حلت المواطنية citoyenneté في عصرنا هذا محل الرعوية ايها السادة ــ والكلام هنا غير موجه للشبيحة (بالمعنى الواسع للشبيحة والتشبيح) الذين يرفضون ان يكونوا سادة ويقاتلون دون ذلك, ويقتلون غيرهم ممن يريدون ان يصبحوا سادة ــ فرتبت وفرضت حقوقا للفرد والعائلة و الجماعة, فالمواطن, كونه عضو كامل العضوية في الدولة, يملك حق المشاركة الكاملة وغير المنقوصة في الحياة اليومية والمستقبلية للمجتمع والدولة .
أصبحت المواطنية في أس المشروعية. عليها تُبنى الروابط الاجتماعية, ولا ينفصل عنها مبدأ المساواة أمام القانون. مرتبطة وثيقا بالديمقراطية بحيث لا يمكن تصور مواطنية حقيقية في غير أنظمة ديمقراطية حقيقية.
المواطنية أيها السادة, ــ ولا نقصد الشبيحة, بأنواعهم وتوزيعاتهم ومواقعهم, الذين يرفضون أن يصبحوا سادة ويصرون على الرعوية ــ ليست فقط وضعا قانونيا, فهي زيادة على ذلك روابط اجتماعية تقوم بين الفرد والدولة التي تمنحه أهلية ممارسة مجموعة الحقوق السياسية, إلا في حالة تجريده بإدانة جزائية, صادرة عن قضاء نزيه, من ممارسة كل أو بعض هذه الحقوق.
وهي ايها السادة ــ ولا نقصد الشبيحة ممن جعلوا قيمهم قيما رعوية وتخلقوا بالتبعية ــ تتضمن قيما تقليدية مثل الاحترام المتبادل بين المواطنين, والحفاظ على الكرامة الإنسانية للجميع. والاهتمام بالممتلكات العامة وكأنها الممتلكات الخاصة لأي مواطن ولكل المواطنين. احترام, واهتمام منبعثين من الذات الواعية والقناعة بالقوانين والأنظمة النافذة. (دون القناعة بالدساتيرالتي تكرس الرعوية).
المواطنية لا تعني مجرد التعايش بين أفراد تجاوروا جغرافيا. المواطنون ــ باستثناء الشبيحة الذين يرفضون لقب مواطنين مفضلين عليه لقب تابع في رعية , أو مرعي به ــ ليسوا مجرد أفراد متجاورين في مجتمع عليهم التعايش فيه بحكم هذه التجاور ووفق متطلباته, وإنما هم مجموعة الرجال والنساء, بكل أعمارهم, المكونين لهذا المجتمع المرتبطون بتاريخ مشترك, وثقافة مشتركة, وهدف مشترك, ومشروع مشترك, وطرق حياة مشتركة, ومصير مشترك. وهذا ما يفرض عليهم التضامن الاجتماعي والتآخي لما فيه المصلحة العامة. وتحمل المسؤولية الفردية والجماعية, بالإرادة الحرة الواعية.
المواطنية لا تقتصر على حمل جنسية الدولة المنتمي إليها الفرد , وإنما تعطيه الحق في مشاركة فعالة في حياة هذه الدولة. فللمواطن الفعال دور أساسي ليقوم به (دون تشبيح), متمثل بالتصويت والترشح والترشيح. وهنا يلعب المواطن دوره الفاعل والأساسي في مجتمعه. يعبر عن رأيه بحرية مطلقة, ويساهم في اختيار أو عزل الحكام, ويشارك في صياغة التوجهات السياسية الأساسية في السياسة الداخلية والخارجية, ويبدي رأيه فيها بكل الوسائل التي يكفلها له الدستور والقانون. (وبذلك تُجفف منابع التشبيح).
المواطنية تعطي المواطنين حق تشكيل الأحزاب السياسية, والانضمام إليها أو الانسحاب منها, حسب قناعاتهم, وحق تشكيل الجمعيات المدنية, والنقابات, بهدف الدفاع عن حقوقهم وعن المصالح الاجتماعية والاقتصادية والمهنية.
المواطنية تفرض المساواة بين المواطنين أمام القانون وفي المحاكم, وفي الوصول إلى العمل والوظيفة, حسب معايير الكفاءات والجدارة, في مسابقات وإجراءات نزيهة وعلنية.
المواطنية لا تقوم على الإقصاء بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو المعتقد الديني, ولا تعترف بامتيازات لفئة معينة وحجبها عن أخرى.
المواطنية توفر لكل مواطن, عامل أو عاطل أو باحث عن عمل, الحق في حياة كريمة تشمل العلاج الصحي, والضمان الاجتماعي, وتكفل حق التقاعد والشيخوخة للجميع.
انها المواطنية التي يفتخر في ظلها المواطن بحمله لقب مواطن.
ولكن وفي ظل الرعوية, هل من فخر واعتزاز بحمل لقب " مرعي به" أو " "تابع", أو عضو في رعية يهشها راعيها هشا بعصاه, فتتبع خطاه, وتمشي على هداه, وتتنعم بعطاياه, وتصفق لثغاه, وتقدس حتى قفاه؟.
تكون الرعوية في أوجها:
ـ إذا كان الحاكم قد نصب نفسه, أو نُصّب, أو انتصب, بعيدا عن كل مشروعية, وعن كل إرادة شعبية حقيقية, وأقام دولة رعوية
ـ إذا كان يُنزّل ويمنح, بإرادته المنفردة ومشيئته المستبدة, دساتير وقوانين ومراسيم وأوامر واجبة التنفيذ والطاعة على الرعايا, دون اعتراض أو احتجاج أو مجرد استفسار. ولا يسري عليه اي منها.
ـ إذا كانت المؤسسات, في حالة وجودها, مؤسسة لتكون امتداد للحاكم , من صنعه ومن أدواته لتأطير ومراقبة رعاياه, وليس لخدمتهم ورعايتهم.
ـ إذا كانت الرعية تساق عن بكرة أبيها في حافلات وشاحنات وغيرها من وسائل النقل الفردية والعمومية, بما فيها التركتورات الزراعية, وسيرا على الأقدام, في كل الفصول, لمسيرات مليونية احتفالية لتأييد أقوال وأفعال الراعي, وانتصاراته المزعومة؟. وتساق تأييدا لقتله لشعبه, أو لشكر الروس والصينيين والخبراء الايرانيين على المساهمة.
ـ إذا كان أزلام الراعي ومعاونيه والمتكسبين من خدمته يستمدون منه سيف التسلط على أفراد الرعية بالاعتداء على كرامتهم وحرياتهم وأملاكهم, فيطلبون الرشاوى بالفم المليء وبعلم وسمع الجميع. تعميما للفساد والإفساد.
ـ إذا كان غير مسموح لأفراد الرعية تكوين أحزاب سياسية, أو جمعيات مجتمع مدني, أو نقابات حرة تدافع عن مصالحهم الاقتصادية والمهنية بحرية واستقلالية.
ـ إذا كانت المجالس التمثيلية بما فيها مجلس "الشعب" تستقبل كل كلمة صادرة من فم الراعي, او من يفوضه, بتصفيق منقطع النظير, لا ينتهي الا بإشارته او ابتسامته التي تحمل السخرية أو الازدراء أو التهديد.
ـ إذا كان أفراد الرعية محرومين من قضاء عادل ونزيه يقفون أمامه متساوين, حسبما تقتضيه الدعوى العادلة في دولة القانون.
ـ اذا كان أفراد الرعية عرضة, دون تمييز, لمراقبة وملاحقة أفراد الأمن على اختلاف أنواعهم ومهامهم, يدخلون البيوت دون تكليف قضائي, أو استئذان أخلاقي, دخول الفاتحين على " رعايا غلابا" مستسلمين لا حول لهم ولا.
ـ إذا كُتب تاريخ الشعوب والأوطان بأقلام كتبة السلطان, وجُعلت بدايته مع بداية تنصيبه, وأمجاده من فعله وحده أو أفعال أجداده, وإخفاقاته من فعل وخيانة وتامر داخلي او دولي أو حتى كوني.
ـ إذا كانت سياسة بث التفرقة, وتعميم ثقافة الخوف والخضوع والخنوع, وتفتيت اللحمة الأسرية, والمساس بالقيم, واستباحة المحرمات, ممارسات يومية, تحل محل التضامن الاجتماعي والتكافل والتآخي.
ـ إذا كانت صور وتماثيل الزعماء تدخل البرلمانات ودور القضاء (دون أدنى اعتبار لفصل السلطات), وبيوت العبادة , والصالات والمضافات والحمامات. وتبنى لها وحولها خصيصا الحدائق والساحات, ولا تخلو منها الشوارع والأزقة مهما ضاقت, ولا غرف نوع الجميع وملحقاتها, مذكرة بأنهم هنا, والى الابد.
ـ إذا كان الوصول للعمل والوظيفة ليس حقا للمواطنين وإنما منة ومكرمة, ومشروط بدفع الرشاوى, وبشروط الطاعة والولاء والانتماء, ورد الجميل للراعي سيد البلاد والعباد.
ـ إذا أصبحت أقصى طموحات غالبية أفراد الرعية الرغبة في هجرة الأوطان بحثا عن لقمة عيش شريفة, وعن كرامة مصونة, وأمان واطمئنان في أوطان الآخرين فيما وراء البحار.
فاعلم عندها انك في دولة نسيها التاريخ في غفلة منه في أعماق عصوره الوسطى.
اليس, ايها السادة, من كل هذا تلد الشروط والمبررات لقيام الثورات , ولولادة جديدة للإنسان, ولحراك المكان, وتغيير الزمان, واللحاق بموكب الحديث من الاوطان, ولإحلال حقوق المواطنية محل استلاب الرعية؟.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)