مواضيع اليوم

يوم دخلنا الجامعة .. كانت حرب تشرين

يوسف رشيد

2010-10-06 21:02:42

0

يوم دخلنا الجامعة .. كانت حرب تشرين ..

ذلك الصباح المشمس ، لم يكن صباحا عاديا .. فقد أكلَ السهدُ عيوني طيلة الليل ، حتى رأيت خيوط الصباح الأولى ..
وقبل ذلك ، كنت جهزت نفسي على أكمل ما يرام ..
اشتريت ألبسة جديدة .. وحذاء جديدا .. وذهبت إلى الحلاق بعد الإفطار ، ( لأننا كنا في اليوم التاسع من رمضان ) فقص لي شعري بما يتناسب مع أهمية الحدث التاريخي ..
غدا ، سأذهب إلى الجامعة كطالب مستجد في السنة الأولى ، وفي جيبي مستند هام ، يؤكد ذلك ، فيما لو سألني أحد ، أو استفسر عن سبب وجودي في الكلية .. لقد كان إيصال دفع رسوم التسجيل ، الوثيقة التي تثبت أنني طالب في كلية الآداب .. وقد تأكدت من وجوده في محفظة جيبي بُعيد عودتي من عند الحلاق ..
ولأننا في شهر رمضان ، نسهر طويلا ، ونقضي شطرا من نهاره بالنوم ، فقد سهرت مع بعض كتبي حتى موعد السحور .. فأيقظت الأسرة ، وتسحرنا ، وأويت إلى السرير .. لكن كيف يأتي النومُ عيونا تنتظر صباحًا تشرينيا جديدا ، يتزامن مع اليوم الأول للدوام في الجامعة ..
لا ، بل الدوام في كلية الآداب بالتحديد ، التي هي واحة الجامعة ، وروضتها الغنّاء التي تهفو إليها نفوس وعقول جميع طلاب الكليات الأخرى ..
لم يغمض لي جفن .. تقلبت كثيرا في السرير ، لكن الحلم كان كبيرا جدا ، والطموح ليس أقل مساحة منه ..
وحين يئست من إمكانية النوم ، نهضت إلى غرفة المكتبة .. جلست إلى طاولتي .. حاولت أن أقرأ شيئا ، لعل النوم يعاجلني .. لكن ..لا شيء ينفع مع النفس التواقة لغد جديد كليا .. لمرحلة ستضع البنيان الأولي فوق الأساس الذي أمضيت وقتا طويلا في تثبيت أركانه ودعائمه .. فقد كنت شغوفا بالأدب عامة ، وبالشعر والرواية والقصة ، بشكل خاص .. وها هي الفرصة سنحت لي ، وبت قاب قوسين أو أدنى .. ساعات قليلة تفصلني عن تمثال زهير بن أبي سلمى ، الذي سبق لي أن وقفت في حياضه ، والتقط لي أحد زملائي صورة بجانبه ، ولم نكن سوى طلاب بلباس الفتوة ، الذي كان بمثابة اللباس الإلزامي لطلاب المرحلة الثانوية ..
فكيف وأنا الآن طالب نظامي في كلية الآداب ؟؟!!
كل من في البيت نائم ، إلاي .. فتحت المذياع ، استمعت إلى إذاعة دمشق ، وهي تبث موسيقا ناعمة ، أحبها ، قبل أن يبدأ البث بالنشيد العربي السوري ، تلاه القرآن الكريم ، ثم الحديث الديني الصباحي .. قدمه الشيخ عبد الستار السيد ، وزير الأوقاف .. استمعت إليه باهتمام ، وقد انتابني شعور ما ، لم أستطع البوح به حتى لنفسي ..
هل ما فهمته ، وأحسسْته من حديث الوزير صحيح ؟؟ هل كان يعني ما يقول ؟؟!!
استبعدت ذلك .. فهو وزير للأوقاف ، وليس وزيرا للدفاع .. ما شأنه بالحرب ، والاستعداد ، وأعدوا لهم ما استطعتم ، وبذل الغالي والرخيص في سبيل استرجاع الحق والأرض ، ومسح عار النكسة ، و.. و .. و ؟؟!!
استمعت الحديث كله ، فسمعت طبول الحرب تـُقرَع ..
لكن ، الآن ؟؟!! عندما وصلت اللقمة للفم ؟؟!!
أمضيت بقية الوقت ، أستعد للخروج .. حلقت شعر ذقني ، ومن عادتي ألا أحلقها عند الحلاق أبدا .. ثم أخذت حماما ساخنا ، ولبست ثيابي الجديدة ، ومشيت باتجاه أوتستراد سيف الدولة ، مارا ببيت صديقي " فهر" لنترافق إلى الجامعة .. لكنه سبقني ، وترك لي خبرا عند أمه ، أنه وأخويْه " غيث وبشر " سيوافونني إلى كلية الآداب ، لنذهب معا إلى بيتهم الجديد ..
أكملت طريقي بالحافلة إلى الجامعة .. لم أكن غريبا عنها ، لكني لست أحد أبنائها .. فهي في الطريق المباشر المؤدي إلى بيتنا .. وقد سبقني إليها كثير من زملائي وأصدقائي ، لأنني تأخرت عنهم في نيل الثانوية العامة .. أما الآن ، فأنا ابن شرعي لها .. وكدت أرى تمثال الشاعر زهير ، يستقبلني بمعلقته التي يحملها بذراع ممدودة إلى المستقبل الذي أهواه ، وأتمنى أن أجتاز مفاصله بنجاح ..
كانت الساعة لم تصل التاسعة صباحا .. وليس في أروقة الكلية سوى بعض العاملين الذين ينظفون ممراتها ، وأدراجها .. ففي رمضان ، يكون الدوام رسميا عند التاسعة ..
لم أجد أحدا ممن أتسلى معهم ، ريثما يتناهى إلينا موقف ما من إدارة الكلية .. وليس ثمة بوادر توحي بوجود دوام .. فلا برنامج ، ولا قاعات محددة للمحاضرات .. ولا شباب ولا صبايا .. ولا هم يحزنون ..
أين الناس ؟؟ ما بهم ؟؟ ألم تعلن وزارة التعليم العالي أن السادس من تشرين الأول/أكتوبر موعد بدء دوام الطلبة المستجدين في الجامعة ؟؟!!
بدأ موظفو الكلية بالحضور ، بوجوههم المنهكة ، وبخطواتهم البطيئة المتهالكة الكسلى .. دائما يكون دوام يوم السبت مزعجا للموظفين ، لأنه يأتي بعد عطلة الجمعة ، حيث يسترخون في بيوتهم ، ويسهرون .. حتى إذا خرجوا إلى دوامهم صباح السبت ، كانوا كمن يُساق إلى الأعمال الشاقة .. فكيف إذا أضيف إلى ذلك طقوس شهر رمضان ؟؟!! وهي متميزة جدا في مدينة حلب ، التي لا تنام ، لا في رمضان ، ولا في غيره ..
وحين دخلت ممر الإدارة لأسأل عن الدوام ، قوبلت بجواب هازئ من أحد الموظفين قائلا : شايف الجامعة في نومك !!
خرجت ، لكني لا أستطيع أن أغادر الكلية .. يجب أن أنتظر فهرا وأخويه .. فمضيت أتسكع ، وأتفحص الكتابات المنتشرة على جدران الممرات .. فشاهدت جارنا السابق أبا محمد ، يخرج من إحدى الغرف .. تلقاني الرجل بترحاب شديد ، حتى كادت أصابع كفي تنهرس في كفه القوية .. وفرحت به ، خاصة عندما أخبرني ـ بعد أن دخلنا غرفته ـ بأنه عامل في الكلية .. اعتذر عن إكرامي بفنجان قهوة بسبب رمضان الكريم ، فنحن جيران وأهل .. ومكانتي عنده لا تقل أبدا عن مكانة أخيه أحمد ، صديقي ..
ولما استأنسنا ببعضنا ، سألني ـ وهو ناصري الهوى ـ : ما الأخبار عندك ؟؟
حدثته بما سمعته اليوم صباحا من وزير الأوقاف .. وقلت له : أعتقد أن الحرب على الأبواب ، خاصة إذا ما ربطنا ذلك مع تصريحات سادات مصر ـ آنذاك ـ بالحسم ..
قال بيأس : لا يمكن لأحد أن يهزم إسرائيل ، إلا عبد الناصر .. وعبد الناصر مات .. فسوريا وحدها لن تحارب إسرائيل ، ومصر ليست بوارد الحرب .. إنها جعجعة ساداتية ..
اعتذرت منه لارتباطي بموعد ، وخرجت من بين أدواته وكراكيب غرفته ..
بدأت الحياة تدب في جوانب الكلية .. خليط عجيب غريب من الطلاب والطالبات .. إنها عينات من بيئات حلب المتنوعة ، ومن ريفها القريب والبعيد ، ومن المحافظات المجاورة ..
وكنت أظن نفسي أكثر الناس ابتهاجا بهذا اليوم ، فوجدت فرحا غامرا ، متوردا في الوجوه التي قابلتها ، وتفرست فيها أحيانا ، لأقول : سبحان الخلاق العظيم ..
لم يأت أصدقائي .. خرجت أبحث عن هاتف ، لأعرف مكانهم ، فوجدتهم في بيتهم الجديد ، وقد مروا على الكلية قبل قليل ، وأدركوا صعوبة أن يشاهدوني ، فسبقوني ..
في طريقي إليهم ، كنت أسترجع استهزاء الموظف بسؤالي ، وأتمنى في سري ألا تقوم الحرب عاجلا ، ريثما ننتظم في الدوام ، ونعرف قاعات المحاضرات والأساتذة وأسماء المواد ، وغير ذلك .. حتى إذا ما قامت الحرب ، وانتهت ، نعود إلى الكلية كطلاب قدامى ، وليس كمستجدين ، كما هو شأننا اليوم .. إذ لا يجب أن يكون ما بعد الحرب ، شبيها بما قبلها ..
وصلت إليهم ، البيت فارغ ، إلا من الهاتف .. فقط كانت غرفة الإخوة الثلاثة هي الوحيدة التي نقلوا أغراضها ، وكان كل منهم يرتب خزانة ملابسه ، وكتبه ، وأشياءه الخاصة .. فهم أبناء ضابط شرطة متقاعد ، وكان له من العز والجاه ما كان في سنوات خدمته التي وصل فيها إلى رتبة مقدم .. ثم عمل محاميا بعد التقاعد ..
كان الوقت يمر عاديا ، حين ضج البيت برنين الهاتف ، وصداه ، رد غيث .. صاح : أبوس ألله .. قامت الحرب .. ركضنا إليه .. أعطاني السماعة ، وبدأ يقفز بعيدا ، ويبوس ألله .. كانت أمه التي تتكلم ، أخبرتني بتفاصيل ما سمعت ، وخرجنا مسرعين ، أردد على مسامعهم ما قالته أمهم ..
ماذا أفعل في بيتنا ، ولم يكن عندنا تلفاز آنذاك .. ذهبت معهم إلى بيتهم .. شاهدنا الصور الأولى للحرب .. وسمعنا البلاغات .. وألح الأب أن يستبقيني معهم على مائدة الإفطار لنكمل أحاديثنا عما نشاهد ونسمع .. ولم يكن عندنا هاتف أيضا ، فاتصلت بجيراننا ، ليطمئنوا أهلي ..
كنا نتحدث ونأكل ونشرب وعيوننا مشدودة إلى التلفاز .. وحين نسمع صوت المذيع معلنا بلاغا عسكريا ، نتسمر ، حتى إذا ما انتهى ، تعالت صيحاتنا فرحا ، ونتقافز غير مصدقين .. طائرات العدو تتهاوى في الجبهتين .. والجيش المصري يدك خط بارليف ، ويستعد لعبور القناة ..
يا ألله !! أهذا صحيح ؟!!
من يدري ؟؟
وحين اقترب موعد السحور ، لم أعد قادرا على المشي إلى البيت الذي لا يبعد عن بيتهم أكثر من سبع دقائق مشيا ، فأوصلني أبو فهر بسيارته ، وقال لي وهو يودعني : غدا ، السهرة عندنا إن شاء الله .. يجب أن ترى مشاهد الحرب والطيران المتساقط كالذباب الموسمي .. تصبحون على خير ..

الأربعاء/06/تشرين الأول/أكتوبر/2010




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !