يقول مظفر النواب.لا تخافي - بغداد- من حبال مشانقهم، فأنت الطهر وومضة
الفجر فأنت لم تولدين مصادفة في الزمن الخطأ، لاتبك بنيك اذ يرحلون كومضة في الفجر، كنقطة دم، هم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر...... ..
لك الله يا مظفر ..........
هل ثمة ما يستحق كل هذا البكاء في بغداد.. أحلام تذروها الرّياح، زبد نهريها وطواحين ريح وقتلة مأجورون، ودم يومض في الليل، جنائز تسير على أرجل من جنائز. وثمة نوح قلوب يداهمها الوجع والموت. ولا عزاء.. غيوم سوداء تجلل سماءك بغداد.. هو قانون القتل. بغداد لم تصب بقشعريرة لأنها اعتادت أن تفقد بنيها مع كل حقد الغزاة، لكن عزاءها في شمسها التي ما أن تغرب وعلى جبينها الموت، ويقطر من قلبها الدم القاني حتى تنتفض في ميلادها فتاة غضة بضة هاتفة للحياة ناشدة للأمل صائرة الى المجد .. ثلاثون غاز حاصرها ودمرها لكنها انتفظت من رمادها عنقاء ترف بجناحيها سماء من نور.. ولحنا عذبا تشدوه قيثارة صبح في كل صبح جديد ... ..
أحاول حزينا تطويع اللغة، ووضعها في سياقها الموازي للصدمة.. للحدث الجلل.. إننّي مواجه بهذا الاستعصاء، بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية، أو المقاربة لرحيل القمر ودخوله في المحاق.. ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من الفرات محملة بنثار المساءات الدامية ...
ماذا اقول الى الذين حوّلوا العراق إلى مدافن ومداخن.. نهبوا التراب وهتكوا الفجر .. وقطعوا رؤوس النخل ؟.
من أصدر حكم الموت عليك ؟ من نفذ هذا الحكم ، أعيد النظر في مفاهيم كثيرة، أي مشهد يبدو يا بغداد كيف تحولت الى مشهد بدا كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الدّم والدموع هي ذي بغداد إذن. هي ذي عاصمة التاريخ هي ذي بعل دادا وقد حاصرها الليل. عاصمة غدر بها الزمان.
وللعراقي أن يدفع الثمن دما ودموعا وحزنا لكن عليه أن لا يبكي . ولي أنا الواقف على شفا الهاوية أن اصوغ من الكلمات ما أشاء وأحملها بوحي وجنوني واختار من المجازات ما اسد به جوع المعاني كي أدرء الوجع واتخفّف من تأنيب الضمير.. . كافر كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. واشد . كفرا كل من يردد قول جعفر الصادق لاتثوروا على الطغاة ...
أيه يا مدينة الشمس والماء .. يا بعل دادا ... اي زمان مفعم باشراقة غد آتي من رحم حلم لا يزال في بداياته ... أيتها الجليلة .. لا تخافي من كل الذين خدعوك ولا تستسلمي الى سياطهم ولا تسيري في دروب ليلهم
الكون حزين يا بغداد
وها انّي أراهم جميعا أرى أنبيائك وهم في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق.. يبكونك بدموع تتهامى في ندى الصباح عطرا زكيا فلا تجزعي
بغداد ايتها الصابرة.. لا لن تقوى سنابك خيل الغزاة عن تدنيس ترابك الطهور.. بغداد يا من قدر لك ان تكوني مستقرا لهموم الدنيا لا لتكوني أميرة أو رمزا، بل ضجيجا يزعج الضمائر.. يشعل القلوب الباردة.. شرارة خاطفة ارسلها برق أنليل في ليل عاصف فكنت أنت قدرا خطته إرادة غامضة وشاءته غاية لا نقوى على تلمس اسبابها ... يا أخت نيبور وأور و كيش وأدب وأريدو ولارسا وإزين يا اخت كولاب كيف لي أن اعانق هذا التاريخ وأن اسجد على اعتابه واسقى بغيث ينهل من دموعه
..
بغداد.. هل أنت شجرة لا تنمو بغير الدّماء. ولا تتغذى بغير الأشلاء . هل أنت امرأة كعشتار تسكن الرّيح، وتعوي مع ذئاب الفيافي.. هل أنت قمر يطل في ركن قصي ليس فيه ليل ولا هواء .. أنت لست بيوت من تراب وماء تنوح في السر على أمجاد ذاكرة مثخنة بالجراح .. أنت ما أنت إلا رجف استبدّ بالأرض قبيل انبلاج التاريخ ؟ وقلوص حملت أوزار الكون على كاهلها .. حملت اشواق الكون وآماله حملت أحزانه وآلامه .. اي قدر هذا الذي خطك مدينة الأحزان والدموع ؟..
ايه يا مظفر أيها الأبن الضال لأمك بغداد أدعوك .. أدعوك لأن
تعرج على تلك القبور ثم استمع الى حشرجة تلك الصدور بهتافات الرغبة وإعوال الرهبة وتسمع تساقط الرغبات الملحة من تلك الشفاه الذابلة بحرارة الذعر وتوهج الرجاء وانظر الى تلك الدموع المتحدرة في الحس من ماء العين وفي العقل نزيف الدم .. وانظر الى تلك الأيادي المبسوطة ظاهرا بالأمل المبسوط والرجاء المعقود لمعنى الكرامة والشرف الانساني لتهبط تحت أقام الموتى واشلاء الفناء
انظر الى كل ذلك ثم صب الدمع سخيا غزيرا على كرامة التاريخ ومجده وعلى العزة المراقة على حفافي الزمن بلا ثمن يرتجى
ويحكم إن العراقيين كان التاريخ مطيتهم والسحاب مركبهم والسماء غايتهم والمجد بعض صنعتهم امتطوا ثبج الهواء وشقوا حواجز المادة والطبيعة ليتصلوا بغاية الغايات ونهاية النهايات
بغداد أمنا ....
إن انتصار هؤلاء الوحش الهمج هو هزيمة لكل ما يتشدقون به من حضارة وكرامة وإنسانية ونبوة وتسامح ...إن الجبار اذا انتصر إنما ينتصر فيه الحيوان فيتحول الى وحش ..
إن اقبح أنواع الكبرياء والجبروت هما كبرياء وجبروت الجبارين الصاعدين من التراب كيما يصبحوا تيجانا باهظة فوق جميع الهامت ولينظروا بحقد وذعر وتهديد الى التراب الذي نهضوا منه ليتحولوا الى أقسى جلادين ... ما اقبح التراب في احاسيس من خلقوا منه ...وما افضع أخلاق التراب حينما يتحول الى تيجان .. حينما يتحول الى حضارة ومدنية تتحدث بلغة الانسانية والحضارة
لا لن تكوني يا امي... من المقهورين المغلوبين المتألمين .. إنك أنت الرفض والاحتجاج والعدالة والمنطق للزمن وللتاريخ .. إنك الغضب الضاج على المظالم والأخطاء والالام وعلى المذاهب والطغاة وعلى الآلهة والكون ..
أماه بغداد .....
ما ذا فعل هؤلاء الهمج الذين انطلقوا من مغارات الخمول والهوان ليصبحوا دويا وقمما ليصبحوا نشيدا عالميا في أفواه الالام والأحزان ليصبحوا صلاة وتسبيحا كونيا ..؟
ماذا فعلوا بك ؟
اماه بغداد لا تجزعي ...
فالمجد المستحدث المكسوب بالأغتصاب هو اشد فتكا ووحشية وبذاءة وخوفا وقهرا وجنونا وعدوانا وعندما يأتي، يأتي بلا أخلاق أو تقاليد أو حضارة، يأتي بأنيابه التي تقطر دما ووحشية .. هؤلاء الهاربون ببذاءاتهم الهاربون بحقدهم جاؤوك محملين بكل أحقادهم وقسوتهم وجنونهم ...
فلا تجزعي ....
التعليقات (0)