يوم مع فكتور ديلافيرا
"...احن رأسك، ضمّ يديك
الحياة قصيرة، لست وحدك، في مرات أخرى كنت هنا. تذكر ذاتك، مع جماعات أخرى، كانت تتحدث لغة أخرى، ترتدي ثيابا أخرى، كنت شابا و شيخا مرة أخرى....."
كلمات للشاعر: أنطونيو أنريكيه، من ديوان "القِبْلَة".
من الأكيد أنّ الارتقاء بما هو غير مألوف إلى درجة المرغوب، لشيء سام و غير عاديّ على الاطلاق، يحتاج إلى الأخذ بكلّ ما من شأنه إضافة علاقة وثيقة بين ما هو حاصل، و الذي نهدف إلى الحصول عليه، فالسعي بالأسباب، لباب لأهم الأرباب، من أجل بلوغ الألباب، مكانة خالية من الاكتئاب.
و كما في كلّ يوم، نزلت من القطار في المحطة الرئيسية، و اتجهت إلى النفق أو الممر رقم ثلاثة، أين أتجه عادة، و بينما أنا أنزل درج ذلك النفق الأبيض، إذا بي ألمح فتاة في مقتبل العمر، أخذت من المفاتن النصيب الكبير، فغمرتها بنظرة ثعلب يحوم حول فريسته، بينما هي استقبلتني بابتسامة الغزال المسلِّم لأمره، اقتربت منها و قبل أن أترجم جموح أفكاري إلى كلمات، فرّت هاربة، و كأنها عرفت ما دار في قلبي من خبث ناعم، و ما صدقه عقلي من وهم. حينها نفضت عن أفكاري غبار الأوهام، لكنّ مشهد الغزالة سيطر على تفكيري، من محطة القطار، و على طول مسافة ركوبي في الحافلة البرتقالية المتجهة إلى القطب الجامعيّ الأوّل. و قد انهمرت في شعيرات دمي المخية العديد من التساؤلات. من تلك الحسناء؟ و لما الهروب؟ هل كنت أحلم أم هي حقيقة وقعت و انتهت دون رجعة؟
و حالما وصلت إلى القاعة رقم ستة عشر من الطابق الرابع لأكاديميتنا، وقع في ذهني أحد نماذج الجواب الذي بحثت عنه طوال مسيري الصباحيّ. فقلت في نفسي بعد أن لدغت احدى أقدامي، و سرى ذلك الألم حتى بلغ مراكزي العصبية، نعم لم يكن حلما، لقد كنت مستيقظا، و في كامل قواي العقلية و الجسدية، فما من أحد يحلم بعد أن يستيقظ على السادسة صباحا، و يأخذ حماما خفيفا، و يصلي صلاة الفجر قبل أن يشرب قهوته، و يحمل محفظته الجامعية، و يهبّ إلى محطة القطار، ما من أحد يمرّ بهذه المراحل و هو يحلم، إنها حقيقة بالفعل.
و بعد أن حسمت أمري بأنّ ذلك الحادث كان واقعا و ليس من مصنع خيالي، انتقلت إلى المرحلة الثانية من التفكير، ألا و هي محاولة كشف سبب هروب الفتاة، و بعد أن انشغلت قليلا في هذا الموضوع، وقع في فكري أني لا أجيد معاملة الجنس اللطيف، و هذه حالي منذ مراهقتي التي كانت صاخبة، فانكشف غمام فرارها قبل محادثتي، و ذلك لأن هيأتي كانت تبعث عن القوّة، و النساء لا يرتحن للرجل المبالغ في سيطرته، لأنهنّ يعتبرنها تنبع عن ضعف فيه، على الرغم من أنهنّ يعشقن الـرجال الأقوياء.
و تحسرت على سذاجة تملكتني خلال أهم ثانيتين من عمر ذاك الصباح، ألا وهي الفترة التي استغرقتها في مشاهدة تلك الفاتنة.
بعد كلّ هذا الجهد الفكريّ الكبير أخذت نفسا عميقا، و تأملت القاعة من حولي، فكنت وحيدا وسط كومة من الطاولات و الكراسي، و في لحظة! عادت ذاكرتي بقليل من الثواني، و انقاد ذهني إلى أني لم أجب عن كلّ الأسئلة، و كعادتي في مثل هذه المواقف، خطر في بالي الجواب عن سبب الابتسامة، فقد رسمتها تلك الحسناء على محياها لأنها رأت في ملامحي ما لم تره في ملامح الآخرين، لقد رأت شيئا جعلها تبتسم، و أنا أزداد يقينا أنّ ذاك الشيء الذي جعلها تظهر رقتها هو السيّد: فكتور ديلافيرا الإنسان، الخالي من عجرفته المعهودة، لأني في تلك الوهلة، كنت شاردا قليلا، فأتت ابتسامتها كمنبه يعيد لي نوعا من التوازن، و هذه ليست غريبة على كائن مقدس أكثر عاطفة من الرجال القساة.
و بعد هذا انغمست في سعادة مفاجئة! قبل أن يحين وقت البحث عما بقي لي لأجيب عنه، مَن تلك التي جعلتني أضيّع أجمل ساعات يومي في التأمّل و التفكير؟ و أجبرتني على تشغيل محرك، لا أستعمله إلاّ في امتحاناتي، أو عند مواجهة مواقف مصيرية في حياتي؟ من هي؟
هذا السؤال أخذ كل يومي من التفكير، فانشغلت به أثناء التقائي بزملائي في الصف، و أثناء القاء أساتذتي لمحاضراتهم على مسامعي، و أثناء مناقشتي بعض الأفكار، سواء مع زملائي، أو مع الشرفاء من الأساتذة، و امتدّ هذا الانشغال حتى أثناء فترة تناولي لوجبة الغذاء في أحد مطاعم المقاطعة، و حتى في المقهى التي قرأت فيها جريدتي، و في فترة دراستي المسائية أيضا. لكن الجواب جاء كالإلهام، فقد نزل عليّ كالوحي في غرفة نومي، و أنا وحيد، تجول في عقلي جملة من التناقضات، و أذناي تلتقطان موسيقى "براين أدامز" المثيرة.
في تلك اللحظة فقط تيقنت أنّ تلك الحسناء هي من نسج تمنياتي، و فهمت ما دار حقا. فأنا العبد الضعيف، أملك مخيّلة تعمل دون توقف، و أتناء عملها، صنعت لي نموذجا عن أهدافي أثناء نومي، و بعدها، و لما صادفت أوّل فتاة ردّت عليّ نظراتي لها بابتسامة خفيفة، تطابقت صورة هذه الفتاة اللطيفة، بصورة الزوجة المثالية التي نسجها خيالي، فبدت لي فرصة عمري، و ما هروبها إلاّ ذهابها في سبيلها، فالبنت لا تعرفني، و لا أنا أعرفها و الذي يعرفها و عرفني بها هو خيالي الواسع، و الذي حدث معها، قد يحدث مع أيّ فتاة تتطابق صفاتها مع ما هو موجود في ذهني.
فما كان منّي إلاّ أن ضحكت على نفسي لمدّة ليست بالقصيرة، و حمدت الله على كوني رجلا يفهم ذاته و يكتشفها، قبل أن يعرّفها للآخرين.
السيد: مـــزوار محمد سعيد
التعليقات (0)