بسم الله؛ فاتحة كل خير وتمام كل نعمة.
وبعد:
يرجع اختيارنا "بلاغة النص النثري" عند ابن قتيبة موضوعا لهذا البحث إلى ندرة إن لم نقل انعدام الدراسات المخصصة لفحص هذا الجانب من تراثه الغني والمتشعب. فإذا كانت الدراسات العامة التي عنيت ببحث إنجازات ابن قتيبة الناقد الأدبي والمفكر الاسلامي وافرة، فإنه لم توجد، في حدود علمنا، دراسة اختصت ببحث تراثه النثري من زاوية بلاغية، حيث لم تتجه همم الدارسين إلى هذا التراث إلا في مناسبات قليلة وعارضة. إذ لم ير نقاد الأدب في نصوص ابن قتيبة النثرية ما يستوجب العناية أو يبعث على الاهتمام، فأسقطوه من حساباتهم النقدية جملة وتفصيلا؛ فلم يذكره زكي مبارك في كتابه "النثر الفني"، ولم يعرج عليه أنيس المقدسي في "تطور الأساليب النثرية"، ولم يشر إليه محمد كرد علي ضمن الناثرين العشرة الذين فحص إنتاجهم في "أمراء البيان" كما لم يعن بنثره شوقي ضيف في "الفن ومذاهبه في النثر العربي"، ولم يعرف بأدبه عبد الله كنون في كتابه "أدب الفقهاء".
لم يلتفت الباحثون إلى دراسة نثر ابن قتيبة فظلت بلاغته النثرية محجوبة عن الدراسات النقدية المعاصرة. وهو اعتبار يجعل الدارس لهذه البلاغة يواجه أسئلة عديدة تكشف عن إشكالات جديرة بالفحص والمدارسة من قبيل:
- كيف تذعن البلاغة لمقتضيات العقيدة؟ وماهي مظاهر هذا الإذعان؟
لقد شكل هذان السؤالان قادحا لبحث الخصوصية البلاغية في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة التي تمثل استراتيجية خطابية لا تنفصل عن النسق الفكري والإيديولوجي الذي صيغت في ضوئه. وهو ما حاولنا في هذا البحث استجلاء بعض مظاهره متوسلين في ذلك بفحص مظاهر خضوع البلاغة لسطوة العقيدة في نصوص ابن قتيبة النثرية المرتهنة إلى مقررات فكر السنة مع التعريج، كلما اقتضى الأمر، على تراث الجاحظ المرتهن بدوره إلى تصورات فكر الاعتزال، اعتقادا منا أن المقارنة بين نصوص الرجلين ستكون مفيدة في إبراز مدى انصياع البلاغة النثرية لسلطان العامل العقدي.
لقد توخينا من هذا البحث الكشف عن الطبيعة البلاغية لأنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة. ولذلك راعينا في تحليلها الفروق النوعية والبلاغية المميزة لنصوص نثرية متغايرة من حيث الأشكال والأنواع والصيغ والأنماط متجنبين تحويل الدراسة إلى جملة من التقنيات الشكلية التي لا تساعد على ضبط مناحي الخصوصية في النصوص والخطابات بقدر ما تعمل على تنميطها. وقد شكلت البلاغة أداة منهجية وإجرائية أسعفتنا في دراسة أنواع مختلفة من الخطاب النثري دراسة بلاغية مكنتنا من سبر خصوصيتها النوعية واستخلاص أبعادها الجمالية والمعرفية في نفس الآن. ونظرا لتعقد الظاهرة المدروسة فقد سعينا إلى الانتفاع بالتصورات المنهجية الحديثة من قبيل نظرية الأجناس وتحليل الخطاب ونظرية الحجاج والأسلوبية والتداوليات وجمالية التلقي ونظرية التواصل، لما وجدنا في تشغيل مفهوماتها وأدواتها الواصفة من فائدة عظيمة يسرت لنا تعميق معرفتنا ببلاغة الخطاب النثري الذي صاغه ابن قتيبة. وقد احتكمنا في هذا الاختيار إلى وعي نقدي من تقاديره النظر إلى التراث العربي موصولا بالمشروع الثقافي المعاصر، بحيث ينصهر في لحظة القراءة الأفق القديم والأفق الحديث. ومن هنا يمكن إدراج الإشكال الذي يخوض فيه هذا البحث ضمن الإشكالات التي تطرحها المناهج النقدية المعاصرة من حيث الانشغال بمجموعة من القضايا الأدبية الحديثة في مقدمتها التفكير في إعادة كتابة تاريخ الأدب العربي، وهو ما يستدعي الانكباب على دراسة الأجناس النثرية القديمة باعتبارها مكونا أساسا من مكونات هذا الأدب الذي نروم إعادة كتابة تاريخه.
لقد كان التصور في البداية يقوم على اعتبار مؤداه أنه لما كانت مسائل العقيدة محور تفكير ابن قتيبة ومجال نظره، فلا بد أن تشيع مبادئها في نصوصه النثرية التي انبنت بلاغتها على أساس حجاجي وإقناعي فرضته الطبيعة الوظيفية لهذا النثر من حيث هو أداة في خدمة رؤية ووسيلة لتحقيق غاية. وقد اقتضى توضيح هذه الفكرة والاستدلال عليها من صلب نصوص ابن قتيبة استدلالا واضحا وكاشفا أن تتوزع الدراسة إلى قسمين اثنين يلتئمان بكيفية تتيح تمحيص الفرضيات التي انطلق منها البحث بكثير من الوضوح العلمي والضبط المنهجي.
خصصنا القسم الأول الموسوم بـ "البلاغة والإيديولوجيا" للنظر في طبيعة العلاقة بين البلاغة والإيديولوجيا من أجل إبراز دور العامل العقدي في توجيه بلاغة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة. وقد استلزم تحقيق هذا المطلب أن يتوزع القسم إلى فصول ثلاثة. الفصل الأول "البلاغة وسياق المؤلف" إلى إبراز مدى ارتباط البلاغة بالخلفية الفكرية والعقدية التي صدر عنها المؤلف من خلال تتبع تربية ابن قتيبة الذهنية باعتبارها سياقا فكريا يساعد على فهم بلاغته النثرية.
شكل الفصل الثاني "المشروع الثقافي" محطة أخرى للوقوف على الملامح العامة التي ميزت مشروع ابن قتيبة الثقافي. وذلك ببحث طبيعته وتعيين مقاصده وإبراز أثر الإيديولوجيا في توجيهه.
أما الفصل الثالث فقد توقف البحث فيه عند "التعارضات البلاغية" التي جلينا بعض أوجهها من خلال تتبع مظاهر السطوة التي فرضتها المقصدية الفكرية والعقدية على مباحث البلاغة كما تجسدت في مدونة سنية تمثلت في تراث ابن قتيبة وأخرى اعتزالية تجلت في تراث الجاحظ.
إذا كان القسم الأول قد شكل إطارا عاما حاولنا أن نثبت فيه أن أفكار ومواقف ابن قتيبة مرتهنة أصلا وفصلا إلى مقررات الفكر السني، فإن الحاجة بدت ماسة إلى تخصيص القسم الثاني لـ "بلاغة الأنواع النثرية" من أجل إبراز أثر هذا الفكر في نثر ابن قتيبة في سعي لضبط مناحي التفاعل والجدل بين المقصدية الإيديولوجية من جهة (القسم الأول) وتجليات البلاغة النثرية من جهة ثانية (القسم الثاني). وقد استلزم تحقيق هذه الغاية اصطفاء نماذج من أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة من أجل إخضاعها للدراسة والتحليل، حيث اخترنا أنواعا نثرية ستة تمثلت في التأليف الموسوعي والمناظرة والخبر والترجمة والخطبة ومقامات الزهاد.
اهتم الفصل الأول بفحص المكونات البلاغية التي جعلت من كتاب "عيون الأخبار" نصا موسوعيا تقوم بلاغته على تعدد الأشكال والأنواع والصيغ والأنماط، حيث شكل مصب أنواع الخطاب المختلفة ونقطة تقاطعها.
انصب الجهد في الفصل الثاني على دراسة المناظرة، كما تجسدت في نص "تأويل مختلف الحديث"، دراسة بلاغية مكنتنا من الكشف عن الاستراتيجيات التي انبنت عليها بلاغة الخطاب الإقناعي في هذا النص الذي خصصه المؤلف للدفاع عن أهل الحديث ضد خصومهم من المعتزلة وأصحاب الرأي.
انشغل الفصل الثالث بالنظر إلى بلاغة الخطاب الخبري عند ابن قتيبة كما تجسد في نصوص حكائية تتصل بشكل مباشر بالسياق الثقافي والعقدي الذي نشأت فيه مما جعلها نصوصا دائرة في فلك التواصل البلاغي الوظيفي.
عني الفصل الرابع بمحاولة استكناه ملامح التواصل البلاغي في تراجم ابن قتيبة. وذلك بتحليل نصوص التراجم تحليلا بلاغيا توخى الكشف عن المقاصد التي وجهت صياغتها والغايات التي حفزت على إنشائها.
اتجهت همتنا في الفصل الخامس إلى إبراز أسس البلاغة الإقناعية في الخطبة بوصفها نوعا حجاجيا غرضه التأثير والإقناع، حيث بدا لنا أن المؤلف يراعي في الخطب المختارة مدى استجابتها للغايات الفكرية والمقاصد العقدية التي صدرت عنها عملية الاختيار.
تناول الفصل السادس "مقامات الزهاد" بوصفها نوعا نثريا تفاعلت فيه زمرة من مكونات التبليغ الخطابي مكنت المؤلف من إرساء تواصل بلاغي فعال ومؤثر. وهو ما يؤكد أن "مقامات الزهاد" التي اختارها ابن قتيبة لا تنقطع عن السياق الفكري والعقدي الذي تحكم في بناء بلاغتها التي تميزت بالفعالية والوظيفية.
لقد التأم قسما البحث وفصوله في بناء منهجي متلاحم من أجل الاستدلال على فكرة أساس مثلت عصب الدراسة مؤداها أن بلاغة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة خاضعة لموجهات السياق الفكري والعقدي الذي انبثقت عنه؛ فهي تسعى إلى توصيل رسائل إلى متلقيه أكثر مما تسعى إلى خلق موضوع جمالي. ولذلك هيمنت فيها الوظيفة التداولية الإقناعية على الوظيفة الأدبية الجمالية.
يمكن للنتائج التي انتهت إليها هذه الدراسة أن تكون منطلقات لأبحاث أخرى تتولى وصف وتفسير التراث النثري العربي من زوايا مختلفة. ذلك أن فحص صلة الأنواع النثرية بالعقيدة يمكن أن يكون أفقا من آفاق الدراسات الثقافية التي ترمي إلى تلمس دور الأنساق الفكرية والعقدية في توجيه أشكال الخطاب المختلفة وبناء بلاغتها على نحو يساعدها في تأدية مقاصدها العامة. كما أن اهتمامنا بوصف وتفسير الأنواع النثرية في ضوء خصائصها النوعية يمكن أن يقود إلى إعادة النظر في مسألة العلاقة بين تجليات الخطاب المختلفة وسياق النوع الذي تنتمي إليه. وربما فتحت دراسة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة في ضوء أوضاع التخاطب وسياق التواصل باب التوسع في تقصي مظاهر البعد التداولي في أنواع الخطاب المختلفة بوصفها عملا تواصليا ينبني على جملة من قواعد التفاعل القولي الذي توجهه مقاصد المتخاطبين. فقد أوضح تحليل أنواع مختلفة من الخطاب النثري عند ابن قتيبة أنها تواصل يراعي مقتضيات السياق التخاطبي الذي نشأ فيه. ولذلك هيمنت عليها الوظيفة التداولية الإنجازية. وهي نتيجة يمكن أن تشكل إطارا مهما للبحث عن القيم التداولية في مختلف أشكال الخطاب وأصنافه بما فيها النصوص الأدبية التي تبدو بعيدة عن الغاية الحجاجية الإقناعية. فيمكن لهذا البحث، إذن، أن يكون منطلقا لتعديل النظرة التي لا تلتفت إلى القيمة الخَطابية في النصوص الأدبية. وربما قاد التعمق في هذه الظاهرة من خلال مجالات خِطابية أخرى أدبية وغير أدبية إلى مزيد من النتائج المتعلقة بإبراز دور السياق وأوضاع التخاطب في إظهار الفرق بين بلاغة السياق التواصلي وبلاغة العبارة معزولة عن سياقها. وبالإضافة إلى ذلك يمكن لاعتناء هذا البحث بإبراز أثر العقيدة السنية في بلاغة ابن قتيبة النثرية أن يفتح المجال أمام التعمق في تقصي مظاهر السطوة التي تفرضها الخلفية الفكرية والمذهبية على بلاغة النصوص والخطابات، فقد كشفت الدراسة البلاغية لنثر ابن قتيبة أن أنواع الخطاب المختلفة لا تنقطع عن السياق الثقافي والعقدي الذي انبثقت عنه.
لقد حاولنا في هذا البحث أن نختبر مدى نجاعة الدراسة البلاغية في الكشف عن جوانب من الخطاب النثري عند ابن قتيبة ظلت محجوبة عن الدراسات النقدية المعاصرة. ونعتقد أن هذا النثر كان في حاجة إلى مثل هذا البحث من أجل إبراز القيم البلاغية والأبعاد الإنسانية والإيديولوجية التي زخر بها .ويقتضي الإنصاف أن نعترف في ختام هذا البحث أننا لم نوف أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة حقها من الوصف والدرس، ولكن حسبنا أننا فتحنا مجال البحث في صلة الأنواع النثرية بقضايا العقيدة من منظور البلاغة النوعية مما أسعفنا في وضع اليد على كثير من ملامح البلاغة النثرية التي جسدتها في تراث ابن قتيبة نصوص متغايرة من حيث خصائصها النوعية واستراتيجياتها الخِطابية. ولعل البحث قد اهتدى إلى وجه الحق فيما رجحه ودافع عنه. وإن كان هناك تقصير فمرده إلى تعجلي وقلة صبري. وإن كان ثمة من فضل فمرجعه إلى الله الذي أستمد منه العون والسداد.
التعليقات (0)