د . أيمن علي
بين الحين والآخر تخرج تقارير وتحليلات تتحدث عن توقعات بتحولات فاصلة في سوق الطاقة العالمي، وأغلبها يستهدف بالأساس منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبك) والدول المنتجة للنفط والغاز من خارج دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي . والخط الأساس هو أن الاعتماد على الوقود الاحفوري (النفط والغاز) التقليدي يتراجع وان البدائل ستحل محله . أو اذا استمر اعتماد الاقتصاد العالمي على الوقود التقليدي فإن مصادر أخرى تتطور بما يقلل أهمية المصادر الحالية . وتحظى أوبك ببؤرة الاهتمام في كل تلك التحليلات والتعليقات مع توقع تراجع دورها في المستقبل . مع ذلك استمر دور اوبك، حتى رغم الاختلافات داخلها، في ضبط السوق النفطية من حيث اساسياتها: العرض والطلب .
وفي (21 مايو 2011) نشرت صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية مقالاً كتبه روجر التمان، رئيس افركور بارتنرز الاستثمارية ونائب وزير الخزانة الأمريكي السابق يكاد يجزم فيه بنهاية أوبك . ويعبر رأي التمان عن تيار في قطاع المال والاعمال أقرب ما يكون للمحافظين الجدد في السياسة . يستند رأي التمان في مقاله الذي يتوقع نهاية اوبك بسرعة إلى أن تطور تكنولوجيا الاستكشاف واستخراج الغاز والنفط تطورت في السنوات الأخيرة بما يعني تغير خريطة الطاقة في العالم . ويتزامن الحديث المتصاعد عن تطور تكنولوجيات جديدة مع التغطيات الاعلامية الواسعة لاحتياطيات الغاز الصخري التي أصبحت قابلة للاستخراج تقنياً، إضافة إلى الرمال النفطية . وهذا حقيقي، فقد طورت الدول المستهلكة تكنولوجيا استخراج طاقة احفورية من طبقات الأرض السطحية كالصخر الطفلي والرمال . لكنها في النهاية لا تختلف في تأثيرها عن تكنولوجيا استخراج النفط من المياه العميقة وتطوير الوقود الحيوي من مصادر محاصيل غذائية . يقول روجر التمان في مقاله بالفاينانشيال تايمز عن هذه التقنيات الحديثة بتفاؤل يكاد يكون مبالغاً فيه: “هذه الاكتشافات ستقلل من اضطراب الإمدادات والأسعار، كما أنها ستعيد تشكيل العلاقات الدولية بشكل أفضل . إن أيام أوبك معدودة وستهمش الدول النفطية غير المستقرة من العراق إلى فنزويلا” . ويضيف المستثمر والمسؤول السابق في الادارة الأمريكية: “الولايات المتحدة لديها الآن امدادات 100 عام من الغاز الطبيعي، وبالنسبة للنفط فإن إنتاج أمريكا وكندا والبرازيل وربما المكسيك سينمو بسرعة، وربما تصبح هذه الدول بين أكبر سبعة منتجين للطاقة في العشرين عاماً المقبلة . وربما يصل إنتاج النفط إلى مستوى الاستهلاك في نصف الكرة الغربي للمرة الأولى منذ عام 1952” . ويفصل المقال كثيراً في التبعات السياسية والاستراتيجية لتغيير خريطة الطاقة في العالم، خاصة عندما ينتقل مركز ثقل إنتاج الطاقة من الشرق الاوسط إلى أوروبا الغربية والقارة الأمريكية وكيف سيؤدي ذلك إلى تقليل النفقات العسكرية الأمريكية على حماية مصادر النفط في الخليج ويعني ذلك بما لم يذكره الكاتب تقليل العجز في الميزانية الأمريكية . كما يشير إلى ان نصف الكرة الغربي قد يصبح مصدراً صافياً للطاقة، وليس مستورداً كما هو الحال الآن، بما يزيد من قدراته الاقتصادية وليس تحسين وضعه الحالي فقط . وفي الجانب السياسي والعسكري لا يختلف رأي التمان كثيراً عن تصورات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة لشكل العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية بنهاية الثمانينات من القرن الماضي.
إلا أن كل تلك الاستنتاجات الاستراتيجية مبنية على فرضية أساسية تحتاج للمناقشة ولا يمكن قبولها على عواهنها هكذا، وهي التغيير الجذري في خريطة الطاقة في العالم . صحيح ان تكنولوجيا الاستكشاف والإنتاج في قطاع الطاقة تتطور باضطراد، وهذا بالطبع يضيف قدرات جديدة وإمكانات لم تكن متاحة من قبل لكن لا يبدو ان ميزان مصادر الطاقة في العالم على وشك ان يشهد ميلاً حاداً كما تصور التقارير الصحفية والمقالات والتحليلات المتكررة في الآونة الأخيرة . ويبدو كثير من تلك التعليقات أقرب إلى التفكير بالتمني منها إلى استنتاجات مبنية على مقدمات دقيقة . وان كان ذلك لا يعني أيضاً ان هناك تغيراً مستمراً في خريطة الطاقة في العالم، وان دور أوبك ربما يتراجع، لكن ليس بسبب تغيرات جذرية في خريطة الطاقة العالمية . كما أن هذه التغيرات الناتجة عن التطورات التقنية وارتياد ابواب جديدة للطاقة لم تصل بعد إلى حد النموذج الهائل للتعميم . ويلاحظ أن تصاعد الحديث عن مصادر الرمال النفطية والغاز الصخري إنما يأتي بعد ما بدا من ان الوقود الحيوي لم يعد بديلاً حقيقياً لمصادر الطاقة التقليدية لأسباب عدة، منها ما هو تقني يتعلق بإنتاجه وما هو اقتصادي/سياسي/اجتماعي يتعلق بمصادره (استهلاك المحاصيل الزراعية لإنتاج الطاقة على حساب الغذاء) . كما ان المصادر صديقة البيئة، وهي توجه مستمر منذ فترة ويرجح ان يستمر ويتطو ربما أكثر من إنتاج الوقود الحيوي، لم توفر بدائل حقيقية للطاقة التقليدية ولا يزال توليد الطاقة من الشمس والرياح وغيرها مجالاً محدوداً إلى حد كبير .
أما إنتاج الوقود الاحفوري من مصادر جديدة، نتيجة تطوير تقنيات الحفر والاستخراج، فربما كان الأهم فعلاً في تغيير خريطة الطاقة في العالم . وقبل عقود قليلة تصاعد الحديث عن استخراج النفط من المياه العميقة خاصة من خليج المكسيك وكيف ان ذلك سيقلب موازين الإنتاج والتصدير في السوق النفطية . ورغم تطوير بعض الحقول في المياه العميقة، إلا أن الكلفة العالية للاستخراج وربما تواضع الاستكشافات عما كان مقدرا في السابق بتفاؤل مبالغ فيه جعلت هذا المصدر يضاف إلى المصادر التقليدية بما يلبي جزءا من الطلب العالمي المتنامي دون تغيير كبير في خريطة الطاقة العالمية . وحسب أحدث إحصاءات وكالة الطاقة العالمية فإن مصادر النفط في العالم هي كالتالي في نهاية 2010: على الأرض تريليون و120 مليار برميل في 400 حقل مثبت، وفي المياه 213 مليار برميل في 294 حقلاً، وفي المياه العميقة 25 مليار برميل في 31 حقلاً . ثم ان الرمال النفطية، وهي مصدر للإنتاج في كندا منذ فترة، لم تحقق عمليا التوقعات الهائلة التي سبق ووضعت أرقاماً شبه خيالية لاحتياطيات العالم من النفط الصخري والرمال النفطية . يبقى الغاز الصخري، الذي نشهد حاليا موجة تفاؤل مفرطة بشأنه، الذي لا تشير معدلات الإنتاج الحالية إلى ذلك التغير الجذري في خريطة الطاقة العالمية الذي يجري الحديث عنه . وحسب احصاءات عدة مصادر دولية فإن احتياطي الغاز في العالم 2011 كان عند 16000 تريليون قدم مكعبة يمكن استخراجها تقنياً، أما الاحتياطي المثبت (اي الذي يجري استخراجه بالفعل من حقول موجودة) فهو 6647 تريليون قدم مكعبة . في المقابل فإن أكثر تقديرات احتياطي الغاز الصخري الممكن استخراجه تقنياً هي عند 6600 تريليون قدم مكعبة (وهي لا تشكل حتى نصف الاحتياطي العالمي الممكن استخراجه تقنياً) . في النهاية، قد تكون أوبك في وضع غير جيد كتجمع لمنتجي ومصدري النفط وقد تكون الخلافات بين أعضائها سبباً آخر في تراجع دورها، لكن الحديث عن “موت أوبك” كما عنون روجر التمان مقاله في الفاينانشيال تايمز يعتبر شططاً على أقل تقدير . ومع أن خريطة الطاقة العالمية تتغير باستمرار، إلا أن الغاز الصخري والرمال النفطية لن تزيد في تأثيرها إلا قليلاً على نفط المياه العميقة والوقود الحيوي ومصادر الطاقة صديقة البيئة .
التعليقات (0)