كنا سمعنا وقرأنا عن الارهاب كثيرا في بعض البلدان، ولكننا عشنا هذا الإرهاب وشاهدناه حقيقة في بيروت ولبنان عموما، اثناء الاجتياح الدموي الذي نفذّه ابطال الفتنة المذهبية في شهر أيار من العام 2008.
دخل عام 2008، مع تتابع مسلسل الاشتباكات والعمليات التخريبية والفوضوية المتنقلة، التي كانت المعارضة تفتعلها بين الحين والآخر بغية التنغيص على الحكومة والأكثرية، وتذكيرهما دائما بقدرتها على قلب الاوضاع بالقوة اذا لم ترضخ قوى 14 آذار لاوامرها. واصبح المخطط واضحا، الا وهو تفتيت البلد وافراغه من جميع مؤسساته الدستورية والاجتماعية والدينية، والانقلاب على الطائف، مع الاستمرار في إغلاق مجلس النواب، وتعطيل انتخابات الرئاسة، والتمادي في التطاول على المرجعيات الدينية.
تجاه هذا الواقع، ورغم معرفتها التامة بعمليات التسليح التي يقوم بها "حزب ولاية الفقيه"، رفضت قوى 14آذار اللجوء الى سباق تسلح مع الحزب الايراني، وظل رهانها على الجيش والقوى الامنية لتكون حامية الشرعية، لكنها مع ذلك بقيت محتاطة في التنقل بين الالغام التي زرَعها لها الحزب، بهدف توريطها في مسألة ما، يعتبرها الضوء الاخضر لبدء انقلابه المسلح.
بيد ان حذر الحكومة لم يخدمها طويلا، فمع دخول شهر ايار تفاعلت قضية تجسّس "حزب ولاية الفقيه" على حركة المطار، وتمديِده شبكة اتصالات سلكية خاصة به، ما حدا بمجلس الوزراء في 5/5/2008 لعقد جلسة ماراتونية، قرر فيها اعتبار شبكة اتصالات الحزب غير شرعية وغير قانونية، وتشكل اعتداء على سيادة الدولة، وملاحقة كل من يثبت تورطه بها، كما قرر إعادة قائد جهاز أمن المطار إلى ملاك قيادة الجيش، انتظارا لما ستسفر عنه نتائج التحقيقات. وجد الحزب في هذين القرارين ضالته، ليشن حملة عسكرية من الواضح أنها كانت معدّة سلفا وجاهزة، من اجل الاطاحة بحكم الاكثرية واسقاط الحكومة بقوة السلاح.
ففي السابع من ايار 2008، سقط القناع! لقد خطف "حزب ولاية الفقيه" الاضراب الفاشل الذي نظّمته قوى 8 آذار تحت ستار الاتحاد العمالي العام، ليستكمل محاولته الانقلابية ويمدد دويلته، عبر حرب ضد الاحياء الآمنة والمواطنين، خاضتها ميليشياته والتنظيمات الملحقة بها، فعُزِل المطار والمرفأ، وحوصرت العاصمة بيروت التي لم تستجب للاضراب المشبوه. وصرح الانقلابيون: "الآتي اعظم، وستفتح ابواب جهنم على الحكومة العميلة".
ومع اعلان امين عام "حزب السلاح" الحرب على الحكومة حتى تراجعها عن قراريها، و"ان الفتنة وراءنا ولن نخشى منها"، وان "المعركة القائمة ليست فتنة سنية-شيعية، بل بين مشروع وطني مقاوم ومشروع أميركي، واي سلاح يستخدم فيها هو للدفاع عن النفس"، انفجرت موجات مسعورة من العنف المسلح، بظهور مجموعات من المسلحين المدججين بالرشاشات والقاذفات الصاروخية في احياء بيروت الغربية ذات الكثافة السنيّة، التي عاشت اياما لاهبة من الرعب والقلق، خصوصا مع استعمال الإرهابيين اسلحة صاروخية داخل الاحياء السكنية، ومع عمليات القنص والخطف، وتوقيف المواطنين، والتدقيق في هوياتهم، هذا فضلا عن اقتحام الابنية السكنية واحتلالها وتمركُز القناصين على أسطحها، وتنظيم عصابات النهب المسلحة وقطاع الطرق، التي سيطرت على معظم بيروت الغربية، بما في ذلك مؤسسات حكومية اساسية. وما لبثت الفتنة ان امتدت الى عكار وطرابلس والبقاع والجبل، حاصدة عشرات الابرياء.
واتى ذلك كله وسط صمْت اميركي مريب، فَضَح الدعم الكلامي الاجوف الذي كان يتكرر بشكل يومي بلا كلل ولا ملل لحكومة الاستقلال الثاني، وتأمُّل اسرائيلي عجيب، نمّ عن موافقة ضمنية على تنقُّل أرتال "المقاومة" بين بيروت والجبل مكشوفة كما تريد، كما رافق ذلك انحياز واضح للجيش اللبناني والقوى الأمنية الذين ادعوا الوقوف على الحياد، ما أفسح المجال أمام ميليشيات المعارضة وعصابات "اشرف الناس" للمضي قدماً في انقلابها المسلح!
هذا، وقد اعاد انقلاب الحزب المسلّح الى اذهان اللبنانيين امرين:
1- تذكروا الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، خصوصا مع شروع العناصر الميليشيوية باقتحام بيوت بعض الناشطين في "تيار المستقبل"، مصطحبين معهم احد الملثمين من اهل المنطقة لكي يدلهم على منازل اولئك "العملاء"، الذين كانوا يقتادونهم بعد ضربهم وتفتيش منازلهم الى اقبية "الحزب" و"الحركة"، حيث يتم التحقيق معهم وايقافهم مدّة معينة. فقد حاكى الحزب بذلك ممارسات الجيش الإسرائيلي ايام الاجتياح.
2- كما ذكرهم ما فعلته هذه العصابات التي انتحلت صفة المقاومة، من اقفال لوسائل اعلامية وتنكيل بمحتوياتها، وتفجير واحراق مكاتبها، في عاصمة الثقافة والصحافة الحرة بيروت، ذكّرهم بالممارسات القمعية التي رافقت الثورة الايرانية عام 1979، حيث اقفِلت اكثر من خمسين صحيفة ووسيلة اعلامية في إيران، كما جرى تصفية بعض الشخصيات، لمجرد انها تخالف قائد الثورة في الرأي، او ترفض الخضوع لولاية الفقيه المطلقة وان تصبح بوقاً من ابواقها. وهذا تصرّف لا يُقدم عليه الا من عجز عن مقارعة المنطق بالمنطق والحجة بالحجة، فأعلن إفلاسه الفكري، لاجئا الى لغة الدم لقمع مخالفيه وتصفيتهم والغاء الرأي الآخر.
في الرابع عشر من ايار 2008، وصلت اخيرا لجنة الوساطة العربية الى لبنان، وبعد جولات مكوكية على مختلف الاطراف، طلبت من الحكومة التراجع عن قراريها الشهيرين، ليُصار في السادس عشر منه لاقتياد قيادات 14 آذار الى الدوحة حيث حاورهم الحزب الإيراني واضعاً سلاحه على الطاولة، ووقّع معهم اتفاق الغالب والمغلوب في 21/5/2008، الذي انتزع فيه مطلبه المزمن بنيل الثلث القاتل في الحكومة، وقانون انتخاب يرى انه يعطيه الاكثرية، مؤكدا ابتداء زمن "الشيعية السياسية".
واليوم، بعد مضي سنتين على قيام عصابات "اشرف الناس" بانقلابها الدموي المسلّح، يمكن استنتاج خمسة امور هدف الحزب الايراني الى تحقيقها من خلال جريمته الوحشية في السابع من ايار:
1- التنفيس عن حقد دفين عمره مئات السنوات: ولعل خير معبّر عن ذلك اعلان حسن نصر الله في 15/5/2009 السابع من ايار 2008 "يوما مجيدا من ايام المقاومة في لبنان"!
ففي ذلك اليوم "المجيد"، قام مقاومو الدولة اللبنانية والوحدة الوطنية والعيش المشترك ممثلين بالحزب الايراني و"حركة أمل"، بهجوم واسع على أهل السنّة فى بيروت بالتعاون مع حلفائهما من القوى التابعة للنظام السوري، عاملوا فيه اهل بيروت بمنتهى الوحشية والارهاب، معبّرين عن حقدهم الدفين بأبشع الممارسات، خصوصا مع اطلاقهم هتافات وشعارات مذهبية وطائفية بذيئة، استخدامهم تعابير دنيئة، وتفوّههم بالفاظ ساقطة ونابية جعلت الاناء ينضح بما فيه... ولم يكتفوا بذلك القدر من الممارسات التي اتخذت طابع التطهير المذهبي، بل حاولوا اقتحام دار الفتوى ومنزل مفتي الجمهورية، ومنعوا المسلمين من اداء صلاة الجمعة في مناطق نفوذهم!!
كما نفّسوا عن حقدهم بضرب الركيزة التنظيمية الأساسية والشعبية لـ"تيار المستقبل"، ومن ضمنه ومن خلاله تم تنفيذ مخطط اقليمى لضرب قرار اهل السنّة فى لبنان، وهذا ما اثبته الواقع المحلي خلال هذين العامين، فقد انهار التشكيل الأمني لـ"تيار المستقبل" الذى شكّل حالة كبيرة على مستوى المناطق السنية كاملة، وجرى تطويعه سياسيا للقبول ولو بشخص زعيمه سعد الحريري بتشريع السلاح الميليشيوي في البيان الوزاري لحكومة "الدوحة الثانية"، التي شجعت السلاح من خارج الدولة على التنامي والتوسع في كل مكان وموقع.
2- تعديل اتفاق الطائف: فقد ادّت غزوات السابع من ايار التي افضت الى احتلال العاصمة بيروت، ومهاجمة الجبل ومناطق اخرى، الى فرض تسوية قسرية تحت النار تمثلت "باتفاق الدوحة"، الذي مثّل اختراقا جوهريا في جسم اتفاق الطائف بترسيخه سوابق عدة في الحياة الدستورية والمؤسساتية في البلاد، فأضحت اليوم بعد الانتخابات النيابية الاخيرة وحلول استحقاق تشكيل الحكومة، عرفا مكرّسا بسابقة "اتفاق الدوحة" وبتهديد السلاح في الشارع.
ويمكن حصر تلك الاعراف والتعديلات التي تمثل تشويها لدستور الطائف ونسفا لبعض ركائزه، بستة اساسية تمثل بحد ذاتها انقلابا على الطائف:
اولا- عرف الثلث المعطل، وان بشكل ضمني يتمثل بالوزير الحادي عشر المموّه ضمن حصة رئيس الجمهورية، وهو ثلث جعلوه شرطا "للمشاركة" ومرادفا لـ"الشراكة الحقيقية".
ثانيا- ما يعرف بالـ"ديموقراطية التوافقية"، التي تتنازل الاكثرية بموجبها عن حقها في الحكم، ما يجعل الانتخابات النيابية من دون جدوى.
ثالثا- جعل حكومة "الوفاق الوطني" التي نص عليها اتفاق الطائف لمهمات محدَّدة بعد إقراره، حكومة مفروضة ومحتَّمة في كل الأزمنة، تحت عنوان "حكومة الوحدة الوطنية".
رابعا- ترك لكل فريق سياسي ممثلاً برئيسه، حرية اختيار وزرائه في الحكومة وتحديد حقائبهم الوزارية.
خامسا- ومن اعراف "اتفاق الدوحة" ايضا: تكريس حصة رئاسية ثابتة داخل الحكومة لم يلحظها اي نص دستوري، مما انعكس تقليصا في حصة الاطراف المسيحيين في الاكثرية.
سادسا- فرض بند في البيان الوزاري يتكرر للمرة الثانية بعد بيان حكومة "الدوحة الاولى"، يساوي سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى بـ"المقاومة" المحتكَرة من قبله، بسلاح الجيش اللبناني، وينتقص من سيادة الدولة على كامل اراضيها.
هذا، ويعدّ تكريس تلك الاعراف امرا خطيرا على الدستور والصيغة اللبنانية التي تَوافَق عليهما اللبنانيون في الطائف، ذلك ان تكريس العرف يعني بعبارة اخرى تعديل الدستور.
3- اما الهدف الثالث لانقلاب ايار فهو: كسر هيبة الدولة، اذ منذ قيام حزب عصابات "اشرف الناس" بغزوته "المجيدة"، لم يتوقف يوما عن التذكير بـ7ايار"المجيد"، مُشعِرا الدولة ومختلف الطوائف والقوى السياسية المعارضة لمشروعه ان عليها ان تختار بين امانها بالاستسلام لما يريد، وبين عدم استقرارها إن لم تقدّم له واجب الطاعة.
واليوم، مستقويا بسلاحه وبـ"الامجاد" التي سطرها باستعماله اياه في الداخل عندما وجهه الى صدور اللبنانيين، ومن خلال التهديد بالفتنة واهتزاز السلم الاهلي والوحدة الوطنية، نجح الحزب في احلال تسوية الدوحة المؤقتة مكان الطائف، فمدد امدها الى اجل غير مسمى، بعد انقلابه على نتائج انتخابات 2009، لاسيّما لناحية تثبيت بدعة الثلث المعطّل المتعارضة مع الدستور، واحلال بدعة "التوافقية" المفروضة بقوة السلاح مكان الديموقراطية البرلمانية التي يفترض ان تحكم على اساسها البلاد.
وبما ان ما من سلاح خارج الدولة الا كان سببا لجعل حامليه يتمردون على السلطة وعلى قوانينها، ولا يخضعون لها كسائر اللبنانيين، بات الحزب فوق القانون، وله إعلامه وماكينته الاعلامية التي تعمد لتضليل الرأي العام اللبناني والعربي والاسلامي، وشبكة اتصالاته، ومطاره، وجواسيسه، ورجال أعماله... حزب بات يختزل الدولة بكاملها ويجعلها تهابه لدرجة لا تستطيع إدارة المرور اللبناني مساءلته تحت بند القوانين الخاصة بالدراجات النارية التي تجوب شوارع بيروت، على الطريقة الإيرانية.
كما تحوّلت مختلف المناطق الواقعة تحت سيطرة "حزب ولاية الفقيه" و"حركة امل" بسبب خروجها على سيطرة الدولة اللبنانية الى مربعات امنية ممنوعة على الدولة، وباتت ملجأً للرعاع، ومرتعا لكل الاعمال الخارجة على القانون من تجار مخدرات، وقتلة فارين ومطلوبين بجنايات وجنح، ومحكومين متوارين عن الانظار منذ سنوات، ومواطنين عرب دخلوا لبنان بطرق غير شرعية معظمها عبر الحدود السورية، وتجار اسلحة وسيارات مسروقة من مختلف انحاء البلاد، وهي سيارات يجري تجميعها في مرائب بالضاحية الجنوبية وملحقاتها لتغيير ارقام هياكلها الاصلية واعادة طلائها بألوان مختلفة، فيما معظم الدراجات النارية التي يستخدمها عناصر الحزب والحركة للمراقبة والاعتداء على المناطق الاخرى مسروقة وحتى من دون ارقام مسجلة!!
4- توسيع رقعة الدويلة: فبعدما كسر هيبة الدولة بإرغامه اياها تحت سطوة الانقلاب الدموي على التراجع عن قرارها الذي اعتبر شبكة اتصالاته غير شرعية وغير قانونية، تمكن الحزب من تمديد شبكته غير الشرعية لكي تغطي معظم الاراضي اللبنانية، وتابع تغلغله المليشيوي في المناطق اللبنانية من دون وازع، في محاولة منه لزرع القواعد الامنية والعسكرية في كل مكان، ونسف الخريطة الديموغرافية اللبنانية من خلال احتلال واستملاك اراضي شاسعة ومواقع استراتيجية في قرى مسيحية وسنية ودرزية.
وخلافا لما يشاع، لا يزال احتلال العاصمة بيروت قائما وان بشكل مموّه، وجرى التمدد الميليشيوي في محيط جبل لبنان الجنوبي وقلبه، وهو يستكمل اليوم في اعالي سلسلة جبال لبنان من الباروك الى الارز.
5- محاولة تغيير خارطة التحالفات السياسية: ونعني بذلك تحديدا غزوة الجبل في 11 ايار 2008، التي اراد بها الحزب اخضاع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من خلال تقديم نموذج عملي يظهر قدرة الحزب على اشعال الفتنة داخل الصف الدرزي في الجبل وبين الدروز والشيعة. وكان حمام الدم الذي شهده الجبل في ذلك اليوم الاسود كافيا لقلب المعادلة، فقد قرر جنبلاط بعد حوادث 7 أيار 2008 ومتغيراتها، وحرصاً (بزعمه) على سلامته وسلامة "شعبه" ودوره في لبنان، ان ينقلب على نفسه وعلى شعبه، شاطبا سنوات الحرب الشعواء التي شنّها على النظام السوري منذ اواخر 2004 وسنوات النضال المشرّف التي امضاها مع قوى 14 آذار، عائدا الى التحالف مع النظام السوري عودة تدريجية تقرب من "عودة الابن الضال"!!
فقد اعلن جنبلاط صباح الاحد 2 آب 2009، ومن فندق "البوريفاج" تحديداً، بما للمكان من دلالات معبرة، أن تحالفه مع قوى "14 آذار" كان بحكم الضرورة ويجب ألا يستمر، مشددا على وجوب "إعادة التفكير بتشكيلة جديدة من أجل الخروج من الانحياز وعدم الانجرار إلى اليمين"!! ولم يقف جنبلاط2009 عند هذا الحد، بل سلك خط الزحف نحو الشام والقبول بالسلاح غير الشرعي، فوصل به الامر بعد اجتماعين مطوّلين مع حسن نصر الله الى حد استجداء زيارة لسوريا من على منبر تلفزيون "المنار" في 13/11/2009، حيث اعلن ان "المصالحة مع سوريا قد حصلت مع عودتنا الى الثوابت". وبالفعل نال مراده في 31 آذار 2010 عندما استقبله بشار الاسد في دمشق طاويا صفحة الماضي، وذلك بعدما تلا جنبلاط فعل الندامة واعتذر مذلولا عما بدر منه من تصريحات عدائية تجاه النظام السوري، في مقابلة اجرتها معه قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية بتاريخ 13/3/2010، فقد قال جنبلاط: "(...) صدر مني في لحظة تخلّ كلام غير لائق وغير منطقي بحق الرئيس بشار الاسد في لحظة من التوتر الداخلي والمذهبي في لبنان والانقسام الهائل. وكانت لحظة تخلٍ كما يقول العقلاء الدروز (...) هل يمكنه تجاوز تلك اللحظة وفتح صفحة جديدة؟ لست أدري"! وتطرق الى ذكرى استشهاد والده كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، فلم يتورع عن اغتياله مرة ثالثة بقوله: "اليوم ستختم هذه المرحلة. آنذاك قلت أسامح ولن أنسى. اليوم أسامح وأنسى"!!
بعد مصالحته مع الاسد وعودته من دمشق، بدأ جنبلاط يقدّم اوراق اعتماده للنظامين السوري والايراني تباعا، واخذ يسدّد فواتير قديمة لـ"تسكير" حسابات الماضي؛ وقد بدا ذلك بوضوح من خلال تصريحين:
الاول: قوله لصحيفة "الشرق الاوسط" (نشر بتاريخ 22/4/2010): "مسيحيو 14 آذار ليسوا حلفائي"، موضحا انه: "لا يستطيع السير مع منطق يقول إن سلاح المقاومة يشكل خطرا على لبنان"، ورافضا بشدة "ما يقال عن سلاح "حزب الله" بأنه امتداد إيراني"، مُرحِّبا بالدور الإيراني "لأن إيران تحمل علم فلسطين"!!
اما التصريح الثاني، فقد ادلى به لصحيفة "الاخبار" (عدد 23/4/2010)، موجها انتقاده هذه المرة الى حلفاء الماضي قائلا: "خرجت من عقدة 7 أيار 2008 ولم يخرج منها الآخرون. عرفت أخطارها وكانت العودة الطبيعية إلى سوريا عندما استقبلني الرئيس الأسد". وتابع مصوبا سهام الحقد السورية بالوكالة نحو "القوات اللبنانية"، تلك الارزة الصامدة دوما في وجه الاعاصير والاطماع البعثية والاجنبية، فقال منتقدا الدكتور سمير جعجع: "ظننت انه انضم الى اتفاق الطائف لكن لا يبدو ذلك(...)، يتحدّث جعجع اليوم بلغة بشير الجميّل واليمين اللبناني. جعجع يكشف نفسه يوماً بعد آخر ويستخدم كلاماً مقلقاً، ولا يريد أن يتعلّم من تجربة الماضي. لو كنت مكانه، لالتزمت الصمت أو لزايدت على كلام المقاومة. لم أعد أفهم عليه، وإذا استمر كذلك فلا أعرف كيف يمكن المحافظة عندئذ على ما بقي من وجود مسيحي في لبنان"!!
الا ان الحكيم في اليوم التالي، تعامل بحكمة مع هذا الاستدراج الموجّه سوريًّا، فكان رده مفحما وعلى درجة عالية من الذكاء والحنكة السياسية، عكست الحس القيادي الرفيع والمسؤول الذي يتمتع به هذا الرجل، فعندما قيل له: هل يعني انتقاد النائب وليد جنبلاط له ان الاجواء وصلت الى حال من التوتر؟ أجاب: "أقول بكل صراحة، العلاقة ليست متوترة على الإطلاق، ولكن "ضرب الحبيب زبيب"، بالتأكيد ليس هناك أي توتر، لكن لدى وليد بك اعتباراته ".
خلاصة الامر، بعد استعراض حوادث السابع من ايار الارهابية والاهداف الناتجة عنها نقول: ان "المقاومة" التي يتلطى خلفها هؤلاء لتحقيق مشاريعهم الهدّامة وتخوين كل من عارضهم، هذه "المقاومة" انتهت صلاحيتها وانتفت مهمتها وضاعت شرعيتها وانكشفت فِرْيَتها... لقد فعلت مقاومتهم ببيروت ما خجل الاحتلال الإسرائيلي عن القيام به عام 1982!!
فأية مقاومة هذه تخطف مرفأ بلادها ومطاره؟! واية مقاومة هذه تحتل عاصمة بلادها؟! واية مقاومة هذه توجه "سلاح الغدر" الى صدور شعبها مردية اكثر من ثمانين قتيلا؟! واية مقاومة هذه توقظ الفتنة المذهبية بين طوائف وطنها؟! واية مقاومة هذه تصب ممارساتها في مصلحة "عدوّها"؟! واية مقاومة هذه تحرق مبنى تلفزيونيا ومبنى جريدة لبنانية؟! واية مقاومة هذه تعلن تاريخ اقتراف اياديها الآثمة تلك الجرائم الارهابية، "يوما مجيدا من ايام المقاومة في لبنان"؟! ثم يأتون بعد ذلك ليعطونا دروسا في الوطنية واللاطائفية واللامذهبية، وهم الطائفيون الأُوَل والفتنويون الاُوَل، الذين بنوا جيشا مذهبيا خالصا معاديا للصيغة التعددية الديمقراطية اللبنانية بدعم ايراني، في مواجهة كل الطوائف اللبنانية المسالمة، في محاولة لهيمنة طائفتهم على لبنان.
عجبا، ومَنْ اخذ وما زال حتى اللحظة يأخذ البلد مع حلفائه الى هذا التوتر المذهبي المدمر للبنان والقاتل للعيش المشترك بين كل الطوائف والمذاهب غير هؤلاء "المقاومين الابطال"، الذين بات تنظيمهم المسلّح يهدد النسيج الاجتماعي الذي يتألف منه لبنان، بأخذه الطائفة الشيعية التي يحتكر قرارها بعيدا جدا عن توجهاتها الوطنية، وتشكيله الخطر الاوّل على السلم الاهلي، لاسيّما مع استعماله السلاح في المعادلة الداخلية في 7 ايار 2008 وتذكيره بامكانية استخدامه مجددا كل يوم، لكي يحصل على كل ما يطرحه بالتهديد والوعيد!
لكن، مع ذلك، يبقى السؤال محيّرا: هل فرحت إسرائيل "بهديّة" 7أيار2008، التي تزامنت مع تحضيراتها لاحتفالات الذكرى الستين لقيامها؟! وهل كانت صفقة تبادل الاسرى في 16 تموز 2008، التي اعادت رفع شعبية الحزب المنكوبة على اثر غزوة ايار، والتي افرجت اسرائيل بموجبها عن خمسة اسرى لبنانيين بينهم المتشيّع سمير القنطار واعادت رفاة 199 مقاتلاً من جنسيات متعدّدة...هل كانت "مكافأة" للحزب على "بطولاته المجيدة"؟!
الاجابة متروكة للتاريخ، وفي الانتظار، لن ينسى اهل بيروت غزوة 7 ايار، كما لن ينسى اهل الجبل ارهاب الحادي عشر منه، وسيبقى جمهور 14 آذار وفيا لخياراته والتزاماته الوطنية التي عبر عنها بالتظاهرة المليونية بعد عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لايضره غدر "المقاومين"، ولا انقلاب المنقلبين، ومهما تعرض لضغوط وارهاب وتخويف، سيظل على العهد متمسكاً بثوابت "ثورة الأرز".
التعليقات (0)