المغترب والعنصرية!
العنصرية هي مشاعر فوقية تنفخ الشخص بفقاعات فكرية جوفاء فيظن نفسه الأفضل، والأرقى، والأحسن، والأكثر تحضرا، والأنقى جينات حتى لو كانت جراثيم تحولت إلى ناتج وراثي فاسد.
العنصرية في كل مكان في العالم، وترتدي أثوابا مختلفة، وقد تكون بيضاء أو سوداء أو صفراء، وقد تكون إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية، ولا مانع من أن تكون سنية أو شيعية أو علوية أو كردية أو تركية أو صربية!
والعنصرية لا تحتاج لتصريح قبل أنْ تتغلل برفق في عقل داعية إسلامي أو مبشر مسيحي أو حاخام يهودي، أو مهراجا هندوسي.
العنصرية لا تظهر في كل الأحوال كسلوك، فقد تنام نوما عميقا لعدة سنوات كنوم الجواسيس، ثم فجأة تنفجر في وجهك من أحب وأقرب الناس إليك: كفيل في الخليج، صاحب عمل في فرنسا، زميل دراسة في جامعة أمريكية، جارك في ساحل العاج الذي كنت تطعمه، وتكسوه، وتنفحه مما أكرمك الله به.
العنصرية حالة من الكراهية تحتاج لفراسة وخبرة وذكاء حتى تلمحها قبل أن تطل شررا من العينين، أو أنفاسا متلاحقة تنتهي بزفرة كأنها بصقة على وجهك، وقد تكون مختفية تحت اللسان فتخرج غير مرئية في لغة تحتمل التأويلين، وهي وجهان لاستعلاء واحد أينما نظرت إليه وجدته يُخرج لك لسانه.
العنصرية قد تأتيك من المتخلف كما تهاجمك من المتحضر، وقد تنتظر سنين عددا حتى يغضب العنصري فيتحول لسانه إلى سكين حاد يهبط عليك ولو كنتما صديقين توأمين لا تنفصلان في النهار خلال العمل أو الدراسة، وفي الليل خلال السهرات والمكالمات الهاتفية.
إذا غضب العنصري منك فلن تعثر في ذاكرته ولو عصرتها عن حكايات جميلة عنك أو ضحكات متراكمة تبهجه إذا تذكرها.
والعنصرى يرى نفسه أعلى منك مقاما وقيمة، أو يراك أسفل قدميه ولو كنت سيدَه، فالعينان لا تقصّان كل شيء، والمشاعر تصيح مدحا، وتهمس هجاءً، فلا تدري أي وجه يبتسم لك، وأي لسان يتحدث معك.
والعنصري يستعين بكل شيء لتزيين وتبرير الكراهية التي تخنق صدره، فيأخذ من الدين ومن القومية ( كما فعلت النازية بفوقيات الجنس الآري)، ويأخذ من المال، فطبقية الأغنياء والفقراء تحدد مسافاتها أصفار اليمين في الحسابات المصرفية، وقد يستعين بالايديولوجية ( كما فعل ماو في الصين، وستالين في الاتحاد السوفيتي).
والعنصري لا يجد صعوبة تُذكر إذا تصفح كل الكتب المقدسة، بل ربما يستعين بالشيطان ليجعل الكلمات السماوية السامية صرخات الشياطين، كما يفعل المنافقون في كل العصور والعهود والأزمنة.
أينما ولــَّــىَ المغترب وجهه سيصطدم بصورة من صور العنصرية، والغريب والمؤسف أنه قد يتعرض لها عندما يعود إلى وطنه الأم، فالمغترب العائد كالذي بُعــِـث من الموت فأضحى غريبا، وأهل الكهف خاف منهم أهل المدينة.
من يزعم أنه لم يتعرض للعنصرية في غربته كالأعمى لا يرى، أو كالأصم لا يسمع، لأنه يكذب على نفسه متمنياً أن تذوب العنصرية من تلقاء نفسها، لكنها في الواقع تتراجع إلى ركن قـَـصيٍّ في أعماق النفس، وتخرج حين تتلقى الضوء الأخضر من عالم الكراهية أو من لحظة غضب عاصفة.
المغترب هو الذي يتعايش معها ، ولا يستفزها فتخرج، ولا يصمت صمت القبور عليها فتقبره.
المغترب والعنصرية حالة هدنة مؤجلة إلى حين، وحرب لا ينظر المحاربون خلالها في عيون بعضهم البعض، وطعنة نجلاء إما من العنصرية أو من هجرة المغترب للمرة الثانية، ليس هرباً من المعركة، ولكن بحثاً عن ساحة حرب لا ينهزم فيها.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 30 يناير 2014
التعليقات (0)