الفلقة :
قلما نجا احد من فلقة على الارجل ، او القفاء ، من مدير المدرسة او المعلمين او ربما الاذن احيانا ، كانت العصي من انواع شتى متوفرة بين ايدي المعلمين ، بل كان مدير المدرسة يوفرها بمعرفته ، اما اولياء الامور فكانوا يرددون العبارة ذاتها على وجه العموم كلما زار احدهم المدرسة :
( اللحم الك والعظم النا .. ) وكان هذا بمثابة تصريح واذن مفتوح بالعقاب على اتفه الاسباب ، خلال دراستنا الابتدائية والاعداية في مدارس الوكالة سواء بالخيم او البركسات لاحقا .. لم اشعر بمحبة أي معلم ، كما لا ارى ايا منهم محبا لاي منا ، كانوا يدرسون بجدية ، وبرقابة صارمة من الادارة المدرسية والادارة التربوية في مكتب الوكالة ، وكنا نحس بذلك عندما نرى ارتباك المعلمين في المدرسة عندما تأتي سيارة الوكالة ذات النمرة الزرقاء ، فتسمع كلمة المفتش .. المفتش .. كثير من المعلمين كان يهرب بعض الطلاب ( التيوس )الى صفوف اخرى او خارج المدرسة ..ويحضر طلاب ( شاطرين ) من صفوف اخرى ليظهر باحسن صورة امام المفتش الزائر القادم من مديرية التعليم في مكتب الوكالة .
كان مدير المدرسة ( ................................ ) يدرس مادة التربية الاجتماعية ، تاريخ وجغرافيا ..رجل طويل القامة ، داكن البشرة ، ربما انه من منطقةاريحا اوطبريا ..عريض المنكبين ، كبير الرأس ، معتز بذاته كثيرا ، صاحب نظرة عبوسة على الاغلب ، لم اراه مبتسما قط ..يتجول كامباطور بين الطلاب ( الصلعان والقرع ) يجمع اصابه ويقبضها ويجعل الابهام في وسط الشاهد من الداخل فيدفعه الى الخارج ، لينقر به رأس كل من لم يقص شعره وهو ينهره بلغة عربية فصيحة ولكن بجفاف وغلظة وغضب واضح ( احلق ) ويكررها مرارا وتكرارا لكل من لم يقص شعره .. طبعا هذه النقرة تضرب عصبا ما ، تجعل الالم يسري من الرأس الى اخمص القدمين ، ثم يشعر المضروب بدوار للحظات ..
المدير لا يجب ان يتجول في المدرسة ، ولا يجب ان يدخل الصف بدون تلك ( الخيزرانة ) وهي قضيب من الخيزران – البامبو – تشترى من السوق لغايات التأديب ..كان عادة يلفها (بالتب ) وهو نوع من البلاسيتك الملون بالوان مختلفة لاصق ، يتسخدم الان في اعمال الكهرباء – وقتها لم نكن نعرف الكهرباء – كان المخيم يضاء بالقناديل واللوكسات .
كان في المدرسة اذن من المخيم - .............. - وكان بمثابة الدركي او الحارس الشخصي للمدير او المساعد في اعمال التأديب ، يذهب ابو - .................... الى الصف ويحضر المذنب الى الادارة ، يجلسه على كرسي من الزان ، ثم يقلب الكرسي ليقف على قائمتيه الخلفيتين ، فترتفع ارجل الطالب المذنب الى الاعلى ، ثم يمسك بها من الركبة ، ويحررهما من الحذاء ، ليتمكن المدير من اداء دوره باتقان ، حيث يقوم بالضرب على باطن القدمين( بالخيزرانه ) وهو يقول ..ولك يا بوشت ..ولحد الان لا اعرف ما معنى بوشت .. ولا يتركه الا عندما يعلو صياحه ويعم المدرسه ، وربما لا يتمكن من لبس الحذاء او المسير الى غرفة الصف ، وكان هذا يترك اثرا سلبيا وسيئا على نفس الطالب لا يستطيع ان يقاومه وهو يرى الطلاب يستهزؤون به ويضحكون عليه خاصة اذا كان الطالب من الطلاب ( التيوس )..
اما المعلمين فكانوا يمارسون انواعا مختلفة من الفلقة ، منها الفلقة على الارجل ومنها الفلقة على القفاء ، وكانت الاسباب اكثر من ان تعد ، فالتاخر عن الدوام صباحا ، او عدم حل الواجبات، او عدم القدرة على تسميع المحفوظات او جدول الضرب او الاجابة على السؤال او الاعتداء على الاخرين كانت كلها اسبابا موجة للعقاب ، وغالبا ما كان العقاب المفضل لديهم الفلقة لانه الاكثر ايلاما جسديا ونفسيا ، في الصف يجلس في المقعد الامامي طلاب قويي البنية ، يمسكون بالطالب المذنب من كلتا يديه ، ويسحبانهما نحوهما ثم بساقيهما وارجلهما يسحبان ويثبتان ساقيه وقدميه ، فتبرز مؤخرته نحو المعلم ،المستعد المتهيئ بعصاته ، وهو يقول بصوت ناهر: شدوه.. ويبدأ الضرب على المؤخرة ، المضروب يتوجع ويصرخ ويولول من الالم ..بينما الطلاب الاخرين والذين كانوا يمثلون الجمهور يضحكون ويقهقهون ، مما كان يزيد من الالم في نفس المضروب .
ربما يعود الطالب المضروب الى البيت ، وربما يرى الاهل آثار تلك الجريمة ، ولكن بدل ان ينتصروا له ربما يعاقب لانه لم يعاقب الا لانه كان قد قصر .. والتقصير له عقاب .. لذلك كان الكثير من الطلاب يعظ على وجعه ، ويكتم المه ، ويخفي آثار الضرب ، حتى لا تظهر حتى لا يعاقب مرة اخرى فوق العقاب الذي ناله في المدرسة .
ربما يظن البعض هذه الايام ان في هذه الصورة مبالغة ، وظلم لمن كان لهم حق علينا ، على اعتبار من علمني حرفا كنت له عبدا ، ولكن هذه الحقيقة بكل تفاصيلها ولو كانت مؤلمة .
ومع هذا استطاع ذلك الجيل من المعلمين ، تحت التهديد والوعيد ، والضرب ، والسب والشتم ، استطاع ان يخرج جيلا مميزا ( جيل خمسينيات وستينيات القرن الماضي ) فخرج من مدارسهم طلاب ناجحون ، خاضوا تجربة الحياة بكل اقتدار وصبر وعنفوان وعزيمة ، نهضوا بانفسهم واهليهم ومجتمعهم، وقد بدأوا من تحت الصفر بكثير ، ويمكن ان نلاحظ الكثير منهم اليوم في مراكز عدة ، ووظائف مختلفة ، واوضاع اجتماعية واقتصادية اذا لم تكن ممتازة فهي مقبولة .. ونرى الكثير من ابناء ذلك الجيل (البطل ) وقد صبر وناظل وكافح ،نراهم يكنون كل التقدير والعرفان والاحترام لاوئلك المعلمين الافذاذ الذين اعدوهم وخرجوهم على الرغم من كل ما كان من شظف العيش وقلة الامكانيات .
التعليقات (0)