أمه هاوية، وأنفه في حمأة راغمة، وذاك كلب من كلابٍ عاوية، ملعون في الدنيا والآخرة.
إن يكن للعفاف في الناس أمّ......فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة وخير الأزواج. ما عائشة!
فداءٌ لها كلُّ وجه عبوسٍ إذا.......ما أتتها الوجوه الوِضا
معلوم أن خديجة أول أزواج خير البرية أجمعين، أسعدها الله بالصادق الأمين، فكانت خير معين له مذ تزوجها وهو في الخامسة والعشرين، ووزيرة صدق مذْ نزل الوحي عليه وهو في الأربعين، إلى أن لقيت رب العالمين، ولما لقيت ربها لم يكد يُعلم أنه حزن على أحد قط أشدَّ من حزنه عليها، ولا أطال الذكرى لأحد بعد وفاته كما أطال ذكرها.
فما للقلب قلب عن هواها
واقترن ذالك بموت عمه الذي كفِله صغيرًا، وحدب عليه كبيرًا.
لو أصاب الجبال بعض الذي........عاناه من فقدهم لهدَّ الجبال.
وشق على أصحابه ما يرون من عظيم أحزانه، فعرضوا عليه من تصلح له ومنهن عائشة. وكان زواجه منها بإحاء من الله، في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (أريتُكِ في المنام ثلاثَ ليال، جاء الملك بك في سرقة من حرير، يقول هذه امرأتك. فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي. فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه)، وعند الترمذي: أن جبريل جاء بصورتها في حريرة خضراء وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه زوجك في الدنيا والآخرة).
جاء الأمين إلى الأمين مبشِّرًا.....وبراحتيْه حريرة خضراءُ
رُسمت عليها صورة لـمليحة.....ما في المِلاح كمثلها حسناءُ
سأل الحبيب المصطفى جبريل من هذهِ.....فقال خريدة حوراءُ
لك في الحياة وفي الجنان حليلة.....قد شاءها من لا سواه يشاء
ولما أراد الله أن يُمضي ما رآه رسوله، ذهبت إليه خَولة امرأة عثمان بن مظعون واقترحت عليه الخِطبة، حالها والمقال:
(لم لا تتزوج من تكون لك عن خديجة عِوضا؟ إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا). فسأل عن البِكر، فقالت: (أحق خلق الله بك عائشة بنت أبي بكر)، قال: (فاذهبي فاذكريها عليّ). ذهبت خولة لدار أبي بكر وقالت: (يا أم رومان! ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، أرسلني رسول الله أخطب له عائشة)، قالت أم رومان: (انتظري حتى يأتي أبو بكر)، وجاء أبو بكر رضي الله عنه فأخبرته، فقال: (وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه)، فقال رسول الله لخولة: (هو أخي وابنته تصلح لي). رجعت فأخبرت أبا بكر فقال: (انتظري) ومضى. وحال خولة: "أفي تزويج رسول الله انتظار؟"، فقالت أم رومان تجلو الموقف لخولةَ زوجِ عثمان: (إن المُطعم قد ذكر عائشة على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قطُّ فأخلفه).
ووالله إما أن تكون خِلالُه من السحر.......أو فالسحر خامَرَ مسمعي
ذهب أبو بكر إلى المطعم، وقال: (ما تقول في أمر هذه الجارية؟)، قال: (لعلنا إن أنكحنا إليك هذا الفتى تدخله في الدين الذي أنت عليه). فوقعت تلك الكلمات على قلبه وقوع الرحمة على أيوب، وقميص يوسف على عين يعقوب، تحرر بها من وعده وحاله:
مالت لها أذني من بعد جفوتها....وكم حديث تمنت عنده الصَّممَ
وعاد من فوره إلى خولة، لتخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عَقد له على عائشة وهي بنت ست سنين، وأمضى الله أمره بكون عائشة للحبيب، وسعد الصديق بهذا النسب الذي زاده طيبا إلى طيب.
حُيِّيت حيِّيت من حيٍّ ومن نادِ.....وحبذا حبذا واديك من وادِ
ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة، ولما استقر بالمدينة بعثوا من جاء بأهلهم، فنزلت عائشة رضي الله عنها في حي بني الحارث مع أهلها.
كأنما يوسفٌ في كل راحلةٍ.....والحي في كل بيت منه يعقوبُ
كانت المدينة يومئذ أرضا وبِئَة، فتأثر المهاجرون بمناخها، وحنوا لمكة وشعابها، وأصابتهم الحمى بأوْصابها، وكان فيمن حمَّ أبو بكر رضي الله عنه، فكانت تأتيه عائشة فتقول: (يا أبي كيف تجدك؟)، فيقول وقد أخذه نافض الحمى:
كل امرئ مُصبَّحٌ في أهله.....والموت أدنى من شِراك نعله
وتأثرت عائشة رضي الله عنها كذالك فمرضت شهرًا، ضعُف جسدها، وتَمَرَّق وتساقط شعرها حتى صار لا يجاوز أذُنيْها، وخيف على سلامتها؛ فكان يدخل أبو بكر عليها كل يوم يعودها ويُقَبلها ويقول: (كيف أنت اليوم يا بنيتي؟)؛ ثم شفاها الله وأخذت أمها تُعنى بها وللزواج تهيئها ليبني بها رسول الله وهي بنت تسع سنين في شوال.
فكان انتقالها لبيت النبوة أعظم حدث في حياتها، أحبت من أجله شهر شوال.
تحبه حب الشحيح ماله......قد كان ذاق الفقر ثم ناله
فكانت تقول: (تزوجني رسول الله في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني)، لقد ظل يوم بنائه بها ماثلا في ذهنها، تقول في وصفه رضي الله عنها: (فأتتني أمي وأنا ألعب مع صواحبي على أُرْجوحة لي فصرخت بي، فأتيتها وأنا أنهج؛ فأخذتني بيدي وعلى الباب أوقفتني حتى ذهب نَفَسي، ومسحت بشيئ من الماء وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار يقلن على الخير والبركة وعل خير طائر).
يلوح في الدار سنا وجهها.....كالبدر أو كالذهب الذائبِ
قالت: (فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا ورسول الله ضحى، فأسلمنني إليه)، وحال الطاهرة:
يا لحظة ستظل في قلبي شعار العافية.....وتُذيب كل أسًى وتغمض كل عين جافية
أما الوليمة معشر الإخوة:
فما نُحرت جزور ولا ذبحت شاة، إنما هي جفنة من سعد بن عبادة، وشيئ من لبن.
هذه أسماء بنت يزيد، تحكي لنا ما رأت من قِرًى قُدم في حفل زفاف عائشة، تقول: (وقد كنت في من جهزها وزفها، ووالله ما وجدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قَدحًا من لبن، شرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية وخفضت رأسها، فانتهرتها وقلتُ لها خذي من يد رسول الله! لفأخذته على حياء وشربت منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولي صواحبك. فقلن لا نشتهيه. فقال: لا تجمعن جوعا وكذبا).
عليه صلاة من الله ما.....بدا النجم في أفقه أو خفا
وكانت رضي الله عنها تفخر بأنها البكر الوحيد بين سائر أزواجه، وتُدل بذالك، في الصحيح أنها قالت يوما: (يا رسول الله! أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أُكل منها، ووجدت شجرة لم يُؤكل منها، في أيها كنت تُرتع بعيرك؟) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (في التي لم يؤكل منها)، قالت: (فأنا هي)، تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.
فهي الفخورة دون كل نسائه.....لو يفْتخِرن بأنها العذراءُ
وخُصت بحبٍّ ليس يوجد مثله...... وذالك فضل الله يؤتيه من يشاء
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة وعبقرية الطفولة ما عائشة!
لها هِممٌ جمعن لها المعالي....كجمع الكف مجموع البنانِ
تلك التي لم تزل في كل نازلة....تسير خلف العُلى بالماء والزادِ
إنها عبقرية بدت معالمها من نعومة الأظفار، وتجلت في كل ما يصدر عنها من أحوال وحركات وأفعال.
والصبح أبلج لا تخفى دلائله.
ومع هذه العبقرية وعلو الدرجة، فإن الطفل هو الطفل في فطرته، يحب اللعب ولا يكاد يسلو عنه، وعائشة كانت تحب اللعب كثيرًا، وأكثر ما تحب من اللُّعب البنات والأراجيح، وقد نُقلت كما مر من فوق الأرجوحة إلى بيت الزوجية، وكان جوار الحي يجتمعن عندها ليلعبن معها بعد الزواج؛ ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لها ما كانت تألفه قبل الزواج من اللقا بصواحبها؛ ورغم صغر سنها لا يفوتها أن تراعي الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شؤونها، فقد تكون ملهوفة ومستغرقة في لعبها مع صواحبها ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم فجأة فتسرع في إخفاء لعبها وحالها:
بك شغلي واشتغالي.....لا بِدَعْدٍ ولا هندِ
وينقمع صواحبها ويخرجن من عندها حياء من نبي الهدى، فقد ألقى عليه الله منه المحبة والمهابة والجلال، ولشفقته ورحمته بها وبهن، يسربهن إليها ليلعبن معها مقدرا حداثة سنها.
لأنه في مقام العطف منفرد....وأنه منهل عذب لمن يردُ
وقد يشغلها اللهو مع صواحبها عن بعض ما يسند إليها رضي الله عنها وأرضاها، في المسند بسند قال الأرنؤوط فيه صحيح على شرط الشيخين، قالت رضي الله عنها: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم بأسير فلهوت عنه فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما فعل الأسير. قال: لهوت عنه مع النسوة فخرج؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكِ قطع الله يدك أو يديك). وخرج رسول الله فآذن الناس، فطلبوا الأسير وجاءوا به، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيت ثانية فوجدها تقلب يديها فقال: (مالكِ! أجننتِ؟) فقالت: (بل دعوت علي فأنا أنظر أيهما يُقطع)؛ وبلا عِتاب ولا ملامة، حمد الله وأثنى عليه، وسأل الله لمن دعا عليه بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له زكاة وطهورا؛ فأشرق وجهها سرورا وحالها:
لي من دعائك ما يغني عن الراح.......ونور وجهك في الظلماء مصباحي
وقد بقي معها حب له إلى وقت متأخر، ففي مَقْدمه صلى الله عليه وسلم من غزاة قيل إنها تبوك، هبت ريح فانكشفت ناحية السَّتر عن لُعبٍ لها، فقال: (ماهذا ياعائشة؟) قالت: (بناتي)، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رِقاع، قال: (وما هذا الذي بينها؟)، قالت: (فرس)، قال: (وما هذا الذي عليه؟)، قالت: (جناحان)،قال: (فرس له جناحان؟) فردت مرتجلة: (ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده. وأضاء ما بين ثنايه.
تراه إذا ما افْتَرَّ عنها كأنها.....حصى بَرَدٍ أو أُقْحوانٌ مُنوِّرُ
معشر الإخوة:
إن طبيعة الأطفال في الغالب واحدة، لا يُبالون بشيئ، ولا يَلفت نظرهم قضية، إلى سن السابعة؛ إلا أن عائشة اختلفت عنهم في هذا الشأن، فهي تحفظ كل ما حدث أيام الطفولة بَدقَّةٍ بالغة، تقرع الآية سمعها وهي تلعب فلا تنساها؛ تقول رضي الله عنها وأرضاها: (لقد أنزل الله على رسول الله بمكة وأنا جارية ألعب، "بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر")، ولما هاجر رسول الله إلى المدينة لم تكن جازت الثامنة، ومع ذا تفهم وتعي أسرار وقائع الهجرة النبوية والجزئيات المتعلقة بها، وترويها بالترتيب المسلسل الذي لا يدانيها فيه أحد.
ظنَّ الزمان بمثلها فيما وعَتْ.....ولكَم أشاد بفضلها العلماء
فلعل أليق ما يليق بوصفها.....هي حكمة فياضة وذكاءُ
إن يكن للذكاء في الناس أمٌّ.....فهي رغم الأنذال أم الذكاءِ

بيت عائشة ما بيت عائشة!
حُجرة قد مُلئت طُهرًا وفيـ......ـها نزل الآي مع الروح الأمين
لُقِّنت فيها حقوق أنقذت........ربَّة المنزل من أسر يشين
معشر الإخوة:
لقد عرف الناس يومئذ الفرش المزركشة من حرير وديباج، وعرفوا آنية الذهب والفضة إلى أن حُرمت تلك الآنية، وعرفوا الأبنية الأنيقة المزخرفة، والقباب المزينة، والآطام العالية، وبقي ذالك كلُّه وسيلة لا ترقى لأن تكون غاية في بيت عائشة، فلم يكن بيتها قصرًا عاليا، ولا بناء باذِخًا، إنه حجرة في شرقي المسجد متواضعة، قصيرة البناء، يُفتح بابها في المسجد فكأنه لها الفناء.
حجرة جدارها من طين، وسقفها من جريد، يناله الغلام بيده، باب تلك الحجرة مِصْراعٌ واحد من ساج أو عرعر، لم يُغلق في وجه أحد، وأثاثها: حصير وفراش ووسادة من أَدَم، وأُهُبٌ معلقة، وإداوة وقِربة وقصعة؛ حجرة خالية من المصابيح الدنيوية، لكنها منهلٌ ومنبع للمصابيح الأخروية.
ككعبة للوحي منصوبةٍ يسعى.....إليها الناس في كل حال
تقول رضي الله عنها: (كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)، ولما سئلت: (لم يكن فيها مصابيح)، قالت: (لو كان عندنا زيت مصباح لأتدمنا به). ما أتفه الدنيا لمن يعتبر.
فإنها السجن لمن آمنوا.....والجنة الفيحا لمن قد كفر
ومن ارتضاه الله وفق سعيه.....فرأى العظيم من الحظوظ خسيسًا
لقد كانت رضي الله عنها تقوم بالخدمة في حجرتها، تنظفها، ترتبها، تُزينها، تطحن الدقيق بيدها، تطبخ بنفسها، تهتم برسول الله، تُرَجِّله، تطيبه، تغسل ثيابه، تكرم ضيوفه، تَفْتِل قلائد هديه.
والود يسكن في الحشا....لكن يُحس من اليدِ
كان صلى الله عليه وسلم يبيت في بداية الأمر في تلك الحجرة ليلة، ويدعها ليلة أخرى عند سودة، ولما أكرم الله أزواجه به وهبت سودة يومها لعائشة، كان يبيت في تلك الحجرة يومين من تسعة، ويومًا لكل زوجة.
فتفردت بالسبق حين يظمها.....ويظم كل مسابق مضمارُ
ولقد ظُمت الحجرات إلى المسجد، وبقيت حجرة عائشة، وستبقى بإذن الله إلى يوم الدين، ما من وافد إلى المسجد النبوي من شرق الأرض وغربها، إلا وتأنس روحه بالوقوف عندها ليُلقيَ السلام على خاتم النبيين، وصاحبيه الأبيين وحاله:
هواها قديما أرضعتني المراضعُ.....ولم يسلني عنها ديارٌ قريبة
ولم تسلني عنها بلاد شواسعُ
لقد عاشت رضي الله عنها في تلك الحجرة قرابة خمسين عاما، ما أدخلت عليها من تغيير سوى احتوائها لقبور ثلاثةٍ هم خير أهل الأرض أجمعين.
وهم الذين يحبهم ويجلهم......من كان ذا لب وذا إيمان.
إنها حجرة مباركة، لأم مباركة.
إن يكن للعفاف في الناس أم .....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

عائشة والأدب مع رسول الله ما عائشة!
إن أطنب البديع في آدابها.....فإنها في القدر فوق ما وصف
خلق رفيع، وأدب بديع، حديثها لرسول الله سحر حلال، وسلسبيل زُلال، أحلى من الضَّرَب، وأشهى من بلوغ الأرب؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معها في سمر طريف، وحديث شائق ظريف، قال في نهايته كما في الصحيح: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أني لا أطلق)، فقالـت: (بل أنت والله خير من أبي زرع لأم زرع يا رسول الله).
سرى نفحها يطوي الفيافي، مُحمَّلًا بفاغية فواحة بالشذى النقي، إلى مغرب حينا وحينا لمشرق.
ولما أخبرها أنه يعلم غضبها من هجر اسمه يوم تقول لا ورب إبراهيم في قسمها، قالت: (أجل والله ما أهجر إلا اسمك يا رسول الله).
فحبكم عن جميع الناس أغناني.....وما هجرت! وليس الهجر من شاني
صالحة لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلا ما يسره.
رِدي أَيَا نفس أشهى ما نَهِلت ردِي.
كالمسك ريحا ولى ما مطعما.......والتبر لونا والهوى في اعتدال
اشتهرت بين نساء المدينة بالتجمل والعناية بالزينة، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فرأى في يدها فتَخاتٍ من ورِق، فقال: (ما هذه ياعائشة)، قالت: (صنعتهن لأتزين لك يارسول الله).
وما الروضة الغناء غنَّى حمامُها......بأحسن منها في الحُلي المنوَّعِ
كان لها درع كما في الصحيح، ما كانت امرأة في المدينة تُقَيَّن وتُزين لزفافها إلا أرسلت تستعيره منها.
كأنها الماء مبذول لشاربه......وما يُصاب له مِثْلٌ إذا عُدمَ
وكانت تنصح النساء بالتزين للأزواج في دائرة هدي المختار؛ قالت يوما لامرأة: (إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتجعليهما أحسن من ما هما فافعلي)؛ إنها رسالة من زوج المختار، لذات الخمار،طارت كل مطار، وشاعت في الأقطار.
فكأنما أهدت كؤوس القَرْقَفِ......وكأنها نّيْلُ الأمان لخائف
أو وصل محبوب لصبٍّ مدنفِ.......فآدابها تبدوا كدرٍّ منضدِ
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأنذال أم العفاف

عائشة ومنزلتها عند رسول الله ما عائشة!
قدم في الثرا، وهامة في الثريا؛ شمس تخجل لها شمس السما، وتتضائل لديها تضاؤل الإما، منزلة تحير الألفاظ والمعاني، وتفعل في الألباب ما تفعل المثاني.
ذر الأنف يستنشق خمائل روضة.....تبُذُّ نسيم الورد أنفاسها بذَا
إنها الصديقة بنت الصديق الهمام، من بُعث لها السلام مع جبريل عليه السلام: (ياعائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام).
سلام مدى التاريخ ليس ببائدِ، حباها به ذو الفضل والمن والعطا، وقلَّدها منه بأزهى القلائدِ
علم الصحابة ذاك والأتباع.
فإذا استُحبت للنبي هدية....فبيومها يُتقصَّد الإهداءُ
وبذا ينالون الرضى من حِبِّها......ورضاه أرجى ما ابتغى العقلاءُ
من كان له هدية لرسول الله انتظر حتى إذا كان يوم عائشة، بعث بهديته، فحبُّها ذاع في القاصي وفي الداني.
ثارت الغيرة عند أزواجه فاجتمعن عند أم سلمة وقلن لها: (إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فكلمي رسول الله ليكلم الناس، من أراد أن يهدي لرسول الله هدية فليهدها له حيث كان). طلب دافعه الغيرة. قالت أم سلمة: (فذكرت ذالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عني)، ولم يكن رسول الله ليطلب من أحد ما ينبغي أن يفعل بهديته، لما في ذالك من التعرض لطلب الهدية؛ قالت: (فأعرض عني! ثم ذكرت ذالك له فأعرض عني!، وفي الثالثة قال: (يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها).
يسْتهبُّونها جنوبا فحادت عن......هُدى قصدهم وهبت شمالا
أدركت أم سلمة، أن رسول الله عرف ما وراء الأكمة، فاعتذرت إليه وقالت: (أتوب إلى الله من أذاك يارسول الله).
ثم رجعت وأخبرت صواحبها بما دار، فلم يقنعن بالجواب، ولجأن إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها لتحمل الرسالة، لكن بصيغة ثانية، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله فاستأذنت عليه؛ تقول عائشة: (وهو مضطجع معي في مِرْطي فأذن لها، فقالت: يارسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة)؛ ويتلقى ذالك برحابة صدر وهدوء قلب، مع أنه اتهام بعدم العدل، لعِلمه أن الباعث لذالك غيرة لا سوء طويَّة، ولذا قال لفاطمة: (أي بُنَيَّة ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحبي هذه) وأشار لعائشة، حاله: إن أمر الحب ليس في يدي يافاطمة. قالت فاطمة: (فرجعت إلى أزواجه فأخبرتهن بما كان، فقلن ما نُراك أغنيت عنا من شيئًا، فارجعي له!) قالت فاطمة: (والله لا أكلمه فيها أبدًا)، وحالها:
أبتاه حبك نيتي......ولكل عبد ما نوى
ما ضل صاحب مُهجة....تهفو إليك وما غوى
قالت عائشة: (فأرسلوا زينب وهي التي تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرى امرأة قطُّ خيرًا في الدين من زينب وأتقى لله، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يُقربها إلى الله، ما عدى سَوْرةً من حِدَّة، تسرع منها الفيئة.قٌالت: فاستأذنت على رسول الله، ورسول الله معيَ في مِرطي فأذن لها؛ فقالت: (يارسول الله إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت بي واستطالت علي وأنا أرقب رسول الله، هل يأذن لي فيها؟ فعرفت أنه لا يكره أن أنتصر منها؛ قالت: فوقعت بها ولم أدعها حتى أنحيت عليها، فما ترد علي شيئًا وقد يبِس ريقها في فمها، ورأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل).
تخال جبينه والليل داجٍ.....شُعاعَ الشمس أو نور الجلامِ
ويقول: (إنها ابنة أبي بكر).
طابت فطاب بذكرها الإخبارُ.....وكذاك أبناء الكبارِ كبارُ
إن الباعث لما حدث لم يكن قضية الهدايا، فعائشة لا يد لها في أمر الهدايا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزع عليهن بالتساوي ما يأتيه من هدايا، فليست القضية هدية، القضية غِبطة عائشة على منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكانةٌ تلك لم تحضى بها امرأة....سواها في حاضرِ الدنيا وماضيها
وعند أحمد وأبي يَعْلى بسند حسن: (أنه أُهدي لرسول الله قلادة ملمَّعة بالذهب، ونساؤه قد اجتمعن عنده، وأُمامة بنت زينب جارية تلعب في جانب البيت، فقال لهن: :كيف ترين هذه القلادة؟ قلن: ما رأينا أحسن منها قط ولا أعجب؛ قال: والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي). قالت عائشة: (فأظلمت علي الأرض بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري)؛ وقال أزواجه: (ذهبت بها ابنة أبي قحافة)، فأقبل بالقلادة فوضعها في رقبة الجارية أمامة.
والشاهد من هذه المقالة: ذهبت بها ابنة أبي قحافة.
لقد احتلت عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة، اعترف لها رغم الغيرة بها أمهات المؤمنين.
حبيبة قلبه روحا وعقلا....أحاط بها من الهادي الحنانُ
وقد شهدت بحبهما البرايا....وطار بذكره الحسن الزمان.
وكانت عائشة تعرف هذه المكانة فتُدِلُّ بها على صواحبها. فعند الترمذي: أن رسول الله كان جالسا عندها، فسمع لغطا وصوت صِبية، فقام فإذا حبشية تزْفِنُ –ترقص والصبية حولها- فقال: (يا عائشة تعاليْ فانظري)، قالت: (فجئت فجعلت لَحْييَّ على منكبه وأنظر من بين منكبه ورأسه خدي على خده؛ فيقول: أما شبعت! أما شبعتِ! فأقول: لا لأنظر منزلتي عنده)، وحالها: أحب أن يبلغ النسا مقامه لي ومكاني منه.
فقد أعلى رسول الله شأنا.....لعائشة فاستقر لها الكيان
لقد أحبته عائشة حبا جما، فكان في سمعها بشرى مرفرفة، وكان في روحها وردًا وريحانا.
ومن شدة حبها وحرصها عليه، أنها لو استيقظت من نوم فلم تجده بجنبها أصابها القلق والاضطراب رضي الله عنها وأرضاها. تقول كما في صحيح مسلم وغيره: (كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل والبيوت يومئذ ليس بها مصابيح، فتحسسته فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك).
عليه صلاة الله ما ناح بالضحى.....حمام وغاب البدر من بعد ما أضا
ولما آلى من نسائه شهرًا واعتزلهن، خيم الحزن والقلق على أمهات المؤمنين، فلا تكاد تراهن إلا يبكين، حتى إذا ما كمُل الشهر كان أول ما فعله أن بدأ بعائشة فخيرها، وطلب منها أن لا تعجل حتى تستأمر أبويها، قالت: (أفيك أستأمر أبوي؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، والله لا أوثر عليك أحدًا).
سأحبوك محض الحب ما هبت الصَّبا.....وما سجَعَتْ في الأيْك وُرْقُ الحمائمِ
فحبك إي والله أُنسي وراحتي.....عليه مدى الأيام أطوي وأنشرُ
إنها عائشة، أحب النساء إليه، إذا هوِيَت شيئًا لا محظور فيه تابعها عليه؛ لما حاضت في الحج وأهلت به ووقفت المواقف كلها، ثم طهرت وطافت وسعت، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد حللت من حجك وعمرتك)، فلم تطب نفسها، وقالت: (إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت)، وكان رسول الله رجلا سهلاً إذا هويَتِ الشيئ تابعها عليه، فقال لأخيها عبد الرحمن: (اذهب فأعمرها من التنعيم)، فأهلَّت بالعمرة من هذه البقعة، حتى إذا ما فرغت آذن بالرحيل إلى المدينة.
وحسبها في الفضل ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). برغم أنف الأقزام الطَّغَام اللئام، وسفيه الغرب وزنديق العصر خليفة أبي رِغال، وطليعة الدجال، وخُنثى الرجال.
ذاك الذي في الحيض طول الدهر....والحيض يأتي مرة في الشهرِ
ونتن كلامه يُربي على نتن الضَّرابِين، كيف يُدعى لآبائهم هؤلاء وفيهم مثل ذاك الزنيم، يا لحى الله من أشاح عن الحق ولم يثنه لطيف الهدى فيه.
إن يكن للناس في العفاف أم.....فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة الغيرى ما عائشة!
خير الأنام حليلها وكفى....فخرًا بأن يديْه ترعاها
لقد كتب الله الغيرة على نساء العالمين، فهي راسخة في المرأة رسوخ الأصابع باليدين، وتبلغ الغيرة أوجها حين تلقى المرأة منافسًا لها على قلب حليلها.
حينها لا تسل عن فاعل تُبْصره....إنما عن فاعل مستترِ
وأمهات المؤمنين خير النسا، اعتراهن من الغيرة ما يعتري النسا، وكيف لا يغرن على خير من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء.
بل خير من ركب المطِيّة ومن مشى.....فوق البسيطة سوقِها والمسجدِ
ولقد واجه رسول الله تلك الغيْرة بحِكمة ورويَة، وعمق إدراك لواقع النفس البشرية، وتقديرٍ للمشاعر والأحاسيس الزوجية، وكان أكثرهن غيرة وأشدهن في هذا الأمر عائشة، لمكانتها العالية في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في السير للذهبي أنها قالت: (لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها، حزنتُ حزنا شديدا لما ذكروا من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها فوجدت أضعاف ما وُصِف لي منها، فذكرت ذالك لحفصة فقالت: لا والله إن هي إلا الغيرة وما هي كما تقولين، وإنها لجميلة. قالت: فرأيتها بعدُ فكانت كما قالت حفصة، وإن هي إلا الغيرة).
وإن الحال أبلغ من مقالي....وإني لست أملك ما ببالي
وتقول رضي الله عنها: (جاءت جورية رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، وكانت امرأة حُلوة مُلاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه؛ فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وعرفت أن رسول الله سيرى منها ما رأيت). وكان ما حذِرتْه، إذ رآها وتزوجها رضي الله عنها.
وفي صحيح مسلم: أن رسول الله خرج من عند عائشة ليلاً، قالت: (فغرت! فجاء فرأى ما أصنع فقال: يا عائشة أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك يارسول الله)
هل تحمل الغبراء مثلك أو......جرتْ يوم الرهان بمثلك الغبراء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوقد جاءك شيطانك؟ قالت: أومعي شيطان؟ قال: نعم. قالت: ومع كل إنسان؟؛ قال: نعم، قالت: ومعك يارسول الله، قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا بلى. قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع نعليْه عند رجلَيْه، ووضع رداءه وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، ثم انتعل رُوَيْدًا، وأخذ رداءه رُوَيْدًا، ثم فتح الباب رُوَيْدًا، وخرج فأجافه رُوَيْدًا، قالت: فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري وانطلقت في إثره، فجاء البقيع، فرفع يديه ثلاثًا وأطال القيام، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، وسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل -أغمضت عينها كالنائمة والنفَس متواتر مرتفع- فقال: مالك ياعائش؟ حَشْيَا رابية؟ قالت: لا شيئ يا رسول الله. قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: بأبي أنت وأمي يارسول الله، رأيتك خرجتَ فخرجت وراءك خشية أن تذهب إلا بعض نسائك. قال: فأنت السواد الذي أمامي؟ قلت: نعم! قالت: فلَهَدَني على صدري لهْدةً أوجعتني وقال: أظننت أن يحيفَ الله عليك ورسوله ياعائشة. قلت: بأبي أنت وأمي، مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم، أتاني جبريل حين رأيتِ فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، وظننت أن قد رقدتِ فكرهت أن أوقظك وخشيتُ أن تستوْحشي).
الرَّوْح والريحان في كلماته.....واللؤلؤ المكنون في بسماته
عليه صلاة الله ما ذّرَّ شارق وما.....سبح الرحمن في الأرض ساجدُ
وأهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة وهو عندها، فأخذتها الغيرة وتملكتها رِعدةٌ هزتها، فضربت القصعة بيدها فانكسرت وألقت ما فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية الهدوء والسكينة والوقار، لا تقريع ولا ملام، يظم الكِسرتيْن إحداهما إلى الأخرى ويجمع الطعام، ويعتذر لها لأن لا يُحمل على الذم صنيعها، ويُشير إلى عدم مؤاخذة الغيرى قائلا: (كلوا! غارت أمكم) .
كعنبرة شهْباءَ تحمل نفحةً تنفَّسُ في.....صدر النَّدِيِّ فتُنشَقُ تَُعَطر أنفاس الرواة فتعبقُ
ولسان حال المختار: إن البحث عن الدوافع له أثر كبير في تفسير الأفعال، والدافع لما حدث من عائشة هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يكون الحب سببًا للإساءة إلى المحبوب بحال.
ذاك الحبيب فلن يشقى الجليس به.....كم نال من جالس العطَّارَ أعطاره
ثم توج رسول الله ذالك بعدله، فلم يمنعه حب عائشة من أن يحكم عليه بتعويض المكسورة بأخرى من عندها صحيحة، والحال:
هذه كفارته ياعائشة.
إناءٌ بإناء، وطعام بطعام؛ فسارت قضية، من كسر شيئًا فهو له، وعليه مثله.
هكذا مرت الحادثة بدرس في الحِلم وحسن المعاملة، حتى بعد انصراف الصحابة لم يكن لذالك أثر في تعامله، تُخبر عائشة عن ذالك قائلة: (فما رأيت ذالك في وجه رسول الله بعد ذالك). حالها:
فِدًا لك تالِدِي وفدتك نفسي.....ومالي إنه منكم أتاني
وعند أبي يعلى بسند قال فيه الحافظ في الفتح لا بأس به: أن عائشة كانت في سفر على جمل ناجٍ ومتاعها خفيف، وصفية على جمل ثَفَالٍ بطيئ، ومتاعُها ثقيل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (حَوِّلوا متاع عائشة على جمل صفية، ومتاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب. فقالت عائشة وقد أخذتها الغيرة: يال عباد الله! غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: يأم عبد الله، إن متاعكِ فيه خِف ومتاع صفية فيه ثِقل، فأبطأ الركب فحولنا المتاع ليمضي الركب) وحاله:
يا أيها الغيرى اسمعي لمقالتي.....وتفهمي عن بعض ما لم تفهمي
فقالت: (ألست تزعم أمك نبي الله؟. فتبسم وقال: أوفي شك أنت ياأم عبد الله؟. قالت: فهلا عدلت يا رسول الله؟ قالت: فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب وحِدَّة.
وإن حدته والله يكلأه....كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قالت: فأقبل فلطمني) وحاله:
أفي الشمس شك أنها الشمس بعدما......تجلت عِيانًا ليس من دونها سَترُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا أبا بكر! قال: يا رسول الله أما سمعت ما قالت. فقال: يا أبا بكر إن الغيرى لا تُبصر أسفل الوادي من أعلاه).
كَلِمٌ كالروض حلاه الندى....بجمانٍ صِيغَ من ماء معين
والله لن تسعد أسرة في غير منهج الله الذي جلاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعتقدُ السعادة في سِواه......كمعتقد النبوة في سَجاحِ
وفي صحيح مسلم ما مختصره: اجتمع أمهات المؤمنين برسول الله في بيت عائشة وفي ليلتها، فجاءت زينب فمد يده إليها فقالت عائشة: هذه زينب، فكف يده. فتقاولتا حتى اصطخبتا وارتفعت أصواتهما؛ ومر أبو بكر فسمع الصوت، فقال: اخرج يارسول الله إلى الصلاة واحْثُ في أفواههن التراب.خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الموقف في ثورته، وتغاضى وتغافل عنه، وحاله: لا تُطفأ النيران بالنيرانِ. وانصرف لصلاته، فانطفأ ما حدث، وقُضي عليه في مهده؛ إلا أن عائشة بقيت تحمل هم ما يقول لها أبو بكر. فقالت: الآن يجيئ أبو بكر فيفعل بي ويفعل! وجاءها أبو بكر قائلا: أتصنعين هذا؟ ثم زجرها على ما بدر منها وقال لها قولا شديدًا. وحالها:
أوقعْتِنِي ياغيرتي وفعلتِ فعلتك التي
ومع ذا يا أبتي:
لإن ند اللسان ففي فؤادي......رسَى حبٌّ له كالراسياتِ
فتغاضيا لا غفلة معشر الإخوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة)
وروى الإمام أحمد: أن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله من جنازة بالبقيع فوجدني أجد صداعًا، وأقول وارأساه؛ فقال: بل أنا وارأساه، ياعائشة! ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك فغسَّلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك. فقالت: لكأني بك والله لو فعلت ذالك قد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماتٍ، لو برقْنَ على صخرة مادتْ من الطَّربِ.
ثم بُدِءَ بوجعه الذي مات فيه.
فبمهجتي أفدي الذي.....أمسى يقيم بمهجتي
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا كما في الصحيح أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يُحادثها، فقالت لها حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر؟. قالت عائشة: بلى! وركبت بعير حفصة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها وسار معها حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فثارت ومارت بها غيرةٌ يُقصِّر عن وصفها ما أقول. جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: (يا رب سلطْ عليَّ عقربا أو حيّةً تلدغني! رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئًا). حالها:
بَعُدتُ عنه فأمسى عَسْجَدي فِظة.....وأصبحت فِظَّتي من بعده فَظَّة
صبوحي إذا ما ذرَّت الشمس وجهُه....ولي وجهُه عند المساء غَبوقُ
وفقدت رسول الله كما في صحيح مسلم وظنت أنه ذهب لبعض نسائه، فتحسستْه فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) فقالت: (بأبي أنت وأمي يارسول الله، إني لفي شأن وإنك لفي شأن). والحال:
سلام على من إليه أتوق....ومن لست للبعد عنه أطيقُ
وآخر ذكراي حين أنام......وأوَّل ذكراي حين أفيقُ
ومن عجيب غيرتها معشر الإخوة، أن كانت تغار من خديجة وقد لقيت ربها قبل أن تكون زوجًا لنبينا، ولعل ذالك من لطف الله بعائشة لأن لا يتكدر عيْشُها؛ قالت رضي الله عنها: (ماغرْت على امرأة ما غِرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بحبها، ويُكثر ذكرها، ويذبح الشاة ويهديها لخلائلها، ويقول: (إني رُزقت حبها، ما أبدلني الله خيرًا منها) حاله:
آليتُ لا أنساها ما هب الصبا.....حتى أُوسَّد في صفيح المُلحدِ
حُقَّ معشر الإخوة للصديقة أن تغار، وما لا تغار على سيد ولد آدم الذي فُتِحت عينها على حبه وإجلاله، ما لها لا تغار على الرجل الفريد، وهي التي لم تعرف غيره إذ هي البكر الوحيد، حُقَّ لها أن تغار، وأن تُردِّد في الأغوار والأنجادِ والبِيد:
زوجي رسول الله لم أر غيره....الله زوجني به وحباني
ومع غيرتها الشديدة كانت في غاية الإنصاف مع أخواتها، وما ذا بغريب على الصدّيقة الرشيدة.
هي الروضة الغنّاء فوّاحة الشذى....تميسُ اختيالاً بالعطور ورودُها
تهتم بصواحبها وتوقرهن، وتثني عليهن بما تعلمه منهن.
تقول في ميمونة: (أما إنها من أتقانا لله).
وفي صفية: (ما رأيت صانعة طعام أحسن من صفية).
وفي سودة: (ما رأيت امرأة أحب إلي من أن أكون في مِسلاخها من سوْدة).
وفي زينب وهي التي تساميها في المنزلة: (لم أر امرأة قطُّ في الدين خيرًا منها).
وفي جويرية: (ما رأيت امرأة أعظم بركة على قومها منها).
وكانت مع حفصة مثالا حيا للصداقة والرأي الواحد في الأمور المنزلية.
إنهن نساء النبي، تأدبن بأدبه، وتطلعن إلى رضاه، فلم يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن على بشريتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.
نواشئُ في طهْرِ الطوايا موائِِسُ.....وطيِّبةٌ أعراقهم والمغارسُ
قلوبهمُ بيضا، رُواءٌ من التقى.... تكاد تَفَقَّا، والبطون خوامصُ
مُحكمات الذكر قد أغنتهمُ.....عن فضول القول من قيلٍ وقالِ

ُلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة ما لطفه!
حُضارَةُ في لُطفه قطرةٌ.....ورَضْوى إلى حبه كالحصاة
إنه صلى الله عليه وسلم خير الأزواج، وألطفهم بأهله، ما عنفها ولا اشتد عليها يومًا ما، بل كان يترضَّاها إذا غضبت، ويحول بينها وبين من يريدها بيسير الأذى ولو كان أباها.
فمن كان في روضه رائضا.....فما زال في عيشة راضية
أخرج أحمد أن أبا بكر استأذن على رسول الله فسمع صوت عائشة عاليا فأهوى عليها أبو بكر ليلطمها، وهو يقول: (يا بنت أم رومان، ترفعين صوتك على رسول الله؟!) فأمسكه رسول الله، وحال بينه وبينها، فكان أرأف بها من أبيها، وخرج أبو بكر مغضبًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟).
تجري إلى القلب....جري الماء إلى العودِ
وجاء أبو بكر فوجدهما يضحكان وقد اصطلحا، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا، قد فعلنا).
حروف تفوق بتأثيرها....نفيس الحُليِّ على الخُرَّدِ
كان صلى الله عليه وسلم يتعاهدها بما يسرُّها، فغالبا ما ينام ويضع رأسه على فخذها ويتكئ في حِجرها.
خرجت ذات مرةٍ مع رسول الله في بعض أسفاره كما في الصحيح، فانقطع عِقدها، فأقام رسول الله والناس معه على التماسه، فقال الناس لأبي بكر: (ألا ترى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله والناس)، فجاء أبو بكر إليها ورسول الله واضعٌ رأسه على فخذها، فعاتبها وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتها، تقول: (فلا يمنعني من التحرك إلامكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي؛ وأصبح الناس على غير ماء، فأنزل الله: (فتيمموا صعيدًا طيبًا). فيأتي أبوها الذي كان يعنفها فرحا ويقول: (والله ما علمتُ يابنية إنكِ لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك من اليسر والبركة؟).
إنها حبيبة رسول الله، كانت تغتسل معه من إناء واحد، وتبادره: (دع لي، دع لي). وتشرب من إناء ثم تناوله فيضع فاه على موضع فيها، وتتعرَّقُ العظم ثم تناوله إياه، فيضع فاه على موضع فيها. لكأنها والله نَشْوى.
وما شربت مُدامًا إنما.....أضحت بخمر رُضابه تتنبَّذا
وسابقها مرة فسبقته، ثم سابقها أخرى فسبقها، ثم قال تطييبًا لخاطرها: (هذه بتلك) وهو يضحك. وحالها:
لعمرك ما كل الوجوه إذا بدت.....بمُغْنيةٍ عن وجهكم وهو واحدُ
ما زال حبك يجري في دمي.....وأنا من غيركم مّوْجةٌ ضاعت شواطيها
قد اشتريتك بالدنيا وما فيها....ودخلت جنة حبكم متنزها
ياليت قومي يعلمون بأنني.
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

عائشة والفقه، ما عائشة!
عقلية نادرة، بديهة حاضرة.
تُوضح العَوْصى إذا التبست.....فنراها غير عَوْصاءِ
نقلت للأمة ربع الشريعة، مسندها بلغ ألفين ومائتين وعشرة، وهي من السبعة المكثرين من الصحابة.
أبو هريرة سعد جابر أنس....صديقة وابن عباس كذا ابن عمر
إذا رجف الخِضَمُّ من المعاني....ولم يَغُص اللبيب على اللُّباب
تغوص بلُجِّه فتجيئ منه....لعمر الله بالعجب العُجاب
وكانت رضي الله عنها طُلَعَة، لا يهدأ لها بال حتى تجلوَ لنفسها ما خفي عنها، لما قرأت قول الله: (والارض جميع قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قالت: (فأين الناس يومئذ يارسول الله؟ قال: على الصراط). ولما قال: (يُحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة. قالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم لبعض ياعائشة). وبعد مُضي تسع وعشرين من الشهر الذي هجرهن فيه، بدأ بها فآثرت فهم الشريعة على فرحتها بلقائه، وقالت: (لقد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين أعدها عدًا. قال: الشهر تسع وعشرون).
تُلاحظ سنة الهادي دواما.....بمقلة قلبها الصافي السليمِ
فتنشر من علوم الدين بُرْدا.....عريضا للمسافر والمقيمِ
وهي التي أفتت فبزت كل من....ألقى لهم بزمامه الإفتاءُ
استقلت بالفتوى في عهد الراشدين، وشهد لها بالعلم أكابر الصحابة والتابعين، يقول أبو موسى رضي الله عنه: (ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا).
وقد كانت قادرة على الإجابة على أسئلة لم يكن غيرها قادرًا على الإجابة عليها.
ذكر بعضهم أن عليًا كان وصيا، فقالت: (لقد مات رسول الله في حِجري، فمتى أوصى إلى علي؟).
أجبني بالصريح ولا تُكنِّي....وجنبني أساليب المِراءِ
هي المنهل الرقراق عذبٌ نميره....إذا نهِل الوُرَّادُ طاب وروده
وكم عَوْصاءَ قد جلت وأعيتْ.....أتتها فانثنت شمسَ زوالِ
ولقد كان يرجع لها أكابر الصحابة، يقول مسروق: (والذي نفسي بيده لقد رأيت أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض).
فتُهديهم مُخضَّرة المعاني.....فتأتي وهي واضعة النقاب
وكانت رضي الله عنها مثالا للورع في الفُتيا وغيرها، ما عُرضت عليها مسألة ترى غيرَها أعلم بها إلا أحالت عليه.
سُئلت عن المسح على الخفين، فقالت: (عليك بعلي، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وسئلت عن الركعتين بعد العصر قالت: (سل أم سلمة).
أضحت بها تاجًا يلوح على الجبين.....بل درة تختال في العِقد الثمين
ولقد بلغ الإعجاب من الذهبي بعلمها حدا قال فيه: (ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقا امرأة أعلم من عائشة).
فهي التي في الفقه كانت منقعا....عند الخلاف يؤمه الفقهاءُ
ليعززوا آراءهم من منبع بِوُرُودِهِ.....تتعزز الآراءُ
ومع فقهها فقد بلغت في الفصاحة والبيان والبلاغة غايتها.
ليس قُسٌّ عندها قسًّا ولا.....سيبويه الشَّهْمُ عندها يدري ما الكلِم
روح العربية في لسانها، وهاروت وماروت في بيانها، ما سمع كلامها أحد إلا بهرته فصاحتها، وأدهشته عارضتها، يقول معاوية: (والله ما رأيت خطيبًا قط أفصح ولا أفطن ولا أبلغ من عائشة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فتحت بابا قط تريد أن تغلقه إلا أغلقته، ولا أغلقت بابا قط تريد أن تفتحه إلا فتحته).
ويقول الأحنف: (سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخطباء إلى يومي هذا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من فيِّ عائشة).
وما نزل بها شيئ إلا أنشدت فيه شعرًا.
رأت رسول الله يوما وقد تهلل وجهه، فقالت: (لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بقوله:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه....برِقت كبارق العارض المتهلل)
ونظرت لوجه أبيها وهو يقضي فقالت:
وأبيضَ يُستسقى الغمام بوجهه....ربيع اليتامى عصمة الأرامل
قال: (ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ولما توفي أخوها عبد الرحمن تمثلت بقول متمم في أخيه مالك:
وكنا كنَدْمَانَيْ جُذيْمة حِقبةً من الدهر.....حتى قيل لن يتصدعَ
فلما تفرقنا كأني ومالكا....لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فرضي الله عنها وأرضاها.
إن يكن للبيان في الناس أم.....فهي رغم الأعلاج أم البيان

عائشة الطاهرة، ما عائشة!
حَصانٌ رزانٌ من كريم الخرائد
مهذبة قد طيب الله خِيمَها......وطهرها من كل سوء وباطل
كانت مع رسول الله في غزاة، وفي عودته نزلوا منزلا، فانقطع عِقدها فبقيت تبحث عنه ورحل الجيش واحتملوا الهودج على أنها فيه لخفتها، ثم وجدت عِقدها وعادت فلم تجدهم فلزمت مكانها علهم يفقدونها فيرجعون إليها.
في ليلة يالها، غُدافيَّة ليس فيها....بصيص يلوح ولا نجمها يسطعُ
وبينا صفوان رضي الله عنه من وراء الجيش، يلقط ما يسقط من متاع رأى سواد ظنه متاعا فإذا هي عائشة قد غلبتها عينها، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله. قالت: فاستيقظت باسترجاعه وخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه سوى استرجاعه، أناخ راحلته وركبت فانطلق بالراحلة يقودها حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في نحر الظهيرة). فهلك من هلك ورُميت المحصنة البريئة.
ووالله لقدومها مع صفوان غير متوارية عن الأنظار في نحر الظهيرة لدليل البراءة عند ذوي الفطر السليمة، إنه لم يكن ليطرأ على بال عائشة مثل هذه التهمة وهي الحرة الشريفة.
ربيبةُ عِفَّةٍ وحيًا وطهر....معاذ الله أن تأتي الحرامَ
ولكن يطيب لأسود القلب التجني.....ويُشوى عند جاهله العُقابُ
رقص الخبيث النَّبِيثُ الوَكوعُ اللَّكوعُ الوَغْلُ الفَسْلُ عدو الله ابن أبي فرحًا، ووجدها فرصة لاستهداف رسول الله ودعوته، عن طريق استهداف أسرته.
نَعَقَ ونهق بالبذى وهَذَى.....وتناول الطهر بالأذى
ونفخ شِدْقه ولوى، ثم رمى وعوى.
فلو لبس النهارَ ابن أُبيٍّ.....لدنَّس لؤمه وضّح النهار
ولو رُميتْ بلؤم ابن أُبي .....نجوم الليل ما وضحت لساري
جعل يَحيك الإفك ويُشيعه ويُذيعه، ويجمعه ويفرقه، وزمرته يتقربون إليه به، والطاهرة في غفلة عن ذالك كله.
تنعق الغِربان والوَرقاء في.....دوْحها الميَّاد تشدو هاتفه
وصلت المدينة، واشتكت شكوى شديدة، وانتهى الحديث إلى رسول الله وأبويها فلم يذكروا لها شيئا، إلا أنه رابها أنها لا تعرف من رسول اله اللطف الذي كانت تراه منه في مرضها، ورسول الله مع هول الفرية يُحافظ على كرامة زوجه من أن تُمس، وكرامة أهلها من أن تُخدش.
ويلبث منتظرًا للوحي ما يقرب من الشهر، وهو صابر صبرًا لم يُعرف في تاريخ النوازل لأحد قبله أو بعده، وحسن الظن مصاحبٌ له، يقو: (والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا).
فليس يصح فيه قول غاوٍ....وعند الله قد عُقِد القرانُ
ومع ذا يتتبع ويبحث عن مزيد حِلم في حزم، ليحسم الإشاعة، ويظهر البراءة، ويقطع القالة.
في حكمة ما وعت أذْنٌ ولا سمعت ....بمثلها منذ أزمان وأدهارِ
فما كل الرجال لهم عقول.....بها في كل خطبٍ يُستعان
ففي الناس العقارب والأفاعي....ومن هو في الخديعة ثُعلبانُ
وبعد شهر استشار أصحابه، فقال أسامة: (أهلك ولا نعلم عنهم إلا خيرًا)
وقال علي: (النساء كثير، وسل الجارية تصدقك).
وقالت زينب: (أحني سمعي وبصري والله ما علمت عنها إلا خيرًا).
وشهدت الجارية بالبراءة، ومن فقهها أحالت على الوحي، قالت: (والله لعائشة أطيب من الذهب، ولئن كان ليخبرنك الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تِبْر الذهب الأحمر).
وحال جمع الصحابة: الله زوَّجَكَها، ولن يدلس عليك فيها.
هيهات يدنسُ ثوب طاهرة.....هيهات يُلمس غرسها الزاكي
أما أبو بكر فيال أبي بكر.
لقد صَدَع الحَشى منه دياجِ همومٍ....ما لشارقها انصداع
كأن القلب تنهشه السباع.
لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، وحاله:
عُذرًا إذا سكت المحب فللأسى.....قدر إذا بلغ النهاية ألجمه
ثم فجرها بمرارة، تحت ضراوة الإشاعة: (والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر، والله ما رُمينا بها في الجاهلية، أتقال لنا في الإسلام؟).
إن للبهْتِ حُرقة لو أصابت.....شامخات الجبال صرن رميما
عائشة يال عائشة، خرجت لقضاء حاجتها بعد بضع وعشرين ليلة مع أم مسطح، فعلمت بما يُقال فيها، فذُهلت عن حاجتها، وعادت لأمها تستثبت منها، فأخبرتها بما جرى، وهونت عليها، فقالت: (سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت أمها: نعم. قالت: وقد علم أبي؟ قالت: نعم: قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم)، فعلى بُكاؤها وخرت مغشيًا عليها، فغطتها أمها بثيابها، وما أفاقت إلا وعليها حُمًّا بنافظٍ قد أخذتها،وكان أبو بكر يقرأ فوق بيته فسمع بكاءها فنزل وقال: (ما شأنها؟). قال: (بلغها الذي ذُكر من أمرها). ففاضت عيناه رحمة بها.
ياغَصة ليست تُساغ ولوعة......قد أضرمت في قلبه نيرانها
لو أن ثهلانًا أصيب بعُشرها ....لتدكدكت منه ذُرى ثهلانِ
لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، حتى ظُنَّ أن تُصدع كبدها.
كأن الجفون على مقلتيها......ثياب شُققن على ثاكلِ
كم عيون غرقت في دمعها.....وقلوب غُمست في الألم
أما رسول الله، فلم يصل إلى ما يخرص الألسنة الحاقدة، فكان لابد من مُفاتحة عائشة، عندها دخل رسول الله على الحَصان الرزان، يطلب منها شافي البيان، فثارت الكلمات كالبركان، تقول بقول يعقوب في القرآن: (فصبر جميل والله المستعان)، واضطجعت الرَّزان والله يعلم إنها لبريئة، وحالها: (إنما أشكو بثي وحزنيَ إلى الله).
وما أناخ بباب الله ذو ألم.....إلا تزحزح عنه الهم والحرجُ
تغشى رسول الله ما كان يتغشاه، قالت: (فما فزعت وما باليت وقد عرفت أن الله غيرُ ظالمي وأني بريئة، أما أبوي فوالذي نفس عائشة بيده، ما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننتُ أنْ تخرج أنفسهما).
بلغت بشدتها مدًى لم تُبق في.....الشدائد ما يُعد شديدا
وسُري عن رسول الله، وتحضر العرق منه كالجمان، على جبينٍ كالياقوت والمرجان، و(لأن لا يهجم الفرح على قلب عائشة لأول وهلة هجمة واحدة فيهلكه، تدرج رسول الله في الخبر) كما يقول ابن حجر.
ضحك أولاً، ثم بشر ثانيًا (أبشري)، ثم أعلن بالبراءة جملة: (ياعائشة، أما والله لقد برأكِ الله). ثم تلى الآيات: (إن الذين جاءوا بالافك عصبة).
أحلى من الأمن أتى بعد الفرى.....فاخضر منها يابس الأعوادِ
والأقحوان بدى بضاحك نَوْره......والخَيزُرانُ بخُوطه الميَّادِ
وعاد إليها خِصبها وضياؤها.....وفارقها إمحالها وسَقامُها
كأرض سقتها بعد جدب سحائبُ....فأمْرَعَ منها روضها والفَدافِدُ
(قومي إلى رسول الله فاحمديه ياعائشة. قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي). بحمد الله لا بحمد أحد.
لك الحمد ياربي على كل نعمة.....ومن جملة الإنعام قولي لك الحمدُ
واقتضت حكمة الله معشر الإخوة، أن يكون الوحي في براءة الصديقة قرآنا يتلى، إذ لو كان رُأيا كما كانت تتوقع عائشة لبقي للمنافقين أن يقولوا إن رسول الله قال ذالك استنقاذا لبيته الكريم وبيت صديقه الحميم، فكان نزول الآيات إحقاقًا للحق، وإزهاقا للباطل، وقطعا للألسنة الخبيثة، وحسما للفرية العظيمة.
فبُرِّئت بذالك الصديقة.....كما هي البراء في الحقيقة
وخرجت عائشة من محنتها بشهادة رباتية في طُهرها وطيبها لا تمحوها الأيام، ولا تُخلِقُها الأعوام.
زادت مكانتها في قلب خاَتم النبيين، وعلا مقامها في نفوس المؤمنين إلى يوم الدين، وكتب الله لأسرة الصديق الأجر العظيم لصبرهم، ونزلت خمس عشرة آية تتلى إلى قيام الساعة، في تنزيه وتطهير ابنتهم، وتُوُعِّد من وقع فيها باللعن والعذاب من ربهم، وحَكم بكفر من رماها خاصة المسلمين وعامتهم. (لا تحسبوه شرا لكم).
بل كان خيرا وِفق ما نزلت......به من فضل ربي آية غراءُ
رسخت بأسماع الزمان وأكدت....أن ابنة الصديق منه بَراءُ
ما أنزل الرحمن من عليائه....نفيًا لما قد أرجف السفهاءُ
إلا وعائشُ للحرائر أسوة.....ما أنجبت نِدًّا لها حواءُ
وهكذا معشر الإخوة:
"لكل عصر جُعْلانه"، فكما تولى رأس النفاق الطعن في عرضها وهي جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، هاهو الطعن يتجدد من زنادقة العصر وهي موسدة في قبرها، وذا دليل على عظمتها ووهن وجبن وخَوَرِ خصومها، ونقول بقولها لما تناول الأقزام في حياتها أبا بكر وعمر رضي الله عنهما: (وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر).
ليس الضياء يُقاسُ بالظلماء.
إن يكن للعفاف في الناس أم ......فهي رغم الأوباش أم العفاف
برَّء الله عِرضها في كتابٍ.....لامست آيُه أديم الشغافِ

عائشة ووداع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يال عائشة!
يال عائشة وهي تودع حبيبا ما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، رأت رضي الله عنها في منامها أنه سقط في حُجرتها ثلاث أقمار، وأخبرت أبا بكر فقال: (إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك ثلاثةٌ هم خير أهل الأرض). وبُدئ الوجع برسول الله، وأخذ يسأل: (أين أنا غدًا) حِرصا على بيت عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث أحب، فنالت شرف خِدمته في لحظاته الأخيرة.
وبيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وفي يومها، قد أسندته إلى صدرها بالود والحب المتين، دخل أخوها والسواك بيده، فرأته ينظر إليه، قالت: (فقلت آخذه لك؟ فأشار أن نعم. أليِّنه لك؟ فأشار أن نعم) قالت: (فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه فاسْتَنَّ به كأحسنِ ما رأيته مستنا قط) وظلت تحمد الله الذي جمع بين ريقها وريقه في آخر يوم له، حالها:
أي رسول الله:
فلو ندَّاه ريقك وهو شهْدٌ.....ولاقى ثغر مخلوق سِواك
لقال على البديهة هل سمعتم ....خلاي الشهد تُدعى ياأراكَ
ياحبذا نفحة مرت بفيك لنا.....ورَاكَةٌ غُمست فيها ثناياكَ
قالت: (وجعلت يُدخل يديه في رَكوة ماء ويمسح بها وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. ثم رفع بصره إلى السماء، وجعل يقول: اللهم في الرفيق الأعلى. فعلمت أنه لا يختارنا).
قد كنت أهوى أن أُشاطره الرَّدى.....لكن أراد الله خير مرادِي
أعْزِزْ علَيَّ بأن يُفارق ناظري......لمعان ذاك الكوكب الوقادِ
ومالت يده.
من فوق صدر الأم فاضت نفسه في الخالدي، قالت: (فلم أجد ريحا كانت أطيب من ريح نفسه حين خرجت منه). وقامت كئيبًا ليس في وجهها....دم من الحزن تذري عَبْرةً تتحدر
مصائب لو وقعن على......جبالٍ لهدمت الجبال الراسيات
القلوب فزعة، والنفوس مُروَّعة، والعقول حيْرَى ذاهبة.
لوَاعجٌ أفصحت عنها الدموع وقد.....كادت تُجَمْجِمها الأحشاء والضِّلعُ
ولا خطب من هذا أمرُّ وأفدح......وما عذر عين لا تجود وتسفحُ
فمن كان قبل اليوم يستقبح البكا.....فقد حسن اليوم الذي كان يَقْبُحُ
وعائشة الثابة يال عائشة:
فصدرها بشواظ الحزن موقودُ، تنسى الخطوب ولا تنسى غداة حدى به الحِمامُ، وركن القلب مهدودُ.
الموقف عصيب، طاشت فيه أحلام عمالقة الرجال، وثبَّتها الكبير المتعال، كما ثبت الله الناس بأبيها خير الرجال، ودُفن صلى الله عليه وسلم في المكان الذي تُوفي فيه، حينها قال أبو بكر: (هذا خير أقمارك ياعائشة). وأضحت حجرة عائشة بما حوته من جسده الطاهر، أفضل بقعة على وجه الأرض، بينها وبين منبره روضة من رياض الجنة.
فطوبى للذي دفنوه فيها.
وبعد سنتين لقي الصديق ربه، بعد أن ثبت الله به الدين، ودُفن في حجرتها ليكون القمر الثاني بعد سيد المرسلين، وبعد مدة يستأذن الشهيد عمر أن يدفن مع صاحبيه فأذنت له وآثرته به، فاجتمع في تلك الحجرة ثلاثة هم خير أهل الأرض أجمعين.
فمن قاس الملوك بهم لجهل.....كمن قاس النجوم إلى بَراحِ
أُولاكَ فخري، فمن يأتي بمثلهمُ؟.....في منزل هابطٍ او ظاهرٍ ضاحِ
إن يكن للثبات في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الثباتِ

عبادة عائشة ما عبادتها!
ما إن تُرى إلا تكبر أو تُعَلِّمُ أو ترتل سورة أو تسجدُ، إنها صورة حية مصغرة لعبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُداوم على العبادة عامة، ولا تدع قيام الليل خاصة.
روت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله) ثم قالت: (ولقد كنت أصليها على عهد رسول الله، والله لو أن أبي نُشر من قبره فنهاني عنها ما تركتها).
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: (لكن أفضل الجهاد، حج مبرور). قالت: (لا أدع الحج بعدما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فإني ما حييت على هُداه....وإني بالمغيب له نصيرُ
كانت إذا عملت عملا أثبتته أُسوة برسول الله، الذي قالت عنه: (كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإذا حَلَّت الهداية قلبًا.....نشطت للعبادة الأعضاء
علت عباد ذي الأرضين طرًّا....كما علت "الصوى" شُم الجبال

تواضع عائشة ما تواضعها!
كَعَرف الطيب فاح من الشمالِ.
إنه تواضع آل بيت النبوة، انكسار لرب البرية، مع نفس كريمة أبية.
وكذا الشريف إذا تناهى في العُلى....عَدَّ التكبر أوضع الأفعالِ
تقول في عظيم تواضع لله، يوم برأها الله: (والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله رُأيا يبرؤني بها الله).
لأن كريم الأصل كالغصن كلما....تَحَمَّل من خير تواضع وانحنى
وفي الصحيح أنها أوصت عبد الله بن الزبير: (لا تدفني مع رسول الله، وادفني مع صواحبي في البقيع، لا أُزكى به أبدًا).
كذا مُثْمر الأغصان يدنو من الثرا.....وعاطِلُه يبغي بهامته الشِّعرى
إن يكن للوقار في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الوقار

عائشة والكرم والجود والسخا ما عائشة!
أسخى الكرائمِ كفها سحَّاءُ، تُعطي بلا وجلٍ ولا ينتابها عند العطاء تردد وجفاءُ، ثقةً بأن الله جل جلاله هو خير من يُرجى لديه جزاءُ.
كانت مثلا في الجود والزهد، لا يثبت لها مال في يد.
لا يألف الدرهم المضروب راحته.....لكن يمر عليها وهو منطلقُ
كانت خالية القلب عما في يدها، فكبف بما خلت منه يدها؟. أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الله والدار الآخرة، فهي كما وُصفت للدنيا قالية، وعن شرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية.
ما تأخرت عن بذلٍ أبدًا.....وما أمسكت عن معروف يدًا
يقول عروة: (ولقد رأيتها تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع جَيْب دِرعها).
فكات ترى المعروف خير الغنائمِ....وهَمُّ بني الدنيا وغالب سعيهم
لجمع المواشي شائها والأباقرِ
ثبتت على الحياة التي عاشتها مع رسول الله، فلم تغير شيئا منها.
استضافها عروة يوما وبالغ في إكرامها، فجعل يرفع قصعة ويضع أخرى، ويقرب طعاما ويرفع آخر، فحولت وجهها إلى الحائط واندفعت تبكي. فقال لها عروة: (كدرت علينا أي أماه. فقالت: -وهي تتخيل حياة رسول الله- والذي بعث محمدا بالحق، ما رأى المناخل مذ بعثه الله، وما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبضه الله).
ولن أنساه لا والله حتى......أُوسَّد في الثرا بعد انتقالي
فاستعبر الجميع، وتركوا الطعام بحاله.
وأهدى لها معاوة ثيابا وورِقا، فقلبتها ثم بكت وقالت: (لكن رسول الله ما كان يجد هذا). ثم تصدقت بها ولم تدخر شيئا له، وحالها:
لا لذةٌ ليَ في غير الجميل ولا.....في غير أودية المعروف أفراحي
إنها أكرم أهل زمانها، تجمع الشيئ إلى الشيئ ثم تَقسِمه، بعث لها معاوة بمائة ألف درهم، فما أمست حتى فرقتها، وبعث لها ابن الزبير بمثلها، فجعلت تقسمها وهي صائمة ونسيت نفسها.
فشاركها في مالها كلُّ مُمْلِقٍ.....وما إن لها في قدرها من مشارك
وتؤثر غيرها بالزاد جودًا.....وتقنع في المعيشة بالرماقِ
ما أكثر ما تصدقت بالرغيف والتمرة، وتفطر على الماء.
لم تُبق يم صيامها شيئا به....تقتات حين يُخيِّم الإمساءُ
كانت صائمة ذات يوم وجاء سائل فقالت للجارية: (أعطي السائل. قالت: ليس عندنا سوى قرص شعير تفطرين عليه. قالت: ادفعيه إليه ويرزق الله). ذهبت بريرة متثاقلة وأعطته، وجاء وقت الإفطار وأفطرت على الماء وقامت تصلي المغرب، ولم تفرغ من صلاتها حتى أتى آتٍ بشاة وكفنها من خبز وغيره. (ما هذا يابريرة؟ قالت أهداه رجل والله ما رأيته قبل اليوم يُهدي لنا شيئا قط. قالت: كلي يابريرة! هذا خير من قرصك). والله لا يكمل إيمان عبد حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وذا الكَلِمُ الذي إن كان حدٌّ.....لغايات اليقين فذاك حده
تدخل عليها سائلة معها ابنتاها فأعطتها ثلاث تمرات ولعلها لم تجد سواها.
هذا هو الغُنْمُ:
لا الدنيا وما رجحت......به الموازين فيها والمكايلُ
إذا لم تجد شيئا تتصدق به باعت بعض ما تملك لتتصدق به.
بذلت جميع عطائها.....وتخيرت بصنيعها أن يشبع الفقراءُ
حتى وإن جاعت وأمسى غيرها....في خير حال واعتراه رخاءُ
كانت عظيمة العناية بالأرقاء والأيتام والموالي، اشترت بريرة وأعتقتها، وأعتقت في كفارة يمين أربعين رقبة، وعندها جارية قيل إنها من ولد إسماعيل فأعتقتها، وقامت بتربية ابن الزبير، وبنات محمد بن أبي بكر وبعض جوار الأنصار.
إلى حِجرها يأوي اليتامى كما.....أوى إلى حرم الله الحمام أَوَالفَ
فأخرج الله من تحت يدها عباقرة كانوا على دين الله أُمناء حفظة: كمسروق وعَمرة، والقاسم وعروة.
مناقبٌ لا مرور الدهر يُخْلِقُها.....ولا يُخاف على محوٍ لها ماحِ
إنها الصديقة بنت الصديق، الكريمة بنت الكريم. قد عُوِّدت بسط الأكف صغيرة من والد لم تشهد الغبراء كسخائه بعد النبي محمد مهما تنافس في النَّدى الكرماءُ.
حتى غدى خلقا لها وسجية....تَرْقى بها الصديقة العصماءُ
فهذا النَّوْر من تلك الغّوَادِ.....وهذا المهر من ذاك الجوادِ
وأختها أسماء ذات النطاقين، لا تدخر شيئا لغد.
وخاتمة المسك ومسك الختام ودرة الدرر، زوجها خير البشر، أجود بالخير من الريح المرسلة.
كأن أيدِيَهم في الناس ما خُلقت.....إلا لبذل الأياد والعطياتِ
آثارهم تنبي عن الأخبارِ
وكذا الفروع تطول وهي شبيهةٌ.....بالأصل في ورق وفي أثمارِ
إن يكن للسخاء في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم السخاء

عائشة عند أكابر الصحابة والتابعين ما عائشة!
هي البدر يشرق للمستنير.....هي البحر يزخر للواردِ
لقد كانت محلَّ ثناء وتقدير أكابر صحابة رسول الله والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
عمر يزيد فيما فرض لها ألفين، ويقول: (إنها حبيبة رسول الله).
وعلي مع ما وقع بينهما يُثني عليها ويقول: (إنها خليلة رسول الله).
وعمار يقول لرجل نال منها: (اغرب مقبوحا! أتؤذي حبيبة رسول الله؟).
وأسيد بن حضير يقول لها: (جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك فيه مخرجا وجعل فيه للمسلمين بركة).
وكان مسروق إذا حدث عنها قال: (حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات).
والناس في خيرٍ وفي ضده.....هم شهداء الله في أرضه

عائشة وعثمان ما عائشة وعثمان!
نفوس أخصبت حبا وأدنت ....إلى الدنيا، جَنًا عذب المذاقِ
عرف عثمان لها فضلها ومكانتها وحاجة الناس لعلمها فاعتنى بها وبأخواتها، وكانت أعرفَ الناس بمنزلة عثمان، فانفردت برواية بعض ما ورد في مناقب عثمان، فهي راوية أنها رأت رسول الله يدعو لعثمان رافعًا يديه، وهي راوية قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة).
ولما سمعت من ينال منه غضبت غضبا شديدا، وقالت: (لقد زوجه رسول الله ابنتيه، وكان كاتبه، وما كان الله لينزل عبدا من نبيه بتلك المنزلة إلا وهو كريم عليه).
إن أنكَرَتْ غُلف البصائر قدره.....فالنور دَيْجُورٌ بِمُقلة أغلفَ

عائشة وفاطمة ما عائشة وفاطمة!
رابطة متينة، وصلة قوية، على أكمل ما ترضاه السَّجيَّة البشرية.
لقد جمع الإيمان بين قلوبهم.....كما جُمعت في الراحَتَيْن الأصابعُ
لقد كانتا شريكتين في قلب واحد، هو قلب سيد ولد ابن آدم أجمعين، لكنها شركة بين كريمتين.
لن يبلغ المدح في تَقْريض مجدهما.....مداه حتى كأن المادح الهادي
والله يعلم والأصحاب أن لهما.....عند الفَخَار لسان غيرُ لجْلاجِ
هذه عائشة رضي الله عنها تقول: (ما رأيت أحدا أحسن من فاطمة غير أبيها).
وسئلت: (من أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟: قالت فاطمة).
وقالت: (ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة).
وهي التي قالت: (أقبلت فاطمة تمشي، ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وأجلسها عن يمينه).
وهي راوية حديث فضل أهل البيت، الذي يُعتبر من أعظم مناقب فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. يوم أدخلهم رسول الله في مُرطه المرحل ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وهي راوية حديث المُسَارَّة: (يافاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة). هذا يجري في أواخر حياة فاطمة، مما يدل على علاقة وطيدة عظيمة بعائشة، وحال عائشة:
إن المودة في قُرْباكمُ لغنًى.....لا يستميل فؤادي عنه تمويلُ
وإني وإياكِ كعين وأختها.....وإني وإياك ككفٍّ ومِعصمِ
وحال فاطمة:
لأنت من دون هذا الخلق كلِّهمُ......أحق فينا وأولى بالموالات

عائشة وعلي ما عائشة وعلي!
رابطة شمَّاء، (أصلها ثابت وفرعها في السماء)، إنها علاقة الابن بأمه، فهو أعرف الناس بمنزلتها عند رسول الله، وقد قال على المنبر: (أشهد بالله إنها لزوجة رسول الله في الدنيا والآخرة).
وعرفت له فضله ومكانته من رسول الله، وقَرابته ومصاهرته وسابقته.
وهي راوية حديث المِرط الذي هو من أعظم مناقبه.
ولما سئلت عنه قالت: (ما رأيت رجلا كان أحب لرسول الله منه، ولا امرأة كانت أحب إلى رسول من امرأته).
تُحِيلُ إليه بعض المسائل وتقول: (إنه أعلم بها مني).
وكانت تنصح ببيعته، جاءها الأحنف بعد مقتل عثمان رضي الله عنها فقال: (بمن تأمريني. قالت: بعلي).
فهو بتبجيلٍ وتعظيم حَرِي....من رامه بالذمِّ فهو المفتري
أما مسيرها إليه فما كان بقصد القتال، بل للإصلاح بين الناس، والأمر بالإصلاح مخاطب به الذكر والأنثى وجميع الناس: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس). ولذا قال الزبير لها لما أرادت الرجوع: (عسى الله أن يصلح بك بين الناس). ولم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع الإصلاح، إذ قام السبئيون الثائرون لما رأوا أن الصلح ليس في صالحهم وأن الدائرة تدور عليهم بإنشاب الحرب سرًّا، إذ غدوا في الغَلَسِ فوضعوا السلاح في الفريقين. حاول علي وعائشة تهدئة ما حدث ولكن الأمر أفلت من أيديهم. خرجت عائشة لميدان القتال لإيقافه، فحدث خلاف ما أرادت، إذ حاول السبئية رميها فاستبسل حول الجمل أصحابها، وحمي القتال عندها وحدث ما حدث، وكان قدَرًا مقدورًا. ولقد ندمت على مسيرها ندامة كلية، على أنها ما فعلت ذالك إلا قاصدة للخير متأولة، فكانت إذا قرأت: (وقرن في بيوتكن) بكت حتى تبلّ دموعها خمارَها، وندم علي فقال لابنه الحسن: (ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة)، وكان يقول: (اللهم ليس هذا أردت). وبعد ما حدث، جاء إليها فسلَّم عليها، ولعله ذكر ما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند وحسنه ابن حجر: (إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. فقال: أنا؟ قال: نعم. قال: فأنا أشقاهم يارسول الله! قال: لا، ولكن إذا كان ذاك فارددها إلى مأمنها) وقد فعل رضي الله عنه، فجهزها بكل شيئ ينبغي لها، وأخرج أربعين من نساء البصرة معها، وقال لأخيها محمد: (تجهز فبلغها)، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاء حتى وقف لها وودعها، وعادت إلى المدينة بَرَّةً تقية مجتهدة مثابة فيما تأولت، مأجورة فيما فعلت كما قال ابن العربي رضي الله عنها وعن علي.
وقد ندم عامة السابقين على ما كان من قتال وقع بغير اختيارهم، ومع ذا فالله قد أوجب لهم الرضوان والجنة، ولقد عفا عنهم وهو يعلم ما سيكون منهم.
فالله يرضى عنهمُ وعنا....تفضُّلا وكَرما ومنًّا

أم العفاف والحجاب ما أم العفاف!
تغيب الشمس مهما قد تعالت.....وليس لشمس عِفتها أُفول
الحجاب عندها كالصلاة، (ويدنين) و(فاسألوهن) تحدوها من كتاب الله، حالها وقالُها: (سمعا وطاعة لله).
قد كان لي حيث لا جفْنٌ لناظره......حفظًا وصونا ولا تَحمي الظُّبى القرُبُ
لما سمعت صوت صفوان وهو يسترجع كما في الصحيح، خمرت وجهها بجلبابها.
وإذا حاذت الركبان وهي محرمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سدلت جلبابها على وجهها.
وكانت تطوف بالبيت كما في الصحيح حَجرةً من الرجال لا تخالطهم.
ولما قالت مولاة لها: (قد طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا. قالت: لا آجرك الله! تدافعين الرجال، ألا كبرتِ ومررتِ).
تمد عفافها شرقا وغربا....وتبسطه شمالا أو جنوبا
ومن دقائق ورعها في هذا الباب، ما أخرج الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين، قالت: (كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله وأبو بكر واضعة ثوبي، وأقول إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر والله ما دخلت إلا وثيابي مشدودة علي حياءً من عمر).
كَلِمٌ يعذب في سمعٍ وفم......أحلى من الماذيِّ في الشاربِ
فما شَغِفٌ بآيات المثاني.....كمفتون برنات المثاني
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

رحيل أم المؤمنين
ألا لا خالدٌ فوق الترابِ
وأرواح الورى هدف لموتٍ.....يسدد نحوها حَشْوَ الجِعابِ
فما يَثْنيه عن بطل سِلاحٌ....ولا يثنيه خَلْخالُ الكِعابِ
ولا من عيشهم إِقِطُ وسمنٌ.....ولا من قوتهم مَكْنُ الظِّبابِ
ووعد الله ينجزُه وخيرٌ....لأرباب التقى حسن المئاب
في رمضان سنة وخمسين أو ثمان، وقد بلغت من العمر بضعا وستين، مرضت أم المؤمنين، وكانت إذا سئلت عن حالها قالت: (صالحة والحمد لله رب العالمين).
ولما اشتد عليها المرض استأذن عليها ابن عباس، فأذنت له بعد مُداولة، فدخل وسلم وقال: (كيف أنت يا أماه؟ قالت: بخير إن اتقيته. قال: فأنت بخير إن شاء الله). ثم قال ما مظمونه: (أبشري أم المؤمنين، تقدمين على فَرَطِ صدقٍ على رسول الله وعلى أبي بكر). وشرع في ذكر فضائلها: (كنتِ أحب أزواج رسول الله إليه ولم يكن يحب إلا طيبا، وكنت وكنت وكنت والله إنك لمُباركة. فقالت متناسية كل فضائلها: دعني من هذا يابن عباس! فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نَسيًا منسيّا).
وفي الليلة السابعة عشر من رمضان بعد الوتر، أفلت خير شمعة أنذاك من شموع المدينة، وعمَّ الحزن كل بيتٍ في المدينة.
لا تسألوا كم مُقلة.......غَرقت وكم دمع أريق؟
سمعت أم سلمة الصارخ، فسألت فقيل: (عائشة قضت)، فبكت وقالت: (يرحمها الله، والذي نفسي بيده، لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أباها). حالها:
قلبي لفقد التي عمَّت مصيبتها....يُكْوى ويُشْوى بحر الجمر والنارِ
لهف قلبٍ بات لا يرجو لقاءك.....إلا أن يرى الطيْفَ منامه
فادخلي في سلف قمتِ على.....هديه الحق وأحسنت القيامَ
ولم تكد تُرى ليلة كانت أكثر أناسا من تلك الليلة.
لا تمسك الدمع من حزن عيونهمُ.....إلا كما يُمسك الماءَ الغرابيلُ
صلى عليها أبو هريرة، وفي البقيع كما أوصت مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسَّدوها.
وأوفدوها على مولًى تواجهها .....منه الكرامة والرضوان والجودُ
واشتد وجْد المسلمين عليها، وعظُمت المصيبة بموتها، وحزن عليها من كانت أمه رضي الله عنها.
والشمس لا يَقْدُر الرائي فضيلتها......إلا إذا غشيت أنوارها السود
قال مسروق رحمه الله: (والله لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين).
ولا لوم في سفْحِ الفتى دمع عينه......إذا أصبحت أحبابُه في الصفائحِ
فحب الأم شِنْشِنتي ودابي:
جزاها الله عنا كل خيرٍ.....وأولاها الجزيل من الثواب
وأسكنها بفردوس الجنانِ.....على سررٍ ومبثوث الزرابي
وأدخلنا برفقتها جِنانا.....وسكَّن روعنا يوم الحسابِ
هذه أمنا عائشة أم المؤمنين، يا معشر المؤمنين.
شهد الله على عفتها، وعلى الطهر وحسن الخلقِ، من أحبها كان حرِيًّا أن يكون حبيبا إلى الله ورسوله، ومن رماها وأبغضها كان حريا أن يكون بغيضا إلى الله ورسوله.
منارة شمَّا، وسيرة مُثلى.
مناقبها عُظمى تلوح لمبصرٍ.....كنار القِرى تعلو رؤوس المعالِمِ
وتُسمِع من ألقى إلى الحق سمعه.....ولكنه لا سمع للمتصاممِ
كل الفصاحة عِيٌّ في مناقبها....إذا تفكرتُ والتكثير تقليلُ
في طهرها، في دينها، في عقلها.....في فقهها تتحير الأفكارُ
كيف الثناء وكيف لي ببلوغه....وكتاب رب العرش فيه ثناءُ
قد زُكِّيت أم العفاف بآيه.....أيكون بعدُ لغيره إصغاءُ
لكنه حق أردت قضاءه.....لأبَرِّ أمٍّ والحقوق قضاءُ
أحببتها حب عيني أختها.....ويدي يدي ولِي في مزيدٍ منهما أرَبُ
فحبي لابنة الصديق دينٌ.....وحب الغير رأي بنات غيري
فلا ذات الخلاخل تَيَّمتني.....ولا جاراتها أمُّ الربابِ
فيارب ياذا الجود والمن والعطا.....بيض بذا وجهي ووجه أحبتي
إذا مُيِّزت بيض الوجوه وسودها.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
إن الحقيقة وضحٌ منهاجُها.....ليس الجبال بممكنٍ إزعاجُها
عائشة أمنا أم المؤمنين، شمس في كل بيت، ذِكْرٌ حسن هلى كل لسان، مِلْئُ السمع والبصر، لا يغيب فضلها عن سمْع، ومُفردها جَمْع.
وليس لها في كل شرقٍ ومغربٍ....نظيرٌ بنو العليا على ذاك مُطبقة
لن يضيرها إرجاف المرجفين، وقد برأها الله وزكاها في كتابه المبين، وأوباش حمقى من يشْغبون، ويظنون أنهم لنور الشمس يحجبون.
في سورة النور، نور وبرهان، وبلاء وفرقان، وفضح لذي البهتان.
من كان من حمار أهله أضل.....وهو أحط منه عقلا وأقل
فكلما نيل من أم المؤمنين، علم الناس من فضلها ما كانوا يجهلون، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
ما غض منها الحاقدون بقولهم.....هل غَضَّ من بحرٍ نقِيقُ ضفادعِ
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
ما السُّهى مثل الشموس وما.....كلُّ ماءٍ مثل صداءِ
ما أحب عائشة إلا مؤمن، وما أبغضها إلا منافق.
هل يَصْدقُ في محبة رسول الله من يُبغض أحب النساء إليه، ويسبها ويلعنها ويرميها بما الله منه برأها؟ هل يصدق في محبة فاطمة وآل البيت، من يلعن خليلة رسول الله ويحتفل بوفاتها؟ وهي التي لم يزل رسول الله يلتمس يومها حتى مات على صدرها ودُفن في بيتها.
كذبوا لعَمرُ الله فيما يدَّعون.....وقد فازوا بكل خنًا وعار
فهم العدو المُستبد المجرمُ...وجموعهم سبئية تتعلقمُ
يتذبْذبون عمالةً ونذالةً....فلكم حَمَوا ظهر العدوِّ وأبرموا
الدين زور والمحارم متعةٌ.....والقوم غُدْرٌ والمعممُ أرقَمُ
أولئك هم والله دون البهائمِ.....صِغار النُّهى لكن كبارُ العمائمِ
يُغَطُّون مَيْنًا بالعمائم لُؤمهم......وكيف يُغَطِّي اللؤمَ لَيُّ العمائمِ
(قاتلهم الله أنى يوفكون).
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
أمنا طُهر شنشدوا نغمه، هي نبْراسٌ من الشمس فهل يحجب الشمس ضباب العَتَمة.
أم المؤمنين لا تحتاج لدفاع أحد بعدما دافع عنها رب العالمين، ولن يضيرها إفك المرجفين والحاقدين، وقد أحبها خير خلق الله أجمعين، وليست أولَ من رمي من الصالحين، فقد رُمي قبلها أولياء ومتقون. قيل عن يوسف: (ما جزاء من اراد بأهلك سوءًا الا أن يسجن أو عذاب اليم)، وعن مريم: (لقد جئت شيئًا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا). وبرأهم الله جميعًا، برَّء يوسف على لسان صبي، ومريم على لسان ابنها عيسى النبي، وهو صبي، ولما رُميت عائشة ما رضي الله لها ببراءة صبي ولا نبي، حتى برأها بكلامه الخالد في القرآن العظيم.
منزلة ما بعدها منزلة، أشهى إلى القلب من العافية.
ياأبناء الصديقة:
لن تكون الأذناب يوما رؤوسا، (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يالونكم خبالا).
المنافقون هم العدو، يولدون أذْنابًا، وضربٌ من العبث والخيانة جعْلهم رؤوسًا.
لا تقل قد بُدِّلت أحوالهم..... من رأى الحيات قد صارت حَمامًا
وجهادهم كما قال ابن القيم أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواصِّ الأمة وورثة الأنبياء، والقائمون به والمعينون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا، فهم الأعلون قدرًا.
المنافقون لئام وأنذال، ولا يُكرن اللئام ولا يُدارى الأنذال، ومن يداريهم فذا في خبال، وطامعٌ في ما غدا كالمحال.
طمعت في كلبٍ فداريْتَه....والكلب من يطمع في كلبِ
إذا فسدت يدٌ قُطعت......ليسلم سائر البدنِ
وإن كويت فأنضج غيْر مُتَّئِدٍ.....لا نفع للكيِّ إلا بعد إنضاجِ
يا أبناء الصديقة الشماء:
إذا تُركت ثَعالِ الشرِّ تعثوا......كما شاءت وكان لها قرارُ
فلن تجري الرياح بما اشتهينا.....ولن يجري بأمتنا قطارُ
بلادي جنةٌ لا حظَّ فيها......لمن عَقُّوا أمومتها وحاروا
يا ابنت خديجة وفاطمة وأسماء وعائشة:
في زمانٍ قيل للأنثى اكسري.....كل قيد وعليه التهبي
في زمان قيل للأنثى اخرجي!
لم يعد يعنيك من قرن.....ومن لا تبرجن حزام الأدبِ
أسمعيني يا بنية:
أسْمِعــيني يا أُخــيــــَّة ......صرخـةَ النفــس الأبيـِّهْ
أسمِعــيني مـنكِ لا لن.....أرتضي عيــش الدَّنيَّــهْ
لؤلؤ القــاع أنا لســــــ.....ـتُ على الشــطِّ رمـيّـهْ
ما شجاني ناعــقٌ لـم..... يُبقِ للطهْــر بقيـــّــــــهْ
يقتلُ الطهـْرَ جِهــــاراً.....ويرى الســتر قضــيـّهْ
أسْمعيني لسـتُ أرضـى......العيشَ عـيشَ الهمجـيَّهْ
لا أبالي بالدَّعــــاوى..... والأباطــــيل الدعـــيّـــهْ
شرفُ العرض حــمــاه......الشـرعُ أن يرمـى بنيــَّهْ
صـانه المُخــتارُ يوماً......حسبكم هـذي صفــيَّهْ
أنا أعلى أنا أتقى.....لست بالدين غبيـــــة
أنا بالإيمان شما.....بدمي نار الحميـــــة
قدم تدعس أزهار النَّقى....في رُبانا كُسرت من قدمي
أي أبناء معلمة الرجال:
مفتاحُ العلم السؤال.
إن جهلت الصواب فاسأل عليمًا.....لبى من لا يزل يقفو اللبيب
يا أبناء منارة السخاء:
طوبى لمن جارت الأمور الصالحات على يديه،كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهله في الآخرة.
لا تزْهدنْ في اصطناع العرف من أحدٍ.....إن امرءا يُحرم المعروف محرومُ
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
جميعا ولا تفرقوا.
إن القِداح إذا جُمعن فرامها......بالكسر ذو حنقٍ وبطش أيِّدِ
عزّتْ فلم تُكسر وإن هي.....بُددت فالوهن والتكسير للمُتَبَدِّدِ
جمع كلمة المسلمين واجب يسعى له كل غيور على الدين، لكن على الحق لا على الباطل يكون اجتماع المسلمين، وعندها:
فدار كل مسلمٍ دارُنا.....من مغرب الأرض إلى المشرقِ
وإنما فارانُ من مقدسٍ.....وإنما صنعاء من جِلَّقِ
وإنما السودان من مصرنا.....وإنما درعا من المَندقِ
وإنما بنغاز من تونس.....وإنما بنياسُ من طُبرقِ
رغم العدا لم نزل في ارتقا.....ودرعنا المنسوج لم يَخْلقِ
أما من يقع في أمنا، فما نحن منه وما هو منا. والاجتماع معه مرهون، باجتماع الظبِّ والنون.
وعلى ذا ما نلتقي قط حتى......يتلاق المضاف والتنوينُ
فأفيقي أمتي ثم اذكري......صورة ابن العلقمي الأشرِ
واذكري بغداد كيف احترقت....حين كانت هجمات التتري
واسألي بغداد يوم احترقت.....من ظهير هجمات ابريمري
والشام والبحرين شاهدة.....والعين قد أغنت عن الخبرِ
قَصص الواقع تعطينا دليلا....أنهم للغدر يُلقون الأَزِمَّة
لا يراعون لنا إلا وذمة، والنذير من كتاب الله: (فاحذرهم قاتلهم الله).
يا ابن الصديقة الشماء:
كم خَمْصَةٍ كان فيها العز آونةً.....وشَبْعَةٍ كان فيها العار والضَّرَعُ
فلا تصبو إلى رِيٍّ ذليلٍ.....إذا ما كان عِزٌّ في أُوَامِ
ليست الدنيا وما يُقسم من.....زهرها إلا سرابا أو جهاما
فازهد بذي الدنيا تكن سيدا....وملكا في وفي الآخرة
يا ابن أم العفاف:
اترك بعدك أثرًا، وذكرًا حسنا، إن السباق عليك اليوم قد وجبا.
كم من طويل العمر بعد وفاته.....بالذكر يُصحب حاضرًا أو بادِي
ما مات من جعل الزمانَ لسانُه....يتلو مناقب عُوَّدًا وبوادِ
وعُمْر الفتى وِعاءٌ....عزيز حين يملأه حُليًا
يا ابن الصديقة:
ذر الخمول ولُذْ بالعز معتصما.....بالله كي تتوقى جِيدك القدمُ
فالشِّيحُ يحطمه دوْس الثعالب إذْ.....لم يعلو هامًا وتنجو الظَّالُ والسَّلمُ
لإان قيل: ألم تسمع مقال الناصح المحكمِ.
الريح تحْطِمُ إن هبت عواصفها.....دَوْح الثمار وينجو الشِّيحُ والرَّتَمُ
فقل في عزة المسلم: تحطيم الريح، ولا دَوْسُ الثعالب
أخو الضَّيْم في الدنيا هو الميت فانعه.....وإن تره يغدو بها ويروح
إذا العذْل النمير حماه ضَيْمٌ.....فجاوزه إلى الملح الأجاج
يا ابن الصديقة:
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).
إذ ضغطت عليك يد البلايا.....بأرزاءٍ يطيش لها المنام
توجه للذي نجى ابن متى.....وقد واراه في الحوت التقامُ
أخيرًا إخوتي:
إنها نفحة عابرة، من سيرة أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وعن من ترضى عنها، وهي والله سيرة باقية خالدة، ستظل مَعْلَمًا يقبس منها أهل الإسلام، وشهابا محرقا لأهل الزيغ والزندقة والفساد.
فخذها وكن عارفا قدرها.....وأثني على الله كل الثنا
البدار البدار أخا الطهر البدار البدار، اهجر النوم في المسير إليها، واجعل الليل بالمسير نهارا، لتكون لك السعادة دارا.
ضاقت الوقفة، ولم تتم الصفقة، ونفذت البضاعة، وكثُرت الإضاعة، واستفرغت وُسعي، ولم أبلغ ما في نفسي. فألقيت عصا التِّسيار، فسيان الإطالة والاختصار، والاسترسال والاقتصار، "ولا تجد يد إلا بما تجد" مثل معروف؛ "وإن لم تكن إبلٌ فمِعزى لمثل هذا مصروف".
كواجد ماءٍ قاصر عن وَضوئه.....فجنَّب طهرًا ناقصا وتيمم
هذا مقام لا الفرزدق ماهر فيه ولا نُظراؤه كالبحتري.
لم تُبْقِ ذكرًا لذي نطقٍ مناقبها....وهل تُضيئ مع الشمس القناديل
دونك المثال الحي، لكل طهر وعفاف وفضيلة يا أُخَي.
اكرع من نميره وكوثره، واقبس من ضوء شمسه ونور قمره، واستروح رياحين نوْرِهِ وزَهره، وتعلَّلْ بسلافة خمره، والزم فناء قصره.
حُطَّ رحالك، واردد جمالك، ألقي العصا في روضه وارفض مسيرك وانتقالك، واحدو في ذالك.
"إن عشتُ عشتُ على هواه وإن أمت.....حبًّا له وصبابة يا حبذا"
ووداعًا ووداعًا وإلى....ملتقًى إن لم يحُلُ من حائل
يا رب:
أسكنا فسيح جنتك.....والنّار نجنا منها برحمتك
واغفر لنا ما كان من ذنوبنا....وزين الإيمان في قلوبنا
يا ناصر الحق في بدرٍ وفي أحد.....وفي حنين غداة الجيشُ قد لان
يا منجيًا نوح في الطوفان من غرقٍ.....يا صادق الوعد لما وعده حانَ
يا رب أيوب يا كشاف كربته......ورب ذي النون إذ ناداك ولهانا
يا جامعًا شمل يعقوب وكم ذرفت.....عيناه فابيضت العينان أحزانا
يا رب يوسف بعد السجن مكنه.....فنال مُلكًا وآباءً وإخوانًا
يا رب موسى وهارون وقد عبرا.....يا ملقمَ البحر فرعون وهامانَ
يا واهبا مريم عيسى بدون أبٍ.....لما اصطفيت قديمًا آل عمران
يسر لنا ربنا ما كان أعيانَ......والتكشف الضر والتصلح لنا شانًا
يا رب جبريل والأملاك قاطبة......يا رب كل تقي بالتقى ازدانَ
أمهلت بالشام حِلما منك ظالمها.....فازداد نُمرودها بغيًا وطغيانا
وليبيا لم تزل يا رب صارخةً.....من بطش طاغوتها جوْرًا وبهتانا
فاقسم بعزك يا جبار شِرذمةً....عاثت بإخواننا فتكًا وعدوانًا
فاقسم بعزك يا جبار شِرذمةً....عاثت بإخواننا فتكًا وعُدوانًا
وامنن على كل مكلوم ووالهةٍ...أم العفاف
رضي الله عنها

 

 


لفضيلة الشيخ:
علي بن عبد الخالق القرني حفظه الله

 

 

 

 

 

تفريغ: أبي الوليد المغربي
منتدى فرسان السنة::::خير الناس أنفعهم للناس
forsanelhaq.com

 


بسم الله الرحمن الرحيم
أم العفاف رضي الله عنها

الحمد لله، الحمد لله المنتصر لأوليائه، المنتقم من أعدائه، المتفرد بعظمته وكبريائه، المقدس بصفاته وأسمائه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، أحمده على ما أسبغ من نعمائه، وأسبل من عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ أنبيائه، وصفوة رسله وأُمنائه.
رفع الله ذكره فلا يُذكر إلا ذُكِر معه، وجعل شريعته ناسخة للشرائع فلو كان موسى حيًّا لاتبعه، بُعث للعالمين وكان النبي يبعث لقومه، صاحب الشفاعة العظمى حين يذهل كل أحد عن ولده ووالده وأمه، من خصه الله بالقرآن معجزة ما نالها مرسل قد جاء بالدينِ.
ذاك الذي اختاره الباري وأرسله.....برّا رؤوفا رحيما بالمساكينِ
صلى عليه الإله البر ما صدحت.....قُمرية فوق أغصان البساتينِ
عليه سلم رب العرش ما ضحكت....مباسم الزهر في ثغر الأفانينِ
وآله الغرِّ والأصحاب كلِّهمُ.....وتابعيهم ليوم الحشر والدينِ
ما عَطَّر الروض في الأسحار عَرْفَ صبا....وفاح نشْر خزامًا مع رياحينِ
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، أما بعد:
فيا أيتها الأنوف الحمية، والنفوس الأبية، يا قلادة النحر، وفريدةَ الدُّر، أتباعَ البشير، وعزةَ الأهل والعشير، وتاجَ الفخر الذي يقصُر عنه كسرى وأزدجير.
حياكم الرحمن خير تحية.
معطَّرةٍ حُفّت بمجد وسُؤددٍ....تسير بها الركبان في كل فدفدِ
فعالة بالود في أهلها.....ما تفعل القهوة بالشاربِ
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلاما مثل عَرف المسك طيبًا....وحُسْنا مثل أزهار الرياض
يهتز من طرب كأن حَنينه....رعد وأحْرُفَه السحاب الماطرُ
حياكم الله وأحياكم، وشرفكم بالدين وتولاكم، وحفظكم وسددكم ورعاكم، يسركم لليسرى، ونفعكم بالذكرى، وكتب لكم السعادة، وبلَّغكم الحسنى وزيادة؛ دمتمُ في خير حالِ، ما سرى في الجسم روح، وجلَى الإصباح غَيْهَبْ.
معشر الإخوة:
من المعلوم بجلاء، أن صحابة رسول الله نجوم الغبراء، كما أن الكواكب نجوم السما، رسم معالم مكانتهم ودافع عنهم كتاب الله، وشهد على عدالتهم رسول الله. (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم)، ما انقطع الوحي حتى تاب الله عليهم وأكرمهم، وشاع في الخافقين ذكرهم والثنا عليهم، فليس لأحد أن يغمزهم بعد قول الله: (ثم تاب عليهم)، وليس لأحد أن يتقصدهم بسوء بعد أن أكد رسول الله فضلهم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم)، ونهى عن سبهم وأذيتهم، (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم).
زكاهم الله والمعصوم أدبهم….أولئك القوم أطهار وأبرارُ
ما أرهفوا السمع إن غَنَّتْ مغنية…..أو هزهم طربًا عود ومزمارُ
يرجون جنات عدن والخلود بها….جناتِ عدن بها حور وأنهارُ
لا يركنون إلى الدنيا وزُخْرفها….ماهَمُّهُمْ درهم فيها ودينارُ
رضوان ربي عليهم دائما أبدًا….ما غردت في غصون الأيْكِ أطيارُ
ومن الصحابة الأطهار يا معشر الأخيار، الطاهرات المطهرات أزواج المختار، إختارهن الله لخليله مبرآت، وجعلهن للمؤمنين أمهات، (النبي أولى بالمومنين من انفسهم. وأزواجه أمهاتهم) آيات بينات، وحكم وهو خير الحاكمين، (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات)، تُليت في بيوتهن آيات الله كثيرًا، وبنص القرآن أذهب الله عنهن الرجز وطهرهن تطهيرًا.
تسمو إلى الرتب العُليا منازلهم…..فما ترى وسطا فيها ولا دونا
من قاس ذا شرف بهم فكأنما….وزن الجبال الشمَّ بالأشباحِ
ولقاؤنا الليلة معشر الإخوة، مع زهرة من تلك الرياض، وقطرة من تلك الحياض، نكرعها زلالا، ونديرها حلالا، عنوانها:
أم العفاف
إنها همسات دافئات تُلامس الشِّغاف، ودوحة ظِلالُها المُتفَيَّئُ العفاف، لا يماري فيها سوى الأجلاف أو صرعى السُّلاف.
لم أخترع فيه البديع وإنما….من بحرها الفياضِ هذا اللؤلؤُ
ذي روضة فانشق شذا نفحاتِها…..والقُطْ نفيس الدُّرِّ من زهراتها
وسل لنا اللهَ القبول والهدى….والعفو والصفح عن الذنب غدا
وأن يُقيل العثرات والزلل….وأن نكون مخلصين في العمل
أم العفاف.
من أم العفاف؟
إنها أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن من ترضى عنها.
ما الند نِدُّها ولا والورد مثلُها، فقد سار بين الورى ذكرها، فطاب برياه نشر الصبا، فأهدى السرور إلى خاطري وجدد عنديَ عهد الصبا.
والحديث معشر الإخوة عن أمنا عائشة رضي الله عنها من باب توضيح الواضح، وتبيين الجليّ.
فالشمس لا تخفى مَزِية ضوئها….إلا على ذي المُقْلَةِ العمياءِ
وإذا استطال الشيئ قام بنفسه….وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاَ
لكن!
مذ رأيت من ضئضئ ابن أُبَي عشرات الأذناب واللقطاء، وسمعت خِدْن الخنا والبِغاء، نائلاً من مقام خير النساءِ، شامخ الأنف أن غدا ذيلَ كلبٍ وعدوًّا لله والأنبياء، عندها قلت:
أي حليف الخَنَا ويا ابن الدَّنايَا كلْبُ….ما ضرَّ أن نبحتَ النجومَ
ومضيت أسعى جاهدًا في حصر ما حضيت به الصديقة العصماء، من مكروماتٍ أو مناقب فذة، شهدت بها آثارنا الغراء، ولم آبه لإفك الشَّعْبَذِ، فلسانه ما عُوِّدت غير البذي، ولم يزعج زئير الأُسْد قلبي، أيزعجه من البَقِّ الطَّنينُ.
وهل يَخشى عُقابُ الجو ضُرًّا…..إذا نبح الضعاف من الكلابِ
وأقول في نفسي وإن هم عابوا:
فالنسر يخفِق في الفضاء جناحُه….ويجوس في الأرض الخراب كلابُ
ولو كلما كلب عوى مِلت نحوه…..أجاوبه إن الكلاب كثيرُ
ولكن مبالاتي بمن صاح أو عوى قليل….لأني بالكلاب بصيرُ
ولكني خشيت بأن يقال:
ولم نسمع لكم في ذا مقالا….عقوق ذا، معاذ الله لا لا
ألا فليأخذِ الأعمه، وإن لم يفهم الأبله، سوف أصليه نار حرف تلظى، تسفع اللحم والحشى والأديمَ، وألقاه بلطم يهتك الأبصار والسمع، فإن لم يفهم المعنى سريعًا فهم الصفعَ.
ومن تباهى بأنه وتد، فليحتمل دقّض كلِّ مِرْزَبَّة.
ليس يبقى مع السيول الغثاء.....وبعرض العفاف يمحى الهراء
أمنا الشمس ما عليها غطاءُ....أمع الشمس للظلام بقاءُ؟
تالله ما الأمر إلا كما قال القائل:
ما كلام الأنام في الشمس إلا.......أنها الشمس ليس فيها كلامُ
فالله طهرها وأعلى قدرها.....عن نَبْزِ كل بَلَنْدَمِ عيَّابِ
وما طُهرها بالبِدْع لكن مورَّثُ.....أبَى منبت العيدان أن يتغيرَ
إن يكن للعفاف في الناس أمٌّ....فهي رغم الأوباش أم العفافِ
أم العفاف! ما أم العفاف!
قف بنا يا حاديَ الركب مليا....فالصبا أهدت لنا أطيب ريّا
عائشة ما عائشة.
من شاء يعرف قدرها وكمالها، فليتلو وحي الله فيها والسير، فضائل لا تخفى، ومحاسن لا تبلى، ومناقب تُستجلى وتستحلى، إنها أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق (ثاني اثنين إذ هما في الغار)، سيرةٌ مِعْطار، عزٌّ وفخار، يكبو اللسان واليراع في سيرتها ويمسُّه الإعيا.
إنها زوج خاتم الأنبياء، ومدرسة الرجال والنساء، الموفقة أم عبد الله، أحب النساء إلى رسول الله، وابنة أحب الرجال إليه. في الصحيحين: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) طاولت الثريا، وجازت الجوزا.
تمتد كف الثُّريَّا دون سؤددها....فلا تنال الذي نالت أياديها
عائشة ما عائشة! تلميذة مدرسة الصدق والإيمان، من أسرة كريمة مباركة عريقة أبواها مهاجران. يُثْني عليها عدوها فيقول حاسدها صدق؛ أبوها صحابي، وأبو صحابي، وجد صحابي، وابن صحابي، وابن صحابية، وزوج صحابية، لم تبلغ أسرة مسلمة ما بلغته أسرة أبي بكر في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.
بيت بوحي الله كان بناؤه.....نِعْم البنا والمبتنى والبانِي
أبوها أول من أسلم، ودعا أهل بيته فدخلوا واحة الإيمان، ولحقهم عبد الرحمن بعد زمان؛ سبابة التوحيد في راياتهم، أنشودة الإيمان في أفواههم، والعزة القَعْساء تاج بالجبين.
تولاها بالتربية في الطفولة شيخ المسلمين، ورعاها في شبابها سيد ولد آدم أجميعن عليه صلوات وسلام رب العالمين.
لها شرف من الأصلين تلْدٌ....وآخر منه مُكتسبٌ جديدُ
مولودة في بيت لم يقرع سمعَها فيه صوت الشرك والمشركين، وقد أعلنت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).
هي خير من رب السماء اختارها.....أمًّا ولم يولد لها أبناءُ
أم ولم يوصف بمثل حنانها.....أمٌّ ولم يُعرفْ لها نُدَداءُ
من أبغضها ورماها لم تكن له أمّا، بل أمه هاوية، وأنفه في حمأة راغمة، وذاك كلب من كلابٍ عاوية، ملعون في الدنيا والآخرة.
إن يكن للعفاف في الناس أمّ......فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة وخير الأزواج. ما عائشة!
فداءٌ لها كلُّ وجه عبوسٍ إذا.......ما أتتها الوجوه الوِضا
معلوم أن خديجة أول أزواج خير البرية أجمعين، أسعدها الله بالصادق الأمين، فكانت خير معين له مذ تزوجها وهو في الخامسة والعشرين، ووزيرة صدق مذْ نزل الوحي عليه وهو في الأربعين، إلى أن لقيت رب العالمين، ولما لقيت ربها لم يكد يُعلم أنه حزن على أحد قط أشدَّ من حزنه عليها، ولا أطال الذكرى لأحد بعد وفاته كما أطال ذكرها.
فما للقلب قلب عن هواها
واقترن ذالك بموت عمه الذي كفِله صغيرًا، وحدب عليه كبيرًا.
لو أصاب الجبال بعض الذي........عاناه من فقدهم لهدَّ الجبال.
وشق على أصحابه ما يرون من عظيم أحزانه، فعرضوا عليه من تصلح له ومنهن عائشة. وكان زواجه منها بإحاء من الله، في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (أريتُكِ في المنام ثلاثَ ليال، جاء الملك بك في سرقة من حرير، يقول هذه امرأتك. فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي. فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه)، وعند الترمذي: أن جبريل جاء بصورتها في حريرة خضراء وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه زوجك في الدنيا والآخرة).
جاء الأمين إلى الأمين مبشِّرًا.....وبراحتيْه حريرة خضراءُ
رُسمت عليها صورة لـمليحة.....ما في المِلاح كمثلها حسناءُ
سأل الحبيب المصطفى جبريل من هذهِ.....فقال خريدة حوراءُ
لك في الحياة وفي الجنان حليلة.....قد شاءها من لا سواه يشاء
ولما أراد الله أن يُمضي ما رآه رسوله، ذهبت إليه خَولة امرأة عثمان بن مظعون واقترحت عليه الخِطبة، حالها والمقال:
(لم لا تتزوج من تكون لك عن خديجة عِوضا؟ إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا). فسأل عن البِكر، فقالت: (أحق خلق الله بك عائشة بنت أبي بكر)، قال: (فاذهبي فاذكريها عليّ). ذهبت خولة لدار أبي بكر وقالت: (يا أم رومان! ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، أرسلني رسول الله أخطب له عائشة)، قالت أم رومان: (انتظري حتى يأتي أبو بكر)، وجاء أبو بكر رضي الله عنه فأخبرته، فقال: (وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه)، فقال رسول الله لخولة: (هو أخي وابنته تصلح لي). رجعت فأخبرت أبا بكر فقال: (انتظري) ومضى. وحال خولة: "أفي تزويج رسول الله انتظار؟"، فقالت أم رومان تجلو الموقف لخولةَ زوجِ عثمان: (إن المُطعم قد ذكر عائشة على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قطُّ فأخلفه).
ووالله إما أن تكون خِلالُه من السحر.......أو فالسحر خامَرَ مسمعي
ذهب أبو بكر إلى المطعم، وقال: (ما تقول في أمر هذه الجارية؟)، قال: (لعلنا إن أنكحنا إليك هذا الفتى تدخله في الدين الذي أنت عليه). فوقعت تلك الكلمات على قلبه وقوع الرحمة على أيوب، وقميص يوسف على عين يعقوب، تحرر بها من وعده وحاله:
مالت لها أذني من بعد جفوتها....وكم حديث تمنت عنده الصَّممَ
وعاد من فوره إلى خولة، لتخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عَقد له على عائشة وهي بنت ست سنين، وأمضى الله أمره بكون عائشة للحبيب، وسعد الصديق بهذا النسب الذي زاده طيبا إلى طيب.
حُيِّيت حيِّيت من حيٍّ ومن نادِ.....وحبذا حبذا واديك من وادِ
ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة، ولما استقر بالمدينة بعثوا من جاء بأهلهم، فنزلت عائشة رضي الله عنها في حي بني الحارث مع أهلها.
كأنما يوسفٌ في كل راحلةٍ.....والحي في كل بيت منه يعقوبُ
كانت المدينة يومئذ أرضا وبِئَة، فتأثر المهاجرون بمناخها، وحنوا لمكة وشعابها، وأصابتهم الحمى بأوْصابها، وكان فيمن حمَّ أبو بكر رضي الله عنه، فكانت تأتيه عائشة فتقول: (يا أبي كيف تجدك؟)، فيقول وقد أخذه نافض الحمى:
كل امرئ مُصبَّحٌ في أهله.....والموت أدنى من شِراك نعله
وتأثرت عائشة رضي الله عنها كذالك فمرضت شهرًا، ضعُف جسدها، وتَمَرَّق وتساقط شعرها حتى صار لا يجاوز أذُنيْها، وخيف على سلامتها؛ فكان يدخل أبو بكر عليها كل يوم يعودها ويُقَبلها ويقول: (كيف أنت اليوم يا بنيتي؟)؛ ثم شفاها الله وأخذت أمها تُعنى بها وللزواج تهيئها ليبني بها رسول الله وهي بنت تسع سنين في شوال.
فكان انتقالها لبيت النبوة أعظم حدث في حياتها، أحبت من أجله شهر شوال.
تحبه حب الشحيح ماله......قد كان ذاق الفقر ثم ناله
فكانت تقول: (تزوجني رسول الله في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني)، لقد ظل يوم بنائه بها ماثلا في ذهنها، تقول في وصفه رضي الله عنها: (فأتتني أمي وأنا ألعب مع صواحبي على أُرْجوحة لي فصرخت بي، فأتيتها وأنا أنهج؛ فأخذتني بيدي وعلى الباب أوقفتني حتى ذهب نَفَسي، ومسحت بشيئ من الماء وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار يقلن على الخير والبركة وعل خير طائر).
يلوح في الدار سنا وجهها.....كالبدر أو كالذهب الذائبِ
قالت: (فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا ورسول الله ضحى، فأسلمنني إليه)، وحال الطاهرة:
يا لحظة ستظل في قلبي شعار العافية.....وتُذيب كل أسًى وتغمض كل عين جافية
أما الوليمة معشر الإخوة:
فما نُحرت جزور ولا ذبحت شاة، إنما هي جفنة من سعد بن عبادة، وشيئ من لبن.
هذه أسماء بنت يزيد، تحكي لنا ما رأت من قِرًى قُدم في حفل زفاف عائشة، تقول: (وقد كنت في من جهزها وزفها، ووالله ما وجدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قَدحًا من لبن، شرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية وخفضت رأسها، فانتهرتها وقلتُ لها خذي من يد رسول الله! لفأخذته على حياء وشربت منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولي صواحبك. فقلن لا نشتهيه. فقال: لا تجمعن جوعا وكذبا).
عليه صلاة من الله ما.....بدا النجم في أفقه أو خفا
وكانت رضي الله عنها تفخر بأنها البكر الوحيد بين سائر أزواجه، وتُدل بذالك، في الصحيح أنها قالت يوما: (يا رسول الله! أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أُكل منها، ووجدت شجرة لم يُؤكل منها، في أيها كنت تُرتع بعيرك؟) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (في التي لم يؤكل منها)، قالت: (فأنا هي)، تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.
فهي الفخورة دون كل نسائه.....لو يفْتخِرن بأنها العذراءُ
وخُصت بحبٍّ ليس يوجد مثله...... وذالك فضل الله يؤتيه من يشاء
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة وعبقرية الطفولة ما عائشة!
لها هِممٌ جمعن لها المعالي....كجمع الكف مجموع البنانِ
تلك التي لم تزل في كل نازلة....تسير خلف العُلى بالماء والزادِ
إنها عبقرية بدت معالمها من نعومة الأظفار، وتجلت في كل ما يصدر عنها من أحوال وحركات وأفعال.
والصبح أبلج لا تخفى دلائله.
ومع هذه العبقرية وعلو الدرجة، فإن الطفل هو الطفل في فطرته، يحب اللعب ولا يكاد يسلو عنه، وعائشة كانت تحب اللعب كثيرًا، وأكثر ما تحب من اللُّعب البنات والأراجيح، وقد نُقلت كما مر من فوق الأرجوحة إلى بيت الزوجية، وكان جوار الحي يجتمعن عندها ليلعبن معها بعد الزواج؛ ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبقى لها ما كانت تألفه قبل الزواج من اللقا بصواحبها؛ ورغم صغر سنها لا يفوتها أن تراعي الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شؤونها، فقد تكون ملهوفة ومستغرقة في لعبها مع صواحبها ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم فجأة فتسرع في إخفاء لعبها وحالها:
بك شغلي واشتغالي.....لا بِدَعْدٍ ولا هندِ
وينقمع صواحبها ويخرجن من عندها حياء من نبي الهدى، فقد ألقى عليه الله منه المحبة والمهابة والجلال، ولشفقته ورحمته بها وبهن، يسربهن إليها ليلعبن معها مقدرا حداثة سنها.
لأنه في مقام العطف منفرد....وأنه منهل عذب لمن يردُ
وقد يشغلها اللهو مع صواحبها عن بعض ما يسند إليها رضي الله عنها وأرضاها، في المسند بسند قال الأرنؤوط فيه صحيح على شرط الشيخين، قالت رضي الله عنها: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم بأسير فلهوت عنه فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما فعل الأسير. قال: لهوت عنه مع النسوة فخرج؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكِ قطع الله يدك أو يديك). وخرج رسول الله فآذن الناس، فطلبوا الأسير وجاءوا به، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيت ثانية فوجدها تقلب يديها فقال: (مالكِ! أجننتِ؟) فقالت: (بل دعوت علي فأنا أنظر أيهما يُقطع)؛ وبلا عِتاب ولا ملامة، حمد الله وأثنى عليه، وسأل الله لمن دعا عليه بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له زكاة وطهورا؛ فأشرق وجهها سرورا وحالها:
لي من دعائك ما يغني عن الراح.......ونور وجهك في الظلماء مصباحي
وقد بقي معها حب له إلى وقت متأخر، ففي مَقْدمه صلى الله عليه وسلم من غزاة قيل إنها تبوك، هبت ريح فانكشفت ناحية السَّتر عن لُعبٍ لها، فقال: (ماهذا ياعائشة؟) قالت: (بناتي)، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رِقاع، قال: (وما هذا الذي بينها؟)، قالت: (فرس)، قال: (وما هذا الذي عليه؟)، قالت: (جناحان)،قال: (فرس له جناحان؟) فردت مرتجلة: (ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده. وأضاء ما بين ثنايه.
تراه إذا ما افْتَرَّ عنها كأنها.....حصى بَرَدٍ أو أُقْحوانٌ مُنوِّرُ
معشر الإخوة:
إن طبيعة الأطفال في الغالب واحدة، لا يُبالون بشيئ، ولا يَلفت نظرهم قضية، إلى سن السابعة؛ إلا أن عائشة اختلفت عنهم في هذا الشأن، فهي تحفظ كل ما حدث أيام الطفولة بَدقَّةٍ بالغة، تقرع الآية سمعها وهي تلعب فلا تنساها؛ تقول رضي الله عنها وأرضاها: (لقد أنزل الله على رسول الله بمكة وأنا جارية ألعب، "بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر")، ولما هاجر رسول الله إلى المدينة لم تكن جازت الثامنة، ومع ذا تفهم وتعي أسرار وقائع الهجرة النبوية والجزئيات المتعلقة بها، وترويها بالترتيب المسلسل الذي لا يدانيها فيه أحد.
ظنَّ الزمان بمثلها فيما وعَتْ.....ولكَم أشاد بفضلها العلماء
فلعل أليق ما يليق بوصفها.....هي حكمة فياضة وذكاءُ
إن يكن للذكاء في الناس أمٌّ.....فهي رغم الأنذال أم الذكاءِ

بيت عائشة ما بيت عائشة!
حُجرة قد مُلئت طُهرًا وفيـ......ـها نزل الآي مع الروح الأمين
لُقِّنت فيها حقوق أنقذت........ربَّة المنزل من أسر يشين
معشر الإخوة:
لقد عرف الناس يومئذ الفرش المزركشة من حرير وديباج، وعرفوا آنية الذهب والفضة إلى أن حُرمت تلك الآنية، وعرفوا الأبنية الأنيقة المزخرفة، والقباب المزينة، والآطام العالية، وبقي ذالك كلُّه وسيلة لا ترقى لأن تكون غاية في بيت عائشة، فلم يكن بيتها قصرًا عاليا، ولا بناء باذِخًا، إنه حجرة في شرقي المسجد متواضعة، قصيرة البناء، يُفتح بابها في المسجد فكأنه لها الفناء.
حجرة جدارها من طين، وسقفها من جريد، يناله الغلام بيده، باب تلك الحجرة مِصْراعٌ واحد من ساج أو عرعر، لم يُغلق في وجه أحد، وأثاثها: حصير وفراش ووسادة من أَدَم، وأُهُبٌ معلقة، وإداوة وقِربة وقصعة؛ حجرة خالية من المصابيح الدنيوية، لكنها منهلٌ ومنبع للمصابيح الأخروية.
ككعبة للوحي منصوبةٍ يسعى.....إليها الناس في كل حال
تقول رضي الله عنها: (كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)، ولما سئلت: (لم يكن فيها مصابيح)، قالت: (لو كان عندنا زيت مصباح لأتدمنا به). ما أتفه الدنيا لمن يعتبر.
فإنها السجن لمن آمنوا.....والجنة الفيحا لمن قد كفر
ومن ارتضاه الله وفق سعيه.....فرأى العظيم من الحظوظ خسيسًا
لقد كانت رضي الله عنها تقوم بالخدمة في حجرتها، تنظفها، ترتبها، تُزينها، تطحن الدقيق بيدها، تطبخ بنفسها، تهتم برسول الله، تُرَجِّله، تطيبه، تغسل ثيابه، تكرم ضيوفه، تَفْتِل قلائد هديه.
والود يسكن في الحشا....لكن يُحس من اليدِ
كان صلى الله عليه وسلم يبيت في بداية الأمر في تلك الحجرة ليلة، ويدعها ليلة أخرى عند سودة، ولما أكرم الله أزواجه به وهبت سودة يومها لعائشة، كان يبيت في تلك الحجرة يومين من تسعة، ويومًا لكل زوجة.
فتفردت بالسبق حين يظمها.....ويظم كل مسابق مضمارُ
ولقد ظُمت الحجرات إلى المسجد، وبقيت حجرة عائشة، وستبقى بإذن الله إلى يوم الدين، ما من وافد إلى المسجد النبوي من شرق الأرض وغربها، إلا وتأنس روحه بالوقوف عندها ليُلقيَ السلام على خاتم النبيين، وصاحبيه الأبيين وحاله:
هواها قديما أرضعتني المراضعُ.....ولم يسلني عنها ديارٌ قريبة
ولم تسلني عنها بلاد شواسعُ
لقد عاشت رضي الله عنها في تلك الحجرة قرابة خمسين عاما، ما أدخلت عليها من تغيير سوى احتوائها لقبور ثلاثةٍ هم خير أهل الأرض أجمعين.
وهم الذين يحبهم ويجلهم......من كان ذا لب وذا إيمان.
إنها حجرة مباركة، لأم مباركة.
إن يكن للعفاف في الناس أم .....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

عائشة والأدب مع رسول الله ما عائشة!
إن أطنب البديع في آدابها.....فإنها في القدر فوق ما وصف
خلق رفيع، وأدب بديع، حديثها لرسول الله سحر حلال، وسلسبيل زُلال، أحلى من الضَّرَب، وأشهى من بلوغ الأرب؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معها في سمر طريف، وحديث شائق ظريف، قال في نهايته كما في الصحيح: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أني لا أطلق)، فقالـت: (بل أنت والله خير من أبي زرع لأم زرع يا رسول الله).
سرى نفحها يطوي الفيافي، مُحمَّلًا بفاغية فواحة بالشذى النقي، إلى مغرب حينا وحينا لمشرق.
ولما أخبرها أنه يعلم غضبها من هجر اسمه يوم تقول لا ورب إبراهيم في قسمها، قالت: (أجل والله ما أهجر إلا اسمك يا رسول الله).
فحبكم عن جميع الناس أغناني.....وما هجرت! وليس الهجر من شاني
صالحة لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلا ما يسره.
رِدي أَيَا نفس أشهى ما نَهِلت ردِي.
كالمسك ريحا ولى ما مطعما.......والتبر لونا والهوى في اعتدال
اشتهرت بين نساء المدينة بالتجمل والعناية بالزينة، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فرأى في يدها فتَخاتٍ من ورِق، فقال: (ما هذه ياعائشة)، قالت: (صنعتهن لأتزين لك يارسول الله).
وما الروضة الغناء غنَّى حمامُها......بأحسن منها في الحُلي المنوَّعِ
كان لها درع كما في الصحيح، ما كانت امرأة في المدينة تُقَيَّن وتُزين لزفافها إلا أرسلت تستعيره منها.
كأنها الماء مبذول لشاربه......وما يُصاب له مِثْلٌ إذا عُدمَ
وكانت تنصح النساء بالتزين للأزواج في دائرة هدي المختار؛ قالت يوما لامرأة: (إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتجعليهما أحسن من ما هما فافعلي)؛ إنها رسالة من زوج المختار، لذات الخمار،طارت كل مطار، وشاعت في الأقطار.
فكأنما أهدت كؤوس القَرْقَفِ......وكأنها نّيْلُ الأمان لخائف
أو وصل محبوب لصبٍّ مدنفِ.......فآدابها تبدوا كدرٍّ منضدِ
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأنذال أم العفاف

عائشة ومنزلتها عند رسول الله ما عائشة!
قدم في الثرا، وهامة في الثريا؛ شمس تخجل لها شمس السما، وتتضائل لديها تضاؤل الإما، منزلة تحير الألفاظ والمعاني، وتفعل في الألباب ما تفعل المثاني.
ذر الأنف يستنشق خمائل روضة.....تبُذُّ نسيم الورد أنفاسها بذَا
إنها الصديقة بنت الصديق الهمام، من بُعث لها السلام مع جبريل عليه السلام: (ياعائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام).
سلام مدى التاريخ ليس ببائدِ، حباها به ذو الفضل والمن والعطا، وقلَّدها منه بأزهى القلائدِ
علم الصحابة ذاك والأتباع.
فإذا استُحبت للنبي هدية....فبيومها يُتقصَّد الإهداءُ
وبذا ينالون الرضى من حِبِّها......ورضاه أرجى ما ابتغى العقلاءُ
من كان له هدية لرسول الله انتظر حتى إذا كان يوم عائشة، بعث بهديته، فحبُّها ذاع في القاصي وفي الداني.
ثارت الغيرة عند أزواجه فاجتمعن عند أم سلمة وقلن لها: (إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فكلمي رسول الله ليكلم الناس، من أراد أن يهدي لرسول الله هدية فليهدها له حيث كان). طلب دافعه الغيرة. قالت أم سلمة: (فذكرت ذالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عني)، ولم يكن رسول الله ليطلب من أحد ما ينبغي أن يفعل بهديته، لما في ذالك من التعرض لطلب الهدية؛ قالت: (فأعرض عني! ثم ذكرت ذالك له فأعرض عني!، وفي الثالثة قال: (يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها).
يسْتهبُّونها جنوبا فحادت عن......هُدى قصدهم وهبت شمالا
أدركت أم سلمة، أن رسول الله عرف ما وراء الأكمة، فاعتذرت إليه وقالت: (أتوب إلى الله من أذاك يارسول الله).
ثم رجعت وأخبرت صواحبها بما دار، فلم يقنعن بالجواب، ولجأن إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها لتحمل الرسالة، لكن بصيغة ثانية، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله فاستأذنت عليه؛ تقول عائشة: (وهو مضطجع معي في مِرْطي فأذن لها، فقالت: يارسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة)؛ ويتلقى ذالك برحابة صدر وهدوء قلب، مع أنه اتهام بعدم العدل، لعِلمه أن الباعث لذالك غيرة لا سوء طويَّة، ولذا قال لفاطمة: (أي بُنَيَّة ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحبي هذه) وأشار لعائشة، حاله: إن أمر الحب ليس في يدي يافاطمة. قالت فاطمة: (فرجعت إلى أزواجه فأخبرتهن بما كان، فقلن ما نُراك أغنيت عنا من شيئًا، فارجعي له!) قالت فاطمة: (والله لا أكلمه فيها أبدًا)، وحالها:
أبتاه حبك نيتي......ولكل عبد ما نوى
ما ضل صاحب مُهجة....تهفو إليك وما غوى
قالت عائشة: (فأرسلوا زينب وهي التي تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرى امرأة قطُّ خيرًا في الدين من زينب وأتقى لله، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يُقربها إلى الله، ما عدى سَوْرةً من حِدَّة، تسرع منها الفيئة.قٌالت: فاستأذنت على رسول الله، ورسول الله معيَ في مِرطي فأذن لها؛ فقالت: (يارسول الله إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت بي واستطالت علي وأنا أرقب رسول الله، هل يأذن لي فيها؟ فعرفت أنه لا يكره أن أنتصر منها؛ قالت: فوقعت بها ولم أدعها حتى أنحيت عليها، فما ترد علي شيئًا وقد يبِس ريقها في فمها، ورأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل).
تخال جبينه والليل داجٍ.....شُعاعَ الشمس أو نور الجلامِ
ويقول: (إنها ابنة أبي بكر).
طابت فطاب بذكرها الإخبارُ.....وكذاك أبناء الكبارِ كبارُ
إن الباعث لما حدث لم يكن قضية الهدايا، فعائشة لا يد لها في أمر الهدايا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزع عليهن بالتساوي ما يأتيه من هدايا، فليست القضية هدية، القضية غِبطة عائشة على منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكانةٌ تلك لم تحضى بها امرأة....سواها في حاضرِ الدنيا وماضيها
وعند أحمد وأبي يَعْلى بسند حسن: (أنه أُهدي لرسول الله قلادة ملمَّعة بالذهب، ونساؤه قد اجتمعن عنده، وأُمامة بنت زينب جارية تلعب في جانب البيت، فقال لهن: :كيف ترين هذه القلادة؟ قلن: ما رأينا أحسن منها قط ولا أعجب؛ قال: والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي). قالت عائشة: (فأظلمت علي الأرض بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري)؛ وقال أزواجه: (ذهبت بها ابنة أبي قحافة)، فأقبل بالقلادة فوضعها في رقبة الجارية أمامة.
والشاهد من هذه المقالة: ذهبت بها ابنة أبي قحافة.
لقد احتلت عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة، اعترف لها رغم الغيرة بها أمهات المؤمنين.
حبيبة قلبه روحا وعقلا....أحاط بها من الهادي الحنانُ
وقد شهدت بحبهما البرايا....وطار بذكره الحسن الزمان.
وكانت عائشة تعرف هذه المكانة فتُدِلُّ بها على صواحبها. فعند الترمذي: أن رسول الله كان جالسا عندها، فسمع لغطا وصوت صِبية، فقام فإذا حبشية تزْفِنُ –ترقص والصبية حولها- فقال: (يا عائشة تعاليْ فانظري)، قالت: (فجئت فجعلت لَحْييَّ على منكبه وأنظر من بين منكبه ورأسه خدي على خده؛ فيقول: أما شبعت! أما شبعتِ! فأقول: لا لأنظر منزلتي عنده)، وحالها: أحب أن يبلغ النسا مقامه لي ومكاني منه.
فقد أعلى رسول الله شأنا.....لعائشة فاستقر لها الكيان
لقد أحبته عائشة حبا جما، فكان في سمعها بشرى مرفرفة، وكان في روحها وردًا وريحانا.
ومن شدة حبها وحرصها عليه، أنها لو استيقظت من نوم فلم تجده بجنبها أصابها القلق والاضطراب رضي الله عنها وأرضاها. تقول كما في صحيح مسلم وغيره: (كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل والبيوت يومئذ ليس بها مصابيح، فتحسسته فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك).
عليه صلاة الله ما ناح بالضحى.....حمام وغاب البدر من بعد ما أضا
ولما آلى من نسائه شهرًا واعتزلهن، خيم الحزن والقلق على أمهات المؤمنين، فلا تكاد تراهن إلا يبكين، حتى إذا ما كمُل الشهر كان أول ما فعله أن بدأ بعائشة فخيرها، وطلب منها أن لا تعجل حتى تستأمر أبويها، قالت: (أفيك أستأمر أبوي؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، والله لا أوثر عليك أحدًا).
سأحبوك محض الحب ما هبت الصَّبا.....وما سجَعَتْ في الأيْك وُرْقُ الحمائمِ
فحبك إي والله أُنسي وراحتي.....عليه مدى الأيام أطوي وأنشرُ
إنها عائشة، أحب النساء إليه، إذا هوِيَت شيئًا لا محظور فيه تابعها عليه؛ لما حاضت في الحج وأهلت به ووقفت المواقف كلها، ثم طهرت وطافت وسعت، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد حللت من حجك وعمرتك)، فلم تطب نفسها، وقالت: (إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت)، وكان رسول الله رجلا سهلاً إذا هويَتِ الشيئ تابعها عليه، فقال لأخيها عبد الرحمن: (اذهب فأعمرها من التنعيم)، فأهلَّت بالعمرة من هذه البقعة، حتى إذا ما فرغت آذن بالرحيل إلى المدينة.
وحسبها في الفضل ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). برغم أنف الأقزام الطَّغَام اللئام، وسفيه الغرب وزنديق العصر خليفة أبي رِغال، وطليعة الدجال، وخُنثى الرجال.
ذاك الذي في الحيض طول الدهر....والحيض يأتي مرة في الشهرِ
ونتن كلامه يُربي على نتن الضَّرابِين، كيف يُدعى لآبائهم هؤلاء وفيهم مثل ذاك الزنيم، يا لحى الله من أشاح عن الحق ولم يثنه لطيف الهدى فيه.
إن يكن للناس في العفاف أم.....فهي رغم الأوباش أم العفاف

عائشة الغيرى ما عائشة!
خير الأنام حليلها وكفى....فخرًا بأن يديْه ترعاها
لقد كتب الله الغيرة على نساء العالمين، فهي راسخة في المرأة رسوخ الأصابع باليدين، وتبلغ الغيرة أوجها حين تلقى المرأة منافسًا لها على قلب حليلها.
حينها لا تسل عن فاعل تُبْصره....إنما عن فاعل مستترِ
وأمهات المؤمنين خير النسا، اعتراهن من الغيرة ما يعتري النسا، وكيف لا يغرن على خير من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء.
بل خير من ركب المطِيّة ومن مشى.....فوق البسيطة سوقِها والمسجدِ
ولقد واجه رسول الله تلك الغيْرة بحِكمة ورويَة، وعمق إدراك لواقع النفس البشرية، وتقديرٍ للمشاعر والأحاسيس الزوجية، وكان أكثرهن غيرة وأشدهن في هذا الأمر عائشة، لمكانتها العالية في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في السير للذهبي أنها قالت: (لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها، حزنتُ حزنا شديدا لما ذكروا من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها فوجدت أضعاف ما وُصِف لي منها، فذكرت ذالك لحفصة فقالت: لا والله إن هي إلا الغيرة وما هي كما تقولين، وإنها لجميلة. قالت: فرأيتها بعدُ فكانت كما قالت حفصة، وإن هي إلا الغيرة).
وإن الحال أبلغ من مقالي....وإني لست أملك ما ببالي
وتقول رضي الله عنها: (جاءت جورية رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، وكانت امرأة حُلوة مُلاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه؛ فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وعرفت أن رسول الله سيرى منها ما رأيت). وكان ما حذِرتْه، إذ رآها وتزوجها رضي الله عنها.
وفي صحيح مسلم: أن رسول الله خرج من عند عائشة ليلاً، قالت: (فغرت! فجاء فرأى ما أصنع فقال: يا عائشة أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك يارسول الله)
هل تحمل الغبراء مثلك أو......جرتْ يوم الرهان بمثلك الغبراء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوقد جاءك شيطانك؟ قالت: أومعي شيطان؟ قال: نعم. قالت: ومع كل إنسان؟؛ قال: نعم، قالت: ومعك يارسول الله، قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا بلى. قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع نعليْه عند رجلَيْه، ووضع رداءه وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، ثم انتعل رُوَيْدًا، وأخذ رداءه رُوَيْدًا، ثم فتح الباب رُوَيْدًا، وخرج فأجافه رُوَيْدًا، قالت: فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري وانطلقت في إثره، فجاء البقيع، فرفع يديه ثلاثًا وأطال القيام، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، وسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل -أغمضت عينها كالنائمة والنفَس متواتر مرتفع- فقال: مالك ياعائش؟ حَشْيَا رابية؟ قالت: لا شيئ يا رسول الله. قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: بأبي أنت وأمي يارسول الله، رأيتك خرجتَ فخرجت وراءك خشية أن تذهب إلا بعض نسائك. قال: فأنت السواد الذي أمامي؟ قلت: نعم! قالت: فلَهَدَني على صدري لهْدةً أوجعتني وقال: أظننت أن يحيفَ الله عليك ورسوله ياعائشة. قلت: بأبي أنت وأمي، مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم، أتاني جبريل حين رأيتِ فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، وظننت أن قد رقدتِ فكرهت أن أوقظك وخشيتُ أن تستوْحشي).
الرَّوْح والريحان في كلماته.....واللؤلؤ المكنون في بسماته
عليه صلاة الله ما ذّرَّ شارق وما.....سبح الرحمن في الأرض ساجدُ
وأهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة وهو عندها، فأخذتها الغيرة وتملكتها رِعدةٌ هزتها، فضربت القصعة بيدها فانكسرت وألقت ما فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية الهدوء والسكينة والوقار، لا تقريع ولا ملام، يظم الكِسرتيْن إحداهما إلى الأخرى ويجمع الطعام، ويعتذر لها لأن لا يُحمل على الذم صنيعها، ويُشير إلى عدم مؤاخذة الغيرى قائلا: (كلوا! غارت أمكم) .
كعنبرة شهْباءَ تحمل نفحةً تنفَّسُ في.....صدر النَّدِيِّ فتُنشَقُ تَُعَطر أنفاس الرواة فتعبقُ
ولسان حال المختار: إن البحث عن الدوافع له أثر كبير في تفسير الأفعال، والدافع لما حدث من عائشة هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يكون الحب سببًا للإساءة إلى المحبوب بحال.
ذاك الحبيب فلن يشقى الجليس به.....كم نال من جالس العطَّارَ أعطاره
ثم توج رسول الله ذالك بعدله، فلم يمنعه حب عائشة من أن يحكم عليه بتعويض المكسورة بأخرى من عندها صحيحة، والحال:
هذه كفارته ياعائشة.
إناءٌ بإناء، وطعام بطعام؛ فسارت قضية، من كسر شيئًا فهو له، وعليه مثله.
هكذا مرت الحادثة بدرس في الحِلم وحسن المعاملة، حتى بعد انصراف الصحابة لم يكن لذالك أثر في تعامله، تُخبر عائشة عن ذالك قائلة: (فما رأيت ذالك في وجه رسول الله بعد ذالك). حالها:
فِدًا لك تالِدِي وفدتك نفسي.....ومالي إنه منكم أتاني
وعند أبي يعلى بسند قال فيه الحافظ في الفتح لا بأس به: أن عائشة كانت في سفر على جمل ناجٍ ومتاعها خفيف، وصفية على جمل ثَفَالٍ بطيئ، ومتاعُها ثقيل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (حَوِّلوا متاع عائشة على جمل صفية، ومتاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب. فقالت عائشة وقد أخذتها الغيرة: يال عباد الله! غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: يأم عبد الله، إن متاعكِ فيه خِف ومتاع صفية فيه ثِقل، فأبطأ الركب فحولنا المتاع ليمضي الركب) وحاله:
يا أيها الغيرى اسمعي لمقالتي.....وتفهمي عن بعض ما لم تفهمي
فقالت: (ألست تزعم أمك نبي الله؟. فتبسم وقال: أوفي شك أنت ياأم عبد الله؟. قالت: فهلا عدلت يا رسول الله؟ قالت: فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب وحِدَّة.
وإن حدته والله يكلأه....كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قالت: فأقبل فلطمني) وحاله:
أفي الشمس شك أنها الشمس بعدما......تجلت عِيانًا ليس من دونها سَترُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا أبا بكر! قال: يا رسول الله أما سمعت ما قالت. فقال: يا أبا بكر إن الغيرى لا تُبصر أسفل الوادي من أعلاه).
كَلِمٌ كالروض حلاه الندى....بجمانٍ صِيغَ من ماء معين
والله لن تسعد أسرة في غير منهج الله الذي جلاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعتقدُ السعادة في سِواه......كمعتقد النبوة في سَجاحِ
وفي صحيح مسلم ما مختصره: اجتمع أمهات المؤمنين برسول الله في بيت عائشة وفي ليلتها، فجاءت زينب فمد يده إليها فقالت عائشة: هذه زينب، فكف يده. فتقاولتا حتى اصطخبتا وارتفعت أصواتهما؛ ومر أبو بكر فسمع الصوت، فقال: اخرج يارسول الله إلى الصلاة واحْثُ في أفواههن التراب.خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الموقف في ثورته، وتغاضى وتغافل عنه، وحاله: لا تُطفأ النيران بالنيرانِ. وانصرف لصلاته، فانطفأ ما حدث، وقُضي عليه في مهده؛ إلا أن عائشة بقيت تحمل هم ما يقول لها أبو بكر. فقالت: الآن يجيئ أبو بكر فيفعل بي ويفعل! وجاءها أبو بكر قائلا: أتصنعين هذا؟ ثم زجرها على ما بدر منها وقال لها قولا شديدًا. وحالها:
أوقعْتِنِي ياغيرتي وفعلتِ فعلتك التي
ومع ذا يا أبتي:
لإن ند اللسان ففي فؤادي......رسَى حبٌّ له كالراسياتِ
فتغاضيا لا غفلة معشر الإخوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة)
وروى الإمام أحمد: أن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله من جنازة بالبقيع فوجدني أجد صداعًا، وأقول وارأساه؛ فقال: بل أنا وارأساه، ياعائشة! ما ضرك لو مِتِّ قبلي فقمت عليك فغسَّلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك. فقالت: لكأني بك والله لو فعلت ذالك قد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماتٍ، لو برقْنَ على صخرة مادتْ من الطَّربِ.
ثم بُدِءَ بوجعه الذي مات فيه.
فبمهجتي أفدي الذي.....أمسى يقيم بمهجتي
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا كما في الصحيح أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يُحادثها، فقالت لها حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر؟. قالت عائشة: بلى! وركبت بعير حفصة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها وسار معها حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فثارت ومارت بها غيرةٌ يُقصِّر عن وصفها ما أقول. جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: (يا رب سلطْ عليَّ عقربا أو حيّةً تلدغني! رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئًا). حالها:
بَعُدتُ عنه فأمسى عَسْجَدي فِظة.....وأصبحت فِظَّتي من بعده فَظَّة
صبوحي إذا ما ذرَّت الشمس وجهُه....ولي وجهُه عند المساء غَبوقُ
وفقدت رسول الله كما في صحيح مسلم وظنت أنه ذهب لبعض نسائه، فتحسستْه فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) فقالت: (بأبي أنت وأمي يارسول الله، إني لفي شأن وإنك لفي شأن). والحال:
سلام على من إليه أتوق....ومن لست للبعد عنه أطيقُ
وآخر ذكراي حين أنام......وأوَّل ذكراي حين أفيقُ
ومن عجيب غيرتها معشر الإخوة، أن كانت تغار من خديجة وقد لقيت ربها قبل أن تكون زوجًا لنبينا، ولعل ذالك من لطف الله بعائشة لأن لا يتكدر عيْشُها؛ قالت رضي الله عنها: (ماغرْت على امرأة ما غِرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بحبها، ويُكثر ذكرها، ويذبح الشاة ويهديها لخلائلها، ويقول: (إني رُزقت حبها، ما أبدلني الله خيرًا منها) حاله:
آليتُ لا أنساها ما هب الصبا.....حتى أُوسَّد في صفيح المُلحدِ
حُقَّ معشر الإخوة للصديقة أن تغار، وما لا تغار على سيد ولد آدم الذي فُتِحت عينها على حبه وإجلاله، ما لها لا تغار على الرجل الفريد، وهي التي لم تعرف غيره إذ هي البكر الوحيد، حُقَّ لها أن تغار، وأن تُردِّد في الأغوار والأنجادِ والبِيد:
زوجي رسول الله لم أر غيره....الله زوجني به وحباني
ومع غيرتها الشديدة كانت في غاية الإنصاف مع أخواتها، وما ذا بغريب على الصدّيقة الرشيدة.
هي الروضة الغنّاء فوّاحة الشذى....تميسُ اختيالاً بالعطور ورودُها
تهتم بصواحبها وتوقرهن، وتثني عليهن بما تعلمه منهن.
تقول في ميمونة: (أما إنها من أتقانا لله).
وفي صفية: (ما رأيت صانعة طعام أحسن من صفية).
وفي سودة: (ما رأيت امرأة أحب إلي من أن أكون في مِسلاخها من سوْدة).
وفي زينب وهي التي تساميها في المنزلة: (لم أر امرأة قطُّ في الدين خيرًا منها).
وفي جويرية: (ما رأيت امرأة أعظم بركة على قومها منها).
وكانت مع حفصة مثالا حيا للصداقة والرأي الواحد في الأمور المنزلية.
إنهن نساء النبي، تأدبن بأدبه، وتطلعن إلى رضاه، فلم يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن على بشريتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.
نواشئُ في طهْرِ الطوايا موائِِسُ.....وطيِّبةٌ أعراقهم والمغارسُ
قلوبهمُ بيضا، رُواءٌ من التقى.... تكاد تَفَقَّا، والبطون خوامصُ
مُحكمات الذكر قد أغنتهمُ.....عن فضول القول من قيلٍ وقالِ

ُلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة ما لطفه!
حُضارَةُ في لُطفه قطرةٌ.....ورَضْوى إلى حبه كالحصاة
إنه صلى الله عليه وسلم خير الأزواج، وألطفهم بأهله، ما عنفها ولا اشتد عليها يومًا ما، بل كان يترضَّاها إذا غضبت، ويحول بينها وبين من يريدها بيسير الأذى ولو كان أباها.
فمن كان في روضه رائضا.....فما زال في عيشة راضية
أخرج أحمد أن أبا بكر استأذن على رسول الله فسمع صوت عائشة عاليا فأهوى عليها أبو بكر ليلطمها، وهو يقول: (يا بنت أم رومان، ترفعين صوتك على رسول الله؟!) فأمسكه رسول الله، وحال بينه وبينها، فكان أرأف بها من أبيها، وخرج أبو بكر مغضبًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟).
تجري إلى القلب....جري الماء إلى العودِ
وجاء أبو بكر فوجدهما يضحكان وقد اصطلحا، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا، قد فعلنا).
حروف تفوق بتأثيرها....نفيس الحُليِّ على الخُرَّدِ
كان صلى الله عليه وسلم يتعاهدها بما يسرُّها، فغالبا ما ينام ويضع رأسه على فخذها ويتكئ في حِجرها.
خرجت ذات مرةٍ مع رسول الله في بعض أسفاره كما في الصحيح، فانقطع عِقدها، فأقام رسول الله والناس معه على التماسه، فقال الناس لأبي بكر: (ألا ترى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله والناس)، فجاء أبو بكر إليها ورسول الله واضعٌ رأسه على فخذها، فعاتبها وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتها، تقول: (فلا يمنعني من التحرك إلامكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي؛ وأصبح الناس على غير ماء، فأنزل الله: (فتيمموا صعيدًا طيبًا). فيأتي أبوها الذي كان يعنفها فرحا ويقول: (والله ما علمتُ يابنية إنكِ لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك من اليسر والبركة؟).
إنها حبيبة رسول الله، كانت تغتسل معه من إناء واحد، وتبادره: (دع لي، دع لي). وتشرب من إناء ثم تناوله فيضع فاه على موضع فيها، وتتعرَّقُ العظم ثم تناوله إياه، فيضع فاه على موضع فيها. لكأنها والله نَشْوى.
وما شربت مُدامًا إنما.....أضحت بخمر رُضابه تتنبَّذا
وسابقها مرة فسبقته، ثم سابقها أخرى فسبقها، ثم قال تطييبًا لخاطرها: (هذه بتلك) وهو يضحك. وحالها:
لعمرك ما كل الوجوه إذا بدت.....بمُغْنيةٍ عن وجهكم وهو واحدُ
ما زال حبك يجري في دمي.....وأنا من غيركم مّوْجةٌ ضاعت شواطيها
قد اشتريتك بالدنيا وما فيها....ودخلت جنة حبكم متنزها
ياليت قومي يعلمون بأنني.
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

عائشة والفقه، ما عائشة!
عقلية نادرة، بديهة حاضرة.
تُوضح العَوْصى إذا التبست.....فنراها غير عَوْصاءِ
نقلت للأمة ربع الشريعة، مسندها بلغ ألفين ومائتين وعشرة، وهي من السبعة المكثرين من الصحابة.
أبو هريرة سعد جابر أنس....صديقة وابن عباس كذا ابن عمر
إذا رجف الخِضَمُّ من المعاني....ولم يَغُص اللبيب على اللُّباب
تغوص بلُجِّه فتجيئ منه....لعمر الله بالعجب العُجاب
وكانت رضي الله عنها طُلَعَة، لا يهدأ لها بال حتى تجلوَ لنفسها ما خفي عنها، لما قرأت قول الله: (والارض جميع قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قالت: (فأين الناس يومئذ يارسول الله؟ قال: على الصراط). ولما قال: (يُحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة. قالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم لبعض ياعائشة). وبعد مُضي تسع وعشرين من الشهر الذي هجرهن فيه، بدأ بها فآثرت فهم الشريعة على فرحتها بلقائه، وقالت: (لقد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين أعدها عدًا. قال: الشهر تسع وعشرون).
تُلاحظ سنة الهادي دواما.....بمقلة قلبها الصافي السليمِ
فتنشر من علوم الدين بُرْدا.....عريضا للمسافر والمقيمِ
وهي التي أفتت فبزت كل من....ألقى لهم بزمامه الإفتاءُ
استقلت بالفتوى في عهد الراشدين، وشهد لها بالعلم أكابر الصحابة والتابعين، يقول أبو موسى رضي الله عنه: (ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا).
وقد كانت قادرة على الإجابة على أسئلة لم يكن غيرها قادرًا على الإجابة عليها.
ذكر بعضهم أن عليًا كان وصيا، فقالت: (لقد مات رسول الله في حِجري، فمتى أوصى إلى علي؟).
أجبني بالصريح ولا تُكنِّي....وجنبني أساليب المِراءِ
هي المنهل الرقراق عذبٌ نميره....إذا نهِل الوُرَّادُ طاب وروده
وكم عَوْصاءَ قد جلت وأعيتْ.....أتتها فانثنت شمسَ زوالِ
ولقد كان يرجع لها أكابر الصحابة، يقول مسروق: (والذي نفسي بيده لقد رأيت أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض).
فتُهديهم مُخضَّرة المعاني.....فتأتي وهي واضعة النقاب
وكانت رضي الله عنها مثالا للورع في الفُتيا وغيرها، ما عُرضت عليها مسألة ترى غيرَها أعلم بها إلا أحالت عليه.
سُئلت عن المسح على الخفين، فقالت: (عليك بعلي، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وسئلت عن الركعتين بعد العصر قالت: (سل أم سلمة).
أضحت بها تاجًا يلوح على الجبين.....بل درة تختال في العِقد الثمين
ولقد بلغ الإعجاب من الذهبي بعلمها حدا قال فيه: (ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقا امرأة أعلم من عائشة).
فهي التي في الفقه كانت منقعا....عند الخلاف يؤمه الفقهاءُ
ليعززوا آراءهم من منبع بِوُرُودِهِ.....تتعزز الآراءُ
ومع فقهها فقد بلغت في الفصاحة والبيان والبلاغة غايتها.
ليس قُسٌّ عندها قسًّا ولا.....سيبويه الشَّهْمُ عندها يدري ما الكلِم
روح العربية في لسانها، وهاروت وماروت في بيانها، ما سمع كلامها أحد إلا بهرته فصاحتها، وأدهشته عارضتها، يقول معاوية: (والله ما رأيت خطيبًا قط أفصح ولا أفطن ولا أبلغ من عائشة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فتحت بابا قط تريد أن تغلقه إلا أغلقته، ولا أغلقت بابا قط تريد أن تفتحه إلا فتحته).
ويقول الأحنف: (سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخطباء إلى يومي هذا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من فيِّ عائشة).
وما نزل بها شيئ إلا أنشدت فيه شعرًا.
رأت رسول الله يوما وقد تهلل وجهه، فقالت: (لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بقوله:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه....برِقت كبارق العارض المتهلل)
ونظرت لوجه أبيها وهو يقضي فقالت:
وأبيضَ يُستسقى الغمام بوجهه....ربيع اليتامى عصمة الأرامل
قال: (ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ولما توفي أخوها عبد الرحمن تمثلت بقول متمم في أخيه مالك:
وكنا كنَدْمَانَيْ جُذيْمة حِقبةً من الدهر.....حتى قيل لن يتصدعَ
فلما تفرقنا كأني ومالكا....لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فرضي الله عنها وأرضاها.
إن يكن للبيان في الناس أم.....فهي رغم الأعلاج أم البيان

عائشة الطاهرة، ما عائشة!
حَصانٌ رزانٌ من كريم الخرائد
مهذبة قد طيب الله خِيمَها......وطهرها من كل سوء وباطل
كانت مع رسول الله في غزاة، وفي عودته نزلوا منزلا، فانقطع عِقدها فبقيت تبحث عنه ورحل الجيش واحتملوا الهودج على أنها فيه لخفتها، ثم وجدت عِقدها وعادت فلم تجدهم فلزمت مكانها علهم يفقدونها فيرجعون إليها.
في ليلة يالها، غُدافيَّة ليس فيها....بصيص يلوح ولا نجمها يسطعُ
وبينا صفوان رضي الله عنه من وراء الجيش، يلقط ما يسقط من متاع رأى سواد ظنه متاعا فإذا هي عائشة قد غلبتها عينها، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله. قالت: فاستيقظت باسترجاعه وخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه سوى استرجاعه، أناخ راحلته وركبت فانطلق بالراحلة يقودها حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في نحر الظهيرة). فهلك من هلك ورُميت المحصنة البريئة.
ووالله لقدومها مع صفوان غير متوارية عن الأنظار في نحر الظهيرة لدليل البراءة عند ذوي الفطر السليمة، إنه لم يكن ليطرأ على بال عائشة مثل هذه التهمة وهي الحرة الشريفة.
ربيبةُ عِفَّةٍ وحيًا وطهر....معاذ الله أن تأتي الحرامَ
ولكن يطيب لأسود القلب التجني.....ويُشوى عند جاهله العُقابُ
رقص الخبيث النَّبِيثُ الوَكوعُ اللَّكوعُ الوَغْلُ الفَسْلُ عدو الله ابن أبي فرحًا، ووجدها فرصة لاستهداف رسول الله ودعوته، عن طريق استهداف أسرته.
نَعَقَ ونهق بالبذى وهَذَى.....وتناول الطهر بالأذى
ونفخ شِدْقه ولوى، ثم رمى وعوى.
فلو لبس النهارَ ابن أُبيٍّ.....لدنَّس لؤمه وضّح النهار
ولو رُميتْ بلؤم ابن أُبي .....نجوم الليل ما وضحت لساري
جعل يَحيك الإفك ويُشيعه ويُذيعه، ويجمعه ويفرقه، وزمرته يتقربون إليه به، والطاهرة في غفلة عن ذالك كله.
تنعق الغِربان والوَرقاء في.....دوْحها الميَّاد تشدو هاتفه
وصلت المدينة، واشتكت شكوى شديدة، وانتهى الحديث إلى رسول الله وأبويها فلم يذكروا لها شيئا، إلا أنه رابها أنها لا تعرف من رسول اله اللطف الذي كانت تراه منه في مرضها، ورسول الله مع هول الفرية يُحافظ على كرامة زوجه من أن تُمس، وكرامة أهلها من أن تُخدش.
ويلبث منتظرًا للوحي ما يقرب من الشهر، وهو صابر صبرًا لم يُعرف في تاريخ النوازل لأحد قبله أو بعده، وحسن الظن مصاحبٌ له، يقو: (والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا).
فليس يصح فيه قول غاوٍ....وعند الله قد عُقِد القرانُ
ومع ذا يتتبع ويبحث عن مزيد حِلم في حزم، ليحسم الإشاعة، ويظهر البراءة، ويقطع القالة.
في حكمة ما وعت أذْنٌ ولا سمعت ....بمثلها منذ أزمان وأدهارِ
فما كل الرجال لهم عقول.....بها في كل خطبٍ يُستعان
ففي الناس العقارب والأفاعي....ومن هو في الخديعة ثُعلبانُ
وبعد شهر استشار أصحابه، فقال أسامة: (أهلك ولا نعلم عنهم إلا خيرًا)
وقال علي: (النساء كثير، وسل الجارية تصدقك).
وقالت زينب: (أحني سمعي وبصري والله ما علمت عنها إلا خيرًا).
وشهدت الجارية بالبراءة، ومن فقهها أحالت على الوحي، قالت: (والله لعائشة أطيب من الذهب، ولئن كان ليخبرنك الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تِبْر الذهب الأحمر).
وحال جمع الصحابة: الله زوَّجَكَها، ولن يدلس عليك فيها.
هيهات يدنسُ ثوب طاهرة.....هيهات يُلمس غرسها الزاكي
أما أبو بكر فيال أبي بكر.
لقد صَدَع الحَشى منه دياجِ همومٍ....ما لشارقها انصداع
كأن القلب تنهشه السباع.
لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، وحاله:
عُذرًا إذا سكت المحب فللأسى.....قدر إذا بلغ النهاية ألجمه
ثم فجرها بمرارة، تحت ضراوة الإشاعة: (والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر، والله ما رُمينا بها في الجاهلية، أتقال لنا في الإسلام؟).
إن للبهْتِ حُرقة لو أصابت.....شامخات الجبال صرن رميما
عائشة يال عائشة، خرجت لقضاء حاجتها بعد بضع وعشرين ليلة مع أم مسطح، فعلمت بما يُقال فيها، فذُهلت عن حاجتها، وعادت لأمها تستثبت منها، فأخبرتها بما جرى، وهونت عليها، فقالت: (سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت أمها: نعم. قالت: وقد علم أبي؟ قالت: نعم: قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم)، فعلى بُكاؤها وخرت مغشيًا عليها، فغطتها أمها بثيابها، وما أفاقت إلا وعليها حُمًّا بنافظٍ قد أخذتها،وكان أبو بكر يقرأ فوق بيته فسمع بكاءها فنزل وقال: (ما شأنها؟). قال: (بلغها الذي ذُكر من أمرها). ففاضت عيناه رحمة بها.
ياغَصة ليست تُساغ ولوعة......قد أضرمت في قلبه نيرانها
لو أن ثهلانًا أصيب بعُشرها ....لتدكدكت منه ذُرى ثهلانِ
لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، حتى ظُنَّ أن تُصدع كبدها.
كأن الجفون على مقلتيها......ثياب شُققن على ثاكلِ
كم عيون غرقت في دمعها.....وقلوب غُمست في الألم
أما رسول الله، فلم يصل إلى ما يخرص الألسنة الحاقدة، فكان لابد من مُفاتحة عائشة، عندها دخل رسول الله على الحَصان الرزان، يطلب منها شافي البيان، فثارت الكلمات كالبركان، تقول بقول يعقوب في القرآن: (فصبر جميل والله المستعان)، واضطجعت الرَّزان والله يعلم إنها لبريئة، وحالها: (إنما أشكو بثي وحزنيَ إلى الله).
وما أناخ بباب الله ذو ألم.....إلا تزحزح عنه الهم والحرجُ
تغشى رسول الله ما كان يتغشاه، قالت: (فما فزعت وما باليت وقد عرفت أن الله غيرُ ظالمي وأني بريئة، أما أبوي فوالذي نفس عائشة بيده، ما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننتُ أنْ تخرج أنفسهما).
بلغت بشدتها مدًى لم تُبق في.....الشدائد ما يُعد شديدا
وسُري عن رسول الله، وتحضر العرق منه كالجمان، على جبينٍ كالياقوت والمرجان، و(لأن لا يهجم الفرح على قلب عائشة لأول وهلة هجمة واحدة فيهلكه، تدرج رسول الله في الخبر) كما يقول ابن حجر.
ضحك أولاً، ثم بشر ثانيًا (أبشري)، ثم أعلن بالبراءة جملة: (ياعائشة، أما والله لقد برأكِ الله). ثم تلى الآيات: (إن الذين جاءوا بالافك عصبة).
أحلى من الأمن أتى بعد الفرى.....فاخضر منها يابس الأعوادِ
والأقحوان بدى بضاحك نَوْره......والخَيزُرانُ بخُوطه الميَّادِ
وعاد إليها خِصبها وضياؤها.....وفارقها إمحالها وسَقامُها
كأرض سقتها بعد جدب سحائبُ....فأمْرَعَ منها روضها والفَدافِدُ
(قومي إلى رسول الله فاحمديه ياعائشة. قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي). بحمد الله لا بحمد أحد.
لك الحمد ياربي على كل نعمة.....ومن جملة الإنعام قولي لك الحمدُ
واقتضت حكمة الله معشر الإخوة، أن يكون الوحي في براءة الصديقة قرآنا يتلى، إذ لو كان رُأيا كما كانت تتوقع عائشة لبقي للمنافقين أن يقولوا إن رسول الله قال ذالك استنقاذا لبيته الكريم وبيت صديقه الحميم، فكان نزول الآيات إحقاقًا للحق، وإزهاقا للباطل، وقطعا للألسنة الخبيثة، وحسما للفرية العظيمة.
فبُرِّئت بذالك الصديقة.....كما هي البراء في الحقيقة
وخرجت عائشة من محنتها بشهادة رباتية في طُهرها وطيبها لا تمحوها الأيام، ولا تُخلِقُها الأعوام.
زادت مكانتها في قلب خاَتم النبيين، وعلا مقامها في نفوس المؤمنين إلى يوم الدين، وكتب الله لأسرة الصديق الأجر العظيم لصبرهم، ونزلت خمس عشرة آية تتلى إلى قيام الساعة، في تنزيه وتطهير ابنتهم، وتُوُعِّد من وقع فيها باللعن والعذاب من ربهم، وحَكم بكفر من رماها خاصة المسلمين وعامتهم. (لا تحسبوه شرا لكم).
بل كان خيرا وِفق ما نزلت......به من فضل ربي آية غراءُ
رسخت بأسماع الزمان وأكدت....أن ابنة الصديق منه بَراءُ
ما أنزل الرحمن من عليائه....نفيًا لما قد أرجف السفهاءُ
إلا وعائشُ للحرائر أسوة.....ما أنجبت نِدًّا لها حواءُ
وهكذا معشر الإخوة:
"لكل عصر جُعْلانه"، فكما تولى رأس النفاق الطعن في عرضها وهي جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، هاهو الطعن يتجدد من زنادقة العصر وهي موسدة في قبرها، وذا دليل على عظمتها ووهن وجبن وخَوَرِ خصومها، ونقول بقولها لما تناول الأقزام في حياتها أبا بكر وعمر رضي الله عنهما: (وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر).
ليس الضياء يُقاسُ بالظلماء.
إن يكن للعفاف في الناس أم ......فهي رغم الأوباش أم العفاف
برَّء الله عِرضها في كتابٍ.....لامست آيُه أديم الشغافِ

عائشة ووداع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يال عائشة!
يال عائشة وهي تودع حبيبا ما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، رأت رضي الله عنها في منامها أنه سقط في حُجرتها ثلاث أقمار، وأخبرت أبا بكر فقال: (إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك ثلاثةٌ هم خير أهل الأرض). وبُدئ الوجع برسول الله، وأخذ يسأل: (أين أنا غدًا) حِرصا على بيت عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث أحب، فنالت شرف خِدمته في لحظاته الأخيرة.
وبيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وفي يومها، قد أسندته إلى صدرها بالود والحب المتين، دخل أخوها والسواك بيده، فرأته ينظر إليه، قالت: (فقلت آخذه لك؟ فأشار أن نعم. أليِّنه لك؟ فأشار أن نعم) قالت: (فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه فاسْتَنَّ به كأحسنِ ما رأيته مستنا قط) وظلت تحمد الله الذي جمع بين ريقها وريقه في آخر يوم له، حالها:
أي رسول الله:
فلو ندَّاه ريقك وهو شهْدٌ.....ولاقى ثغر مخلوق سِواك
لقال على البديهة هل سمعتم ....خلاي الشهد تُدعى ياأراكَ
ياحبذا نفحة مرت بفيك لنا.....ورَاكَةٌ غُمست فيها ثناياكَ
قالت: (وجعلت يُدخل يديه في رَكوة ماء ويمسح بها وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. ثم رفع بصره إلى السماء، وجعل يقول: اللهم في الرفيق الأعلى. فعلمت أنه لا يختارنا).
قد كنت أهوى أن أُشاطره الرَّدى.....لكن أراد الله خير مرادِي
أعْزِزْ علَيَّ بأن يُفارق ناظري......لمعان ذاك الكوكب الوقادِ
ومالت يده.
من فوق صدر الأم فاضت نفسه في الخالدي، قالت: (فلم أجد ريحا كانت أطيب من ريح نفسه حين خرجت منه). وقامت كئيبًا ليس في وجهها....دم من الحزن تذري عَبْرةً تتحدر
مصائب لو وقعن على......جبالٍ لهدمت الجبال الراسيات
القلوب فزعة، والنفوس مُروَّعة، والعقول حيْرَى ذاهبة.
لوَاعجٌ أفصحت عنها الدموع وقد.....كادت تُجَمْجِمها الأحشاء والضِّلعُ
ولا خطب من هذا أمرُّ وأفدح......وما عذر عين لا تجود وتسفحُ
فمن كان قبل اليوم يستقبح البكا.....فقد حسن اليوم الذي كان يَقْبُحُ
وعائشة الثابة يال عائشة:
فصدرها بشواظ الحزن موقودُ، تنسى الخطوب ولا تنسى غداة حدى به الحِمامُ، وركن القلب مهدودُ.
الموقف عصيب، طاشت فيه أحلام عمالقة الرجال، وثبَّتها الكبير المتعال، كما ثبت الله الناس بأبيها خير الرجال، ودُفن صلى الله عليه وسلم في المكان الذي تُوفي فيه، حينها قال أبو بكر: (هذا خير أقمارك ياعائشة). وأضحت حجرة عائشة بما حوته من جسده الطاهر، أفضل بقعة على وجه الأرض، بينها وبين منبره روضة من رياض الجنة.
فطوبى للذي دفنوه فيها.
وبعد سنتين لقي الصديق ربه، بعد أن ثبت الله به الدين، ودُفن في حجرتها ليكون القمر الثاني بعد سيد المرسلين، وبعد مدة يستأذن الشهيد عمر أن يدفن مع صاحبيه فأذنت له وآثرته به، فاجتمع في تلك الحجرة ثلاثة هم خير أهل الأرض أجمعين.
فمن قاس الملوك بهم لجهل.....كمن قاس النجوم إلى بَراحِ
أُولاكَ فخري، فمن يأتي بمثلهمُ؟.....في منزل هابطٍ او ظاهرٍ ضاحِ
إن يكن للثبات في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الثباتِ

عبادة عائشة ما عبادتها!
ما إن تُرى إلا تكبر أو تُعَلِّمُ أو ترتل سورة أو تسجدُ، إنها صورة حية مصغرة لعبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُداوم على العبادة عامة، ولا تدع قيام الليل خاصة.
روت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله) ثم قالت: (ولقد كنت أصليها على عهد رسول الله، والله لو أن أبي نُشر من قبره فنهاني عنها ما تركتها).
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: (لكن أفضل الجهاد، حج مبرور). قالت: (لا أدع الحج بعدما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فإني ما حييت على هُداه....وإني بالمغيب له نصيرُ
كانت إذا عملت عملا أثبتته أُسوة برسول الله، الذي قالت عنه: (كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإذا حَلَّت الهداية قلبًا.....نشطت للعبادة الأعضاء
علت عباد ذي الأرضين طرًّا....كما علت "الصوى" شُم الجبال

تواضع عائشة ما تواضعها!
كَعَرف الطيب فاح من الشمالِ.
إنه تواضع آل بيت النبوة، انكسار لرب البرية، مع نفس كريمة أبية.
وكذا الشريف إذا تناهى في العُلى....عَدَّ التكبر أوضع الأفعالِ
تقول في عظيم تواضع لله، يوم برأها الله: (والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله رُأيا يبرؤني بها الله).
لأن كريم الأصل كالغصن كلما....تَحَمَّل من خير تواضع وانحنى
وفي الصحيح أنها أوصت عبد الله بن الزبير: (لا تدفني مع رسول الله، وادفني مع صواحبي في البقيع، لا أُزكى به أبدًا).
كذا مُثْمر الأغصان يدنو من الثرا.....وعاطِلُه يبغي بهامته الشِّعرى
إن يكن للوقار في الناس أم....فهي رغم الأوباش أم الوقار

عائشة والكرم والجود والسخا ما عائشة!
أسخى الكرائمِ كفها سحَّاءُ، تُعطي بلا وجلٍ ولا ينتابها عند العطاء تردد وجفاءُ، ثقةً بأن الله جل جلاله هو خير من يُرجى لديه جزاءُ.
كانت مثلا في الجود والزهد، لا يثبت لها مال في يد.
لا يألف الدرهم المضروب راحته.....لكن يمر عليها وهو منطلقُ
كانت خالية القلب عما في يدها، فكبف بما خلت منه يدها؟. أعرضت عن الدنيا وأقبلت على الله والدار الآخرة، فهي كما وُصفت للدنيا قالية، وعن شرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية.
ما تأخرت عن بذلٍ أبدًا.....وما أمسكت عن معروف يدًا
يقول عروة: (ولقد رأيتها تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع جَيْب دِرعها).
فكات ترى المعروف خير الغنائمِ....وهَمُّ بني الدنيا وغالب سعيهم
لجمع المواشي شائها والأباقرِ
ثبتت على الحياة التي عاشتها مع رسول الله، فلم تغير شيئا منها.
استضافها عروة يوما وبالغ في إكرامها، فجعل يرفع قصعة ويضع أخرى، ويقرب طعاما ويرفع آخر، فحولت وجهها إلى الحائط واندفعت تبكي. فقال لها عروة: (كدرت علينا أي أماه. فقالت: -وهي تتخيل حياة رسول الله- والذي بعث محمدا بالحق، ما رأى المناخل مذ بعثه الله، وما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبضه الله).
ولن أنساه لا والله حتى......أُوسَّد في الثرا بعد انتقالي
فاستعبر الجميع، وتركوا الطعام بحاله.
وأهدى لها معاوة ثيابا وورِقا، فقلبتها ثم بكت وقالت: (لكن رسول الله ما كان يجد هذا). ثم تصدقت بها ولم تدخر شيئا له، وحالها:
لا لذةٌ ليَ في غير الجميل ولا.....في غير أودية المعروف أفراحي
إنها أكرم أهل زمانها، تجمع الشيئ إلى الشيئ ثم تَقسِمه، بعث لها معاوة بمائة ألف درهم، فما أمست حتى فرقتها، وبعث لها ابن الزبير بمثلها، فجعلت تقسمها وهي صائمة ونسيت نفسها.
فشاركها في مالها كلُّ مُمْلِقٍ.....وما إن لها في قدرها من مشارك
وتؤثر غيرها بالزاد جودًا.....وتقنع في المعيشة بالرماقِ
ما أكثر ما تصدقت بالرغيف والتمرة، وتفطر على الماء.
لم تُبق يم صيامها شيئا به....تقتات حين يُخيِّم الإمساءُ
كانت صائمة ذات يوم وجاء سائل فقالت للجارية: (أعطي السائل. قالت: ليس عندنا سوى قرص شعير تفطرين عليه. قالت: ادفعيه إليه ويرزق الله). ذهبت بريرة متثاقلة وأعطته، وجاء وقت الإفطار وأفطرت على الماء وقامت تصلي المغرب، ولم تفرغ من صلاتها حتى أتى آتٍ بشاة وكفنها من خبز وغيره. (ما هذا يابريرة؟ قالت أهداه رجل والله ما رأيته قبل اليوم يُهدي لنا شيئا قط. قالت: كلي يابريرة! هذا خير من قرصك). والله لا يكمل إيمان عبد حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وذا الكَلِمُ الذي إن كان حدٌّ.....لغايات اليقين فذاك حده
تدخل عليها سائلة معها ابنتاها فأعطتها ثلاث تمرات ولعلها لم تجد سواها.
هذا هو الغُنْمُ:
لا الدنيا وما رجحت......به الموازين فيها والمكايلُ
إذا لم تجد شيئا تتصدق به باعت بعض ما تملك لتتصدق به.
بذلت جميع عطائها.....وتخيرت بصنيعها أن يشبع الفقراءُ
حتى وإن جاعت وأمسى غيرها....في خير حال واعتراه رخاءُ
كانت عظيمة العناية بالأرقاء والأيتام والموالي، اشترت بريرة وأعتقتها، وأعتقت في كفارة يمين أربعين رقبة، وعندها جارية قيل إنها من ولد إسماعيل فأعتقتها، وقامت بتربية ابن الزبير، وبنات محمد بن أبي بكر وبعض جوار الأنصار.
إلى حِجرها يأوي اليتامى كما.....أوى إلى حرم الله الحمام أَوَالفَ
فأخرج الله من تحت يدها عباقرة كانوا على دين الله أُمناء حفظة: كمسروق وعَمرة، والقاسم وعروة.
مناقبٌ لا مرور الدهر يُخْلِقُها.....ولا يُخاف على محوٍ لها ماحِ
إنها الصديقة بنت الصديق، الكريمة بنت الكريم. قد عُوِّدت بسط الأكف صغيرة من والد لم تشهد الغبراء كسخائه بعد النبي محمد مهما تنافس في النَّدى الكرماءُ.
حتى غدى خلقا لها وسجية....تَرْقى بها الصديقة العصماءُ
فهذا النَّوْر من تلك الغّوَادِ.....وهذا المهر من ذاك الجوادِ
وأختها أسماء ذات النطاقين، لا تدخر شيئا لغد.
وخاتمة المسك ومسك الختام ودرة الدرر، زوجها خير البشر، أجود بالخير من الريح المرسلة.
كأن أيدِيَهم في الناس ما خُلقت.....إلا لبذل الأياد والعطياتِ
آثارهم تنبي عن الأخبارِ
وكذا الفروع تطول وهي شبيهةٌ.....بالأصل في ورق وفي أثمارِ
إن يكن للسخاء في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم السخاء

عائشة عند أكابر الصحابة والتابعين ما عائشة!
هي البدر يشرق للمستنير.....هي البحر يزخر للواردِ
لقد كانت محلَّ ثناء وتقدير أكابر صحابة رسول الله والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
عمر يزيد فيما فرض لها ألفين، ويقول: (إنها حبيبة رسول الله).
وعلي مع ما وقع بينهما يُثني عليها ويقول: (إنها خليلة رسول الله).
وعمار يقول لرجل نال منها: (اغرب مقبوحا! أتؤذي حبيبة رسول الله؟).
وأسيد بن حضير يقول لها: (جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك فيه مخرجا وجعل فيه للمسلمين بركة).
وكان مسروق إذا حدث عنها قال: (حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات).
والناس في خيرٍ وفي ضده.....هم شهداء الله في أرضه

عائشة وعثمان ما عائشة وعثمان!
نفوس أخصبت حبا وأدنت ....إلى الدنيا، جَنًا عذب المذاقِ
عرف عثمان لها فضلها ومكانتها وحاجة الناس لعلمها فاعتنى بها وبأخواتها، وكانت أعرفَ الناس بمنزلة عثمان، فانفردت برواية بعض ما ورد في مناقب عثمان، فهي راوية أنها رأت رسول الله يدعو لعثمان رافعًا يديه، وهي راوية قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة).
ولما سمعت من ينال منه غضبت غضبا شديدا، وقالت: (لقد زوجه رسول الله ابنتيه، وكان كاتبه، وما كان الله لينزل عبدا من نبيه بتلك المنزلة إلا وهو كريم عليه).
إن أنكَرَتْ غُلف البصائر قدره.....فالنور دَيْجُورٌ بِمُقلة أغلفَ

عائشة وفاطمة ما عائشة وفاطمة!
رابطة متينة، وصلة قوية، على أكمل ما ترضاه السَّجيَّة البشرية.
لقد جمع الإيمان بين قلوبهم.....كما جُمعت في الراحَتَيْن الأصابعُ
لقد كانتا شريكتين في قلب واحد، هو قلب سيد ولد ابن آدم أجمعين، لكنها شركة بين كريمتين.
لن يبلغ المدح في تَقْريض مجدهما.....مداه حتى كأن المادح الهادي
والله يعلم والأصحاب أن لهما.....عند الفَخَار لسان غيرُ لجْلاجِ
هذه عائشة رضي الله عنها تقول: (ما رأيت أحدا أحسن من فاطمة غير أبيها).
وسئلت: (من أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟: قالت فاطمة).
وقالت: (ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة).
وهي التي قالت: (أقبلت فاطمة تمشي، ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وأجلسها عن يمينه).
وهي راوية حديث فضل أهل البيت، الذي يُعتبر من أعظم مناقب فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين. يوم أدخلهم رسول الله في مُرطه المرحل ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وهي راوية حديث المُسَارَّة: (يافاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة). هذا يجري في أواخر حياة فاطمة، مما يدل على علاقة وطيدة عظيمة بعائشة، وحال عائشة:
إن المودة في قُرْباكمُ لغنًى.....لا يستميل فؤادي عنه تمويلُ
وإني وإياكِ كعين وأختها.....وإني وإياك ككفٍّ ومِعصمِ
وحال فاطمة:
لأنت من دون هذا الخلق كلِّهمُ......أحق فينا وأولى بالموالات

عائشة وعلي ما عائشة وعلي!
رابطة شمَّاء، (أصلها ثابت وفرعها في السماء)، إنها علاقة الابن بأمه، فهو أعرف الناس بمنزلتها عند رسول الله، وقد قال على المنبر: (أشهد بالله إنها لزوجة رسول الله في الدنيا والآخرة).
وعرفت له فضله ومكانته من رسول الله، وقَرابته ومصاهرته وسابقته.
وهي راوية حديث المِرط الذي هو من أعظم مناقبه.
ولما سئلت عنه قالت: (ما رأيت رجلا كان أحب لرسول الله منه، ولا امرأة كانت أحب إلى رسول من امرأته).
تُحِيلُ إليه بعض المسائل وتقول: (إنه أعلم بها مني).
وكانت تنصح ببيعته، جاءها الأحنف بعد مقتل عثمان رضي الله عنها فقال: (بمن تأمريني. قالت: بعلي).
فهو بتبجيلٍ وتعظيم حَرِي....من رامه بالذمِّ فهو المفتري
أما مسيرها إليه فما كان بقصد القتال، بل للإصلاح بين الناس، والأمر بالإصلاح مخاطب به الذكر والأنثى وجميع الناس: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس). ولذا قال الزبير لها لما أرادت الرجوع: (عسى الله أن يصلح بك بين الناس). ولم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع الإصلاح، إذ قام السبئيون الثائرون لما رأوا أن الصلح ليس في صالحهم وأن الدائرة تدور عليهم بإنشاب الحرب سرًّا، إذ غدوا في الغَلَسِ فوضعوا السلاح في الفريقين. حاول علي وعائشة تهدئة ما حدث ولكن الأمر أفلت من أيديهم. خرجت عائشة لميدان القتال لإيقافه، فحدث خلاف ما أرادت، إذ حاول السبئية رميها فاستبسل حول الجمل أصحابها، وحمي القتال عندها وحدث ما حدث، وكان قدَرًا مقدورًا. ولقد ندمت على مسيرها ندامة كلية، على أنها ما فعلت ذالك إلا قاصدة للخير متأولة، فكانت إذا قرأت: (وقرن في بيوتكن) بكت حتى تبلّ دموعها خمارَها، وندم علي فقال لابنه الحسن: (ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة)، وكان يقول: (اللهم ليس هذا أردت). وبعد ما حدث، جاء إليها فسلَّم عليها، ولعله ذكر ما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند وحسنه ابن حجر: (إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. فقال: أنا؟ قال: نعم. قال: فأنا أشقاهم يارسول الله! قال: لا، ولكن إذا كان ذاك فارددها إلى مأمنها) وقد فعل رضي الله عنه، فجهزها بكل شيئ ينبغي لها، وأخرج أربعين من نساء البصرة معها، وقال لأخيها محمد: (تجهز فبلغها)، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاء حتى وقف لها وودعها، وعادت إلى المدينة بَرَّةً تقية مجتهدة مثابة فيما تأولت، مأجورة فيما فعلت كما قال ابن العربي رضي الله عنها وعن علي.
وقد ندم عامة السابقين على ما كان من قتال وقع بغير اختيارهم، ومع ذا فالله قد أوجب لهم الرضوان والجنة، ولقد عفا عنهم وهو يعلم ما سيكون منهم.
فالله يرضى عنهمُ وعنا....تفضُّلا وكَرما ومنًّا

أم العفاف والحجاب ما أم العفاف!
تغيب الشمس مهما قد تعالت.....وليس لشمس عِفتها أُفول
الحجاب عندها كالصلاة، (ويدنين) و(فاسألوهن) تحدوها من كتاب الله، حالها وقالُها: (سمعا وطاعة لله).
قد كان لي حيث لا جفْنٌ لناظره......حفظًا وصونا ولا تَحمي الظُّبى القرُبُ
لما سمعت صوت صفوان وهو يسترجع كما في الصحيح، خمرت وجهها بجلبابها.
وإذا حاذت الركبان وهي محرمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سدلت جلبابها على وجهها.
وكانت تطوف بالبيت كما في الصحيح حَجرةً من الرجال لا تخالطهم.
ولما قالت مولاة لها: (قد طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا. قالت: لا آجرك الله! تدافعين الرجال، ألا كبرتِ ومررتِ).
تمد عفافها شرقا وغربا....وتبسطه شمالا أو جنوبا
ومن دقائق ورعها في هذا الباب، ما أخرج الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين، قالت: (كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله وأبو بكر واضعة ثوبي، وأقول إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر والله ما دخلت إلا وثيابي مشدودة علي حياءً من عمر).
كَلِمٌ يعذب في سمعٍ وفم......أحلى من الماذيِّ في الشاربِ
فما شَغِفٌ بآيات المثاني.....كمفتون برنات المثاني
إن يكن للعفاف في الناس أم.....فهي رغم الأوخاش أم العفاف

رحيل أم المؤمنين
ألا لا خالدٌ فوق الترابِ
وأرواح الورى هدف لموتٍ.....يسدد نحوها حَشْوَ الجِعابِ
فما يَثْنيه عن بطل سِلاحٌ....ولا يثنيه خَلْخالُ الكِعابِ
ولا من عيشهم إِقِطُ وسمنٌ.....ولا من قوتهم مَكْنُ الظِّبابِ
ووعد الله ينجزُه وخيرٌ....لأرباب التقى حسن المئاب
في رمضان سنة وخمسين أو ثمان، وقد بلغت من العمر بضعا وستين، مرضت أم المؤمنين، وكانت إذا سئلت عن حالها قالت: (صالحة والحمد لله رب العالمين).
ولما اشتد عليها المرض استأذن عليها ابن عباس، فأذنت له بعد مُداولة، فدخل وسلم وقال: (كيف أنت يا أماه؟ قالت: بخير إن اتقيته. قال: فأنت بخير إن شاء الله). ثم قال ما مظمونه: (أبشري أم المؤمنين، تقدمين على فَرَطِ صدقٍ على رسول الله وعلى أبي بكر). وشرع في ذكر فضائلها: (كنتِ أحب أزواج رسول الله إليه ولم يكن يحب إلا طيبا، وكنت وكنت وكنت والله إنك لمُباركة. فقالت متناسية كل فضائلها: دعني من هذا يابن عباس! فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نَسيًا منسيّا).
وفي الليلة السابعة عشر من رمضان بعد الوتر، أفلت خير شمعة أنذاك من شموع المدينة، وعمَّ الحزن كل بيتٍ في المدينة.
لا تسألوا كم مُقلة.......غَرقت وكم دمع أريق؟
سمعت أم سلمة الصارخ، فسألت فقيل: (عائشة قضت)، فبكت وقالت: (يرحمها الله، والذي نفسي بيده، لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أباها). حالها:
قلبي لفقد التي عمَّت مصيبتها....يُكْوى ويُشْوى بحر الجمر والنارِ
لهف قلبٍ بات لا يرجو لقاءك.....إلا أن يرى الطيْفَ منامه
فادخلي في سلف قمتِ على.....هديه الحق وأحسنت القيامَ
ولم تكد تُرى ليلة كانت أكثر أناسا من تلك الليلة.
لا تمسك الدمع من حزن عيونهمُ.....إلا كما يُمسك الماءَ الغرابيلُ
صلى عليها أبو هريرة، وفي البقيع كما أوصت مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسَّدوها.
وأوفدوها على مولًى تواجهها .....منه الكرامة والرضوان والجودُ
واشتد وجْد المسلمين عليها، وعظُمت المصيبة بموتها، وحزن عليها من كانت أمه رضي الله عنها.
والشمس لا يَقْدُر الرائي فضيلتها......إلا إذا غشيت أنوارها السود
قال مسروق رحمه الله: (والله لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين).
ولا لوم في سفْحِ الفتى دمع عينه......إذا أصبحت أحبابُه في الصفائحِ
فحب الأم شِنْشِنتي ودابي:
جزاها الله عنا كل خيرٍ.....وأولاها الجزيل من الثواب
وأسكنها بفردوس الجنانِ.....على سررٍ ومبثوث الزرابي
وأدخلنا برفقتها جِنانا.....وسكَّن روعنا يوم الحسابِ
هذه أمنا عائشة أم المؤمنين، يا معشر المؤمنين.
شهد الله على عفتها، وعلى الطهر وحسن الخلقِ، من أحبها كان حرِيًّا أن يكون حبيبا إلى الله ورسوله، ومن رماها وأبغضها كان حريا أن يكون بغيضا إلى الله ورسوله.
منارة شمَّا، وسيرة مُثلى.
مناقبها عُظمى تلوح لمبصرٍ.....كنار القِرى تعلو رؤوس المعالِمِ
وتُسمِع من ألقى إلى الحق سمعه.....ولكنه لا سمع للمتصاممِ
كل الفصاحة عِيٌّ في مناقبها....إذا تفكرتُ والتكثير تقليلُ
في طهرها، في دينها، في عقلها.....في فقهها تتحير الأفكارُ
كيف الثناء وكيف لي ببلوغه....وكتاب رب العرش فيه ثناءُ
قد زُكِّيت أم العفاف بآيه.....أيكون بعدُ لغيره إصغاءُ
لكنه حق أردت قضاءه.....لأبَرِّ أمٍّ والحقوق قضاءُ
أحببتها حب عيني أختها.....ويدي يدي ولِي في مزيدٍ منهما أرَبُ
فحبي لابنة الصديق دينٌ.....وحب الغير رأي بنات غيري
فلا ذات الخلاخل تَيَّمتني.....ولا جاراتها أمُّ الربابِ
فيارب ياذا الجود والمن والعطا.....بيض بذا وجهي ووجه أحبتي
إذا مُيِّزت بيض الوجوه وسودها.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
إن الحقيقة وضحٌ منهاجُها.....ليس الجبال بممكنٍ إزعاجُها
عائشة أمنا أم المؤمنين، شمس في كل بيت، ذِكْرٌ حسن هلى كل لسان، مِلْئُ السمع والبصر، لا يغيب فضلها عن سمْع، ومُفردها جَمْع.
وليس لها في كل شرقٍ ومغربٍ....نظيرٌ بنو العليا على ذاك مُطبقة
لن يضيرها إرجاف المرجفين، وقد برأها الله وزكاها في كتابه المبين، وأوباش حمقى من يشْغبون، ويظنون أنهم لنور الشمس يحجبون.
في سورة النور، نور وبرهان، وبلاء وفرقان، وفضح لذي البهتان.
من كان من حمار أهله أضل.....وهو أحط منه عقلا وأقل
فكلما نيل من أم المؤمنين، علم الناس من فضلها ما كانوا يجهلون، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
ما غض منها الحاقدون بقولهم.....هل غَضَّ من بحرٍ نقِيقُ ضفادعِ
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
ما السُّهى مثل الشموس وما.....كلُّ ماءٍ مثل صداءِ
ما أحب عائشة إلا مؤمن، وما أبغضها إلا منافق.
هل يَصْدقُ في محبة رسول الله من يُبغض أحب النساء إليه، ويسبها ويلعنها ويرميها بما الله منه برأها؟ هل يصدق في محبة فاطمة وآل البيت، من يلعن خليلة رسول الله ويحتفل بوفاتها؟ وهي التي لم يزل رسول الله يلتمس يومها حتى مات على صدرها ودُفن في بيتها.
كذبوا لعَمرُ الله فيما يدَّعون.....وقد فازوا بكل خنًا وعار
فهم العدو المُستبد المجرمُ...وجموعهم سبئية تتعلقمُ
يتذبْذبون عمالةً ونذالةً....فلكم حَمَوا ظهر العدوِّ وأبرموا
الدين زور والمحارم متعةٌ.....والقوم غُدْرٌ والمعممُ أرقَمُ
أولئك هم والله دون البهائمِ.....صِغار النُّهى لكن كبارُ العمائمِ
يُغَطُّون مَيْنًا بالعمائم لُؤمهم......وكيف يُغَطِّي اللؤمَ لَيُّ العمائمِ
(قاتلهم الله أنى يوفكون).
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
أمنا طُهر شنشدوا نغمه، هي نبْراسٌ من الشمس فهل يحجب الشمس ضباب العَتَمة.
أم المؤمنين لا تحتاج لدفاع أحد بعدما دافع عنها رب العالمين، ولن يضيرها إفك المرجفين والحاقدين، وقد أحبها خير خلق الله أجمعين، وليست أولَ من رمي من الصالحين، فقد رُمي قبلها أولياء ومتقون. قيل عن يوسف: (ما جزاء من اراد بأهلك سوءًا الا أن يسجن أو عذاب اليم)، وعن مريم: (لقد جئت شيئًا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا). وبرأهم الله جميعًا، برَّء يوسف على لسان صبي، ومريم على لسان ابنها عيسى النبي، وهو صبي، ولما رُميت عائشة ما رضي الله لها ببراءة صبي ولا نبي، حتى برأها بكلامه الخالد في القرآن العظيم.
منزلة ما بعدها منزلة، أشهى إلى القلب من العافية.
ياأبناء الصديقة:
لن تكون الأذناب يوما رؤوسا، (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يالونكم خبالا).
المنافقون هم العدو، يولدون أذْنابًا، وضربٌ من العبث والخيانة جعْلهم رؤوسًا.
لا تقل قد بُدِّلت أحوالهم..... من رأى الحيات قد صارت حَمامًا
وجهادهم كما قال ابن القيم أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواصِّ الأمة وورثة الأنبياء، والقائمون به والمعينون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا، فهم الأعلون قدرًا.
المنافقون لئام وأنذال، ولا يُكرن اللئام ولا يُدارى الأنذال، ومن يداريهم فذا في خبال، وطامعٌ في ما غدا كالمحال.
طمعت في كلبٍ فداريْتَه....والكلب من يطمع في كلبِ
إذا فسدت يدٌ قُطعت......ليسلم سائر البدنِ
وإن كويت فأنضج غيْر مُتَّئِدٍ.....لا نفع للكيِّ إلا بعد إنضاجِ
يا أبناء الصديقة الشماء:
إذا تُركت ثَعالِ الشرِّ تعثوا......كما شاءت وكان لها قرارُ
فلن تجري الرياح بما اشتهينا.....ولن يجري بأمتنا قطارُ
بلادي جنةٌ لا حظَّ فيها......لمن عَقُّوا أمومتها وحاروا
يا ابنت خديجة وفاطمة وأسماء وعائشة:
في زمانٍ قيل للأنثى اكسري.....كل قيد وعليه التهبي
في زمان قيل للأنثى اخرجي!
لم يعد يعنيك من قرن.....ومن لا تبرجن حزام الأدبِ
أسمعيني يا بنية:
أسْمِعــيني يا أُخــيــــَّة ......صرخـةَ النفــس الأبيـِّهْ
أسمِعــيني مـنكِ لا لن.....أرتضي عيــش الدَّنيَّــهْ
لؤلؤ القــاع أنا لســــــ.....ـتُ على الشــطِّ رمـيّـهْ
ما شجاني ناعــقٌ لـم..... يُبقِ للطهْــر بقيـــّــــــهْ
يقتلُ الطهـْرَ جِهــــاراً.....ويرى الســتر قضــيـّهْ
أسْمعيني لسـتُ أرضـى......العيشَ عـيشَ الهمجـيَّهْ
لا أبالي بالدَّعــــاوى..... والأباطــــيل الدعـــيّـــهْ
شرفُ العرض حــمــاه......الشـرعُ أن يرمـى بنيــَّهْ
صـانه المُخــتارُ يوماً......حسبكم هـذي صفــيَّهْ
أنا أعلى أنا أتقى.....لست بالدين غبيـــــة
أنا بالإيمان شما.....بدمي نار الحميـــــة
قدم تدعس أزهار النَّقى....في رُبانا كُسرت من قدمي
أي أبناء معلمة الرجال:
مفتاحُ العلم السؤال.
إن جهلت الصواب فاسأل عليمًا.....لبى من لا يزل يقفو اللبيب
يا أبناء منارة السخاء:
طوبى لمن جارت الأمور الصالحات على يديه،كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهله في الآخرة.
لا تزْهدنْ في اصطناع العرف من أحدٍ.....إن امرءا يُحرم المعروف محرومُ
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
جميعا ولا تفرقوا.
إن القِداح إذا جُمعن فرامها......بالكسر ذو حنقٍ وبطش أيِّدِ
عزّتْ فلم تُكسر وإن هي.....بُددت فالوهن والتكسير للمُتَبَدِّدِ
جمع كلمة المسلمين واجب يسعى له كل غيور على الدين، لكن على الحق لا على الباطل يكون اجتماع المسلمين، وعندها:
فدار كل مسلمٍ دارُنا.....من مغرب الأرض إلى المشرقِ
وإنما فارانُ من مقدسٍ.....وإنما صنعاء من جِلَّقِ
وإنما السودان من مصرنا.....وإنما درعا من المَندقِ
وإنما بنغاز من تونس.....وإنما بنياسُ من طُبرقِ
رغم العدا لم نزل في ارتقا.....ودرعنا المنسوج لم يَخْلقِ
أما من يقع في أمنا، فما نحن منه وما هو منا. والاجتماع معه مرهون، باجتماع الظبِّ والنون.
وعلى ذا ما نلتقي قط حتى......يتلاق المضاف والتنوينُ
فأفيقي أمتي ثم اذكري......صورة ابن العلقمي الأشرِ
واذكري بغداد كيف احترقت....حين كانت هجمات التتري
واسألي بغداد يوم احترقت.....من ظهير هجمات ابريمري
والشام والبحرين شاهدة.....والعين قد أغنت عن الخبرِ
قَصص الواقع تعطينا دليلا....أنهم للغدر يُلقون الأَزِمَّة
لا يراعون لنا إلا وذمة، والنذير من كتاب الله: (فاحذرهم قاتلهم الله).
يا ابن الصديقة الشماء:
كم خَمْصَةٍ كان فيها العز آونةً.....وشَبْعَةٍ كان فيها العار والضَّرَعُ
فلا تصبو إلى رِيٍّ ذليلٍ.....إذا ما كان عِزٌّ في أُوَامِ
ليست الدنيا وما يُقسم من.....زهرها إلا سرابا أو جهاما
فازهد بذي الدنيا تكن سيدا....وملكا في وفي الآخرة
يا ابن أم العفاف:
اترك بعدك أثرًا، وذكرًا حسنا، إن السباق عليك اليوم قد وجبا.
كم من طويل العمر بعد وفاته.....بالذكر يُصحب حاضرًا أو بادِي
ما مات من جعل الزمانَ لسانُه....يتلو مناقب عُوَّدًا وبوادِ
وعُمْر الفتى وِعاءٌ....عزيز حين يملأه حُليًا
يا ابن الصديقة:
ذر الخمول ولُذْ بالعز معتصما.....بالله كي تتوقى جِيدك القدمُ
فالشِّيحُ يحطمه دوْس الثعالب إذْ.....لم يعلو هامًا وتنجو الظَّالُ والسَّلمُ
لإان قيل: ألم تسمع مقال الناصح المحكمِ.
الريح تحْطِمُ إن هبت عواصفها.....دَوْح الثمار وينجو الشِّيحُ والرَّتَمُ
فقل في عزة المسلم: تحطيم الريح، ولا دَوْسُ الثعالب
أخو الضَّيْم في الدنيا هو الميت فانعه.....وإن تره يغدو بها ويروح
إذا العذْل النمير حماه ضَيْمٌ.....فجاوزه إلى الملح الأجاج
يا ابن الصديقة:
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).
إذ ضغطت عليك يد البلايا.....بأرزاءٍ يطيش لها المنام
توجه للذي نجى ابن متى.....وقد واراه في الحوت التقامُ
أخيرًا إخوتي:
إنها نفحة عابرة، من سيرة أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وعن من ترضى عنها، وهي والله سيرة باقية خالدة، ستظل مَعْلَمًا يقبس منها أهل الإسلام، وشهابا محرقا لأهل الزيغ والزندقة والفساد.
فخذها وكن عارفا قدرها.....وأثني على الله كل الثنا
البدار البدار أخا الطهر البدار البدار، اهجر النوم في المسير إليها، واجعل الليل بالمسير نهارا، لتكون لك السعادة دارا.
ضاقت الوقفة، ولم تتم الصفقة، ونفذت البضاعة، وكثُرت الإضاعة، واستفرغت وُسعي، ولم أبلغ ما في نفسي. فألقيت عصا التِّسيار، فسيان الإطالة والاختصار، والاسترسال والاقتصار، "ولا تجد يد إلا بما تجد" مثل معروف؛ "وإن لم تكن إبلٌ فمِعزى لمثل هذا مصروف".
كواجد ماءٍ قاصر عن وَضوئه.....فجنَّب طهرًا ناقصا وتيمم
هذا مقام لا الفرزدق ماهر فيه ولا نُظراؤه كالبحتري.
لم تُبْقِ ذكرًا لذي نطقٍ مناقبها....وهل تُضيئ مع الشمس القناديل
دونك المثال الحي، لكل طهر وعفاف وفضيلة يا أُخَي.
اكرع من نميره وكوثره، واقبس من ضوء شمسه ونور قمره، واستروح رياحين نوْرِهِ وزَهره، وتعلَّلْ بسلافة خمره، والزم فناء قصره.
حُطَّ رحالك، واردد جمالك، ألقي العصا في روضه وارفض مسيرك وانتقالك، واحدو في ذالك.
"إن عشتُ عشتُ على هواه وإن أمت.....حبًّا له وصبابة يا حبذا"
ووداعًا ووداعًا وإلى....ملتقًى إن لم يحُلُ من حائل
يا رب:
أسكنا فسيح جنتك.....والنّار نجنا منها برحمتك
واغفر لنا ما كان من ذنوبنا....وزين الإيمان في قلوبنا
يا ناصر الحق في بدرٍ وفي أحد.....وفي حنين غداة الجيشُ قد لان
يا منجيًا نوح في الطوفان من غرقٍ.....يا صادق الوعد لما وعده حانَ
يا رب أيوب يا كشاف كربته......ورب ذي النون إذ ناداك ولهانا
يا جامعًا شمل يعقوب وكم ذرفت.....عيناه فابيضت العينان أحزانا
يا رب يوسف بعد السجن مكنه.....فنال مُلكًا وآباءً وإخوانًا
يا رب موسى وهارون وقد عبرا.....يا ملقمَ البحر فرعون وهامانَ
يا واهبا مريم عيسى بدون أبٍ.....لما اصطفيت قديمًا آل عمران
يسر لنا ربنا ما كان أعيانَ......والتكشف الضر والتصلح لنا شانًا
يا رب جبريل والأملاك قاطبة......يا رب كل تقي بالتقى ازدانَ
أمهلت بالشام حِلما منك ظالمها.....فازداد نُمرودها بغيًا وطغيانا
وليبيا لم تزل يا رب صارخةً.....من بطش طاغوتها جوْرًا وبهتانا
فاقسم بعزك يا جبار شِرذمةً....عاثت بإخواننا فتكًا وعدوانًا
فاقسم بعزك يا جبار شِرذمةً....عاثت بإخواننا فتكًا وعُدوانًا
وامنن على كل مكلوم ووالهةٍ.....بالشام أو ليبيا صبرًا وسُلوانًا
يا من إذا أمره للشيئ كن كان.....يا رب زدنا بضل منك إيمانا
وهب لنا عند الممات حُسنًا.....خاتِمةٍ ورحمةً وأمنًا
ونسأل الله عظيم المنة....أن ينصر الحق بأهل السنة
والحمد لله ختاما وابتدا....ثم الصلاة والسلام سرمدًا
على ختام الأنبياء أجمعين....وآله وصحبه والتابعين
..بالشام أو ليبيا صبرًا وسُلوانًا
يا من إذا أمره للشيئ كن كان.....يا رب زدنا بضل منك إيمانا
وهب لنا عند الممات حُسنًا.....خاتِمةٍ ورحمةً وأمنًا
ونسأل الله عظيم المنة....أن ينصر الحق بأهل السنة
والحمد لله ختاما وابتدا....ثم الصلاة والسلام سرمدًا
على ختام الأنبياء أجمعين....وآله وصحبه والتابعين




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !