مواضيع اليوم

“حَرْق البلد” السوريين في الثورة والحرب

إبراهيم قعدوني

2016-09-06 10:18:17

0

http://geroun.net/archives/64030يحرِص مؤلّفا كتاب “حَرْق البلد” السوريين في الثورة والحرب، وهما الكاتب البريطاني من أصل سوري، روبين ياسين قصّاب، والناشطة السورية في حقوق الإنسان ومناهضة الأنظمة الديكتاتورية، ليلى الشامي، على تقديم ما يشبه سيرة ذاتية للثورة السورية يرويها الثّوار أنفسهم -رجالًا ونساءً- وبمختلف ألوان طيفهم الاجتماعي، من ناشطين وسياسيّين، ومفكّرين ومقاتلين، ولاجئين، في أرخبيلات الشتات السوري المنتشرة في أرجاء العالم، وبما يختزله العنوان الموفّق للكتاب من إمكانات دلاليّة، فإنّ متنه، يستكشف الواقع المعقّد للمشهد الحالي في سورية، واضعًا القارئ أمام تحليلٍ ثاقب للمقدّمات التي أفضت إلى حرقٍ فعليّ للبلد، بعد أن كان هذا العنوان مجازًا، ردّده أنصار النظام، تمهيدًا لحربهم المُعلنة على السوريين.

 

وخلافًا للروايات الفوقيّة، فإنّ الكتاب ينتهج اتجاهًا صاعدًا من الأسفل إلى الأعلى، إن جاز التعبير، فهو يوثّقُ الحدث بواسطة صنّاعه بالدرجة الأولى؛ إذ يتّضح من سياقه انحيازه الأخلاقي لـ “ثورةٍ كشفت فساد العالم” كما يقول.

يقدّم الكتاب تحليلًا حافلًا بالأدِلّة على زيف وفساد التصوّرات القائمة على أنّ الخيارات المتاحة في سورية لا تتعدّى شرّين أحلاهما مرّ، فإمّا الأسد، وإما التطرف الداعشي؛ وهذا تمامًا ما يدحضه هذا الكتاب، وهنا تمامًا، يكمن سؤاله الأساسي وبيتُ قصيده.

 

يخالف هذا الجهد التوثيقي والتأريخيّ الاتجاهات السائدة في قراءة المركزية الغربية للحدث السوري، التي التزمت مسارًا متعاليًا على التراجيديا السورية؛ إذ سرعان ما اعتمدت آلية “الزووم آوت”، راهنةً سرديّتها إلى توجهين أساسيّين: الأول يمينيّ، سرعان ما انحاز إلى مركزيّة صنّاع القرار السياسي، في تبنّيه السريع لتعريفاتٍ من قبيل “حربٍ أهليّة”، و”حرب على الإرهاب”، وغيرها من المصطلحات الرغبَوية المتنكّرة وراء خطاب تسطيحي، يتغذى على الإسلاموفوبيا، والثاني يساريّ، تجلّت أزمته في عدم قدرته على فهم هذا الحدث التاريخي؛ نتيجةً لتبنّيه سرديّةً غير مألوفةٍ في الرطانات التقليدية لليسار العالمي عمومًا، والغربي على نحو خاص، والذي وجدت معظم دوائره ملاذها التبريري في ثيمة “معاداة الإمبريالية”، على حساب “تحرّر الشعوب”، ولا سيّما أنّ العلاقة بين الديكاتوريات العاتية وكثير من المرجعيات اليسارية، لم تعد محضَ شبهة وحسب، وذلك منذ ردح من الزمن، وأنّ الرواية المضحكة المُبكية التي يردّدها بعضهم عن النظام السوري، بوصفه نظامًا ممانعًا ومقاومًا للهيمنة الأميركية، ما تزال محطّ اعتقاد كثيرين في أوساط اليسار الغربي والمشرقيّ على حدٍّ سواء.

 

لعلّ من أبرز ملامح هذا الكتاب، أنّه يحاول استعادة الأصوات الأولى السلمية للثورة السورية، وتقديمها للقارئ الغربي في قالب تحليليّ حصيف؛ تلك الأصوات التي ابتلعها ضجيج الحرب، وكاد أن يطويها النسيان في زحمة المأساة السورية، وتصاعد الأعراض الجانبية للصراع، كالطائفية والتسييس الخبيث، وإذ يتوخّى الواقعية في تحليله لعدة ظواهر، رافقت مسار الثورة السورية حتى اليوم، فإنّه -وقبل كلّ شيء- ينطلق من إيمان عميق بنضال الشعب السوري؛ من أجل عدالته وكرامته، ويصرّح بتعاطفه مع هذه الثورة، كما يؤكد مؤلّفاه، في مقدّمته وفي سياقه غيرَ مرّة، وكما نقرأ، فإن “هؤلاء الثوار هم مصدر هذا الكتاب ومرجعه الأبرز، ليس لأن أصواتهم لم تُسمع بشكل كاف في الأروقة الغربية، بل لأنهم كما يقول: صنعوا التاريخ ولأن الجميع تعلَّم منهم.

 

التاريخ يعيد نفسه

يربط الكتاب بين فترة الاستعمار، ممثلّةً باتفاقية سايكس-بيكو، وما أقرّته من خرائط وهندسة طائفية لمجتمعات المنطقة؛ وبين معظم الصراعات التي شهدتها سورية الطبيعية -لاحقًا- منذ تقطيع أوصال كيانها المعروف ببلاد الشام، إلى احتلال فلسطين، مرورًا بالحرب الأهلية في لبنان، وخلق مفهوم “الجيش الأقلّوي” في سورية، ففي دمشق أحرق الفرنسيون منطقة سكنية، تُعرّف اليوم بمنطقة “الحريقة”، والمفارقة التاريخية أنّ هذه المنطقة -نفسها- شهدت أولى احتجاجات العاصمة سنة 2011، كما يحاصر النظام السوري اليوم -مستعينًا بحلفائه من الميليشيات الأجنبية- مناطق الغوطة نفسها التي ثارت على الفرنسيين الذين قصفوها بشراسة، واستعانوا بمرتزقة من المغرب والسنغال لقمع انتفاضتها.

 

في استعراض التاريخ الحديث لسورية، يناقش الكتاب تعثُّر تجربة البورجوازية الديمقراطية السورية في الحكم، من جرّاء نكبة فلسطين، وشعور طبقة الفلاحين السورية بعدم وجود من يمثّلها، ويدافع عن مصالحها بين النخب السياسية؛ ما مهّدَ لصعود العسكر، وانتقال الثقل السياسي إلى أيديهم، كما يشير إلى الدور المهم لتجربة السياسي السوري، صاحب التوجهات القومية، أكرم الحوراني، في بلوّرة الوعي السياسي لطبقة الفلاحين والعمّال في تلك المرحلة، ثم يستعرض الكتاب المناخات الاجتماعية والسياسية التي واكبت ظهور حزب البعث السوري، بوصفه بديلًا قوميًّا لنهاية مفهوم الخلافة الإسلامية، وتأثّرِ مؤسسه الدمشقي المسيحي بأفكار الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.

 

نظام حافظ الأسد مُفتَعِلُ حرائق في هيئة رجل إطفاء

انتهت النسخة الرومانسية القومية لحزب البعث بنكسة حزيران التي خلّفتها حربٌ، أرادها صلاح جديد دون أن يستعدّ لها، وآلت الأمور إلى حافظ الأسد، إثر البيان رقم (66) المشؤوم، والذي أذاع سقوط القنيطرة قبل حدوثه فعليًّا؛ أسس حافظ الأسد -بعدئذ- نظامًا سياسيًا، جمع السلطة المطلقة إلى البراغماتية؛ لينهي السياسة والاضطرابات السياسية، على حدٍّ سواء، عبر ما عُرف بـ “الحركة التصحيحية” التي دشّنت صعود تركيبة طبقية جديدة، ضمّت تحالف رجال أعمال من السُنّة مع عسكرتارية علوية، أدارت علاقات من الفساد والمحسوبية، ولتجاوز العقدة الطائفية لتركيبة السلطة، عمد حافظ الأسد إلى إشراك الفلاّحين في أرجاء البلاد؛ ما منحه شرعيّةً ومرونةً، أمدّت إلى جانب الدور الذي لعبته أجهزة مخابراته في بقاء نظامه السياسي، واستقرار “مملكة الصمت” بقيادة “القائد المناضل”، في الوقت الذي كان الإقليم يتخبّط من حوله؛ إذ كان جوهر سياسات الأسد الخارجية، يقوم على تأدية دور مفتعل الحرائق في هيئة رجل إطفاء، فقد عُرِفَ عنه افتعاله المشكلات، والمقاولة على حلّها. لم يرحل “الأسد الأب” قبل أن يجهز على الحياة السياسية، وعلى المجتمع المدني في سورية، وسرعان ما انتقلت الجماهير المفجوعة برحيل “القائد الخالد” إلى الاحتفال بتنصيب ابنه بشّار، في مسرحية مألوفة في المشهد السوري؛ إذ صوّت مجلس الشعب بـ 99.7 بالمئة لتعديل الدستور؛ ليلائم مقاس الوريث الذي دشّن عهد الملكية الجمهورية في سورية.

 

العقد الأول من حكم بشار الأسد وربيع دمشق الذي أصبح شتاءً

يعرض الكتاب للسياقات التي واكبت صعود الرئيس الابن، وآمال الإصلاح في السنوات الأولى من حكمه، وتقويضه أنموذج اشتراكية الدولة التي تبناها والده، وكيف قادت سياسات الرئيس الجديد إلى نمط مشوّه من رأسمالية المحسوبية الفاضحة، استغلّها المقرّبون من النظام لمراكمة ثروات هائلة، كان أحد أبرز أمثلتها هيمنة رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، على قرابة 60 بالمئة من اقتصاد البلاد، في حين جرى تخفيض الدعم الاجتماعي للفقراء السوريين، وازدادت أوضاعهم سوءًا.

 

رُسِمَت صورة الرئيس الجديد بعناية، حتى قبل وصوله إلى الحكم، كان الهدف تقديم شخصية مخالفة تمامًا لشخصية الأب الصامت، جرى تلميع صورة الطبيب الشاب، صاحب مشروع المعلوماتية والشفافية، الذي يقود سيارته بنفسه، ويتجول بين العامة في المطاعم من دمشق إلى حمص، والأهم من ذلك كله، أنّه سمح بأنشطة أحد أبرز المنتديات السياسية التي راجت آنذاك، وهو منتدى الأتاسي (أُغلِق لاحقًا)، وشهدت تلك الفترة تحرّكًا سياسيًّا معارضًا، عُرِفَ بإعلان دمشق، عَكَسَ أزمة المعارضة السورية التي تجلّت في الصراع على الزعامة، و تركيز خطابها على جوانب الإصلاح السياسيّ، مُهمِلًا الأوضاع الاقتصادية السيئة للناس العاديين، في الوقت الذي كانت فيه شبكة الأمان الاقتصادي للمواطن السوري، تنهار إذْ تركّزت نصف ثروات سورية بيد 5 بالمئة من السوريين، وبلغ متوسط دخل السوري العادي أقل من 120 دولارًا؛ ما اضطرّ معظم السوريين للعمل في وظيفتين على الأقل؛ لتلبية حاجاتهم الأساسية، كان ذلك الوضع مريحًا للنظام، إذْ كيف للمواطن السوري أن يفكّر في السياسة أو العمل فيها؟ استمرت السياسات الاقتصادية للمافيا الحاكمة في إنتاج الفقر، وتعميق الهوّة المجتمعية؛ حيث استغرب السوريون كيف أن قيمة فنجان قهوة، في فندق الفورسيزنز، يكلّف قرابة 10 بالمئة من الدخل الشهري لمعظمهم!

 

ولادة جديدة

كما يرى المؤلّفان، فإنّ ثورة السوريين، إنّما انطلقت في ذواتهم قبل كل شيء، كان ذلك قبل أن تتقدّم الحسابات السياسية، وقبل أن تمدّ البنادق رؤوسها، كسر السوريون حاجز الخوف الذي جعل بلادهم -طوال عقود- “مملكة للصمت”، عام 2011، انفجرت مملكة الصمت تلك، وكانت الهبّة السورية عابرة للطوائف والإثنيات، عابرة حتى للسياسة والأيديولوجيا، ولم يتمكن أحد من احتوائها، لا حزب ولا قائد ولا برنامج سياسي، وعجزت حتى أجهزة القمع السورية المتعددة عن قمعها، على الرغم من كل ما فعلته من ممارسات قمعية، بدءًا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وصولا إلى اعتقالهم والاعتداء عليهم، “وتعذيبهم حتى الموت”، تحدّث الشبان المنتفضون عن شعورهم الذي يشبه “إعادة الولادة”، وعن “لحظات لا تتكرر من النشوة”، وشكَّل تعاطي النظام مع الاحتجاجات بذلك العنف غير المسبوق، وتلك الوحشية المفرطة، ما يشبه “معمودية” للرعب، جعلت من التراجع خيارًا غير مطروح أبدًا.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !