المنظمات الفلسطينية .. حرب أيلول ..
خلف مكان بقالة شداد الان وفي مكان بيت ........ الآن كان مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وتحت النادي الآن ، كان مقر فتح ومعسكر التدريب ، وأمام دار العزازي الآن كان مقر الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ، ومكان مخفر المخيم الآن وفي البناء ذاته كان مقر الكفاح المسلح ، بينما كان في كل مدخل من المداخل حاجز عسكري فلسطيني ، فلم تكن تمر سيارة او تخرج من المخيم الا وتمر على حاجز من الحواجز العسكرية وكان على السائق كما على المرافقين اثبات هوياتهم الشخصية .
كان على الحاجز ، متاريس من أكياس الرمل مرتبة فوق بعضها البعض ، خلفها ثمة حفرة صغيرة ، يتمترس فيها فدائي يقض ، بلباسه المرقط المموه ، وقبعته العسكري وشعار فتح على جبهته ، يقف خلف رشاش نوع 500 او قاذفة RBJ وبجانبه زميل او زملاء كل منهم يحمل كلاشنكوف بباغتين محزومتين بالتب ، ويتمنطق بحزام عسكري علقت به مجموعة من القنابل اليدوية ، وهو في اشد حالات الاستعداد والانتباه أيضا ..لم اكن اعرف لماذا هذه المتاريس ، وما الغرض منها ، وما هي الفائدة المتوخاة منها ، ومن هم الفئة المستهدفة بالتفتيش ولماذا وما هي الشكوك التي تحيط بهم .. عموما كان ذلك الامر موجود في كل مدخل .. وكان الكثير من الاهالي يتذمر وغير مرتاح لتلك الحواجز الامنية التي تقيد حركة الناس البسطاء .
كان مسكر التدريب بالقرب من المدرسة ..بل كان على سور المدرسة تقريبا ، كان المعسكر مجموعة من الخيم في اجهة الجنوبية ، كانت كماكتب للقاد والادارة والمدربين ، بينما كانت المساحة التي امامه وهي طويلة ممتدة الى حدود الوادي من الشمال الى حد المقبرة حاليا .. كانت هذة المساحة وهي ميدان التدريب ، وكانت محاطة بشيك من الشبك العنكبوتي ..وكانت تتوزع على امتداد الشيك ما يشبه ابراج المراقبة ، في كلل منها احد العناصر بسلاحة الكامل . وكان في اليل عليه ان يحمل كلمة السر والتي كان عليه ان يطلبها من كل من يقترب منه والا هدده باطلاق النار على اساس انه غير مصرح له بالدخول او الاقتراب كونه لا يعرف كلمة السر .
توافدنا على معسكر التدريب كاشبال ..نبحث عن الزيت والزعتر والخبز الذي كان يقدم مجانا ..وبالتالي كنا اشبالا في معسكر التدريب وكان علينا ان نحمل اسما حركيا ، ونخوض تدريبا عسكريا ، وناخذ دورنا في الغفراة والحراسة بعصا بدل السلاح ، كما كان علينا ان نجد في دراستنا . وان نلعب كسائر الطفال في الدنيا ..
اتذكر اليوم .. ان عنصار تلك المنظمات كانوا يقفون صباح كل يوم امام احدى ثلاثة مخابز ، مخبز ابو احمد الفران ، مخبز ابو النصر ، ومخبز اابو ابراهيم الدرباشي .. وذلك لياخذوا حصة المعسكر رغيف من كل خبزة ( الخبزة هي : كان الناس يؤمنون الطحين في بيوتهم ، كمونة سنوية او شهرية ، كل حسب امكانياته وقدراته ، وكانت النساء تعجن العجين في البيتوت وكانوا يقطعونه على كل قطع او اقراص ، ثم يذهبن به الى الفرن ، وكانت هناك ثلاثة منها ..وذلك لخبز العجين .. وكان المخبز يأخذ على الخبزة الواحدة او عدد الارغفة مبلغا من المال .. بينما كان على النساء ان تدفع ايضا رغيفا او اثنين لذلك العنصر ) ..كنت ارى ان اغلب الناس كانوا يدفعون الارغفة بنفس راغبة راضية ، فهم يقدمون الخبز لمن يريد ان يحرر فلسطين ..وبالتالي ما يقدم قليل مقابل هذا الهدف الكبير .
كان الكثير من ابناء المخيم كما ابناء الشعب العربي الفلسطيني في كل المخيمات الاخرى ، معبأ بفكرة التحرير والثورة ، الى جانب الحماس ، والرغبة في العمل ، ولكت تعدد المرجعيات والتنظيمات ، واختلاف الرؤى والتوجهات والقناعات والاعتقادات الفكرية ربما ساهم في تتيت الفكرة ، واختلاف المسارات التي لم تكن كلها حتما تؤدي الى نقطة واحدة ..
كان الشباب الفلسطيني في المخيم ، يتجولون ، بلباسهم المرقط ، وقبعاتهم وهم يزيننوها بشعارات منظماتهم ، يتجولون وهم بكامل سلاحهم ، وقنابلهم ، واليوم اتساءل ما هي ضرورة حمل كل تلك القنابل على نطاقاتهم ، والكلاشنكوف بيده ..والحربة ( السلاح الابيض ) على خاصرته ..ما فائدة ذلك غير الاستعراض ...اليوم اتذكر كل تلك الاخطاء التي كانوا يرتكبونها باسم الثورة ..ولكن وللحق كانت هيئتهم تلك تملؤني فخرا واعجابا ..وكم كنت امني النفس ان اكبر سريعا لاكون واحدا منهم .
ومع هذا ( الاخطاء الصغيرة التي حدثت ) الا انهم شباب نذروا انفسهم للقضية ، وبعد ايلول عام 1970 وخروجهم الى بيروت .وما تبع ذلك من احداث الى اليوم ..وهم يدفعون واهلهم وذويهم الكثير الكثير من اجل القضية .
فكم من شهيد جاء من لبنان ، وتونس ، وليبيا ، وسوريا ، والجزائر ملفوفا بعلم فلسطين ، قضى نحبه غريبا بعيدا طريدا مهددا ، وكم احتفى بهم اهل المخيم ، وكان الشهيد القادم يتحول الى ابن واخ لكل واحد في المخيم ، وكم سجين في سجون العالم العربي كله ، وكم من اسير ومفقود وجريح ومعاق ومحروم من دخول بلد معين حتى وهو شهيد ، حتى وهو مبعد ، كم منهم نفي نفيا الى الغرب بعد ان رفضت (بلاد العرب اوطان من استقباله ).ولا زالت ذاكرة اهل المخيم تكتظ بعشرات بل مئات القص عن هؤلاء الشباب وما قدموا .
كان المخيم عن بكرة ابيه يرفع اعلاما سود على تلك البراكيات ، حداد على استشهاد شهيد في مكان ما من هذا العالم الذي توزع الشعب الفلسطيني ..كمنافي اجبارية . وكان من يمر بالقرب من المخيم ، وياهد تلك الاعلام وكانها غمامة سوداء تضلل المخيم ، يتساءل عن ذلك بعجب ، ويقول : انهم يرفعون اعلاما سود .
ليس هذا فحسب بل ان الكثير من ابناء المخيم في عام 1982 عندما اجتاحت اسرائيل لبنان تطوعوا للالتحاق بتلك الثورة ، والانظمام الى اؤلائك الثوار ، وتلك الحرب التي كانت تستهدف بكل ما فيها الوجود الفلسطيني والمواطن الفلسطيني المشرد واللاجىء في مخيمات لبنان .
كان الفتى اجعد الشعر ، يهم قبيل المغرب الى دكان علان ... بيده كوب لشراء الطحينية .. كانت امه نفاس بعد انجابها الاخ الخامس عمار وقبل ان يصل الى الدكان تعالى صوت الرصاص والمدافع والطلقات النارية التي كانت تذهب فوق المخيم باتجاهين متعاكسين ، من الشمال الى الجنوب ومن الجنوب الى الشمال ..بات الفتى الصغير وكان عمره لا يتجاوز سبع سنوات ، بات كقشة وسط عاصفة هوجاء ، وقد ساد المخيم فوضى عجيبة ، لم يشهد لها مثيلا ، الناس اخذت تركض في اتجاهات شتى ، على غير هدى ولا طريق منير ، نعم كان الظلام قد احكم سطوته على المخيم الا من تلك الحمم النارية التي كانت تعترض بعضها في سماء المخيم وهي تزمجر بصوت الازيز المرعب ، الذي يعقب صوت الانفجار الهائل .
اخذ الفتى الخائف ، يلجلج في الحارة ، بين براكيات الصفيح والخيم ، وصوت عويل وصراخ يتعالى من اماكن كثيرة ، لم يعرف الى اين يذهب او ماذا يفعل ، لقد فعل الخوف به ما فعل ، فصار يبكي ويصرخ وينادي على امه وابيه ، الذي لم يكن وقتها في المخيم ، كان يعمل مزارعا لدى (مزارع وصفي التل الذي كان رئيسا للوزراء ) وقتل غدرا في القاهرة . ولقد ذكر والده الكثير الكثير عن هذا الرجل وصفي التل ، وعن بساطته واناقته ولباقته وحبه للفقراء والكادحين والبسطاء من الناس ..
وجده احد الجيران ، اخذ الفتى الصغير اجعد الشعر الخائف ، اخذه الى براكية اهله ، وجد ان الناس ومعهم اهله ،يركضون بشكل جماعي مرعب ، يدفعهم الخوف والرعب ، وصوت الرصاص ، ودوي القنابل ، والتجارب السابقة ..كل ذلك كان يدفعهم الى الهرب والاختباء في ملجاء كبير تحت الارض ، بناه الجيش العراقي لصالح منظمة التحرير الفلسطينية ( وكانت ترف عليه فتح )..
الملجأ .. البناء الوحيد وقتها الذي كان من البلك والاسمنت والحديد المسلح ،بين البراكيات من التي صنعت من الصفيح في بلك 2 ، بناء كبير ممتد في مجموعة من الغرف ، يتربع فوق خندق او ملجأء ..راح الناس يسمونه فيما بعد خندق مرعي ( نسبة الى مرعي الشوح ) الذي سكنه حرب ايلول ، وخروج المقاومة من الاردن .
وجدت نفسه مع خلق كثر لم يذكر انه التقى بمثلهم في حياته في مكان واحد ، وكان مكرها على مشاركتهم النوم والاكل والرب وقضاء الحاجة في المكان ذاته لامد غير معلوم الى الان . الظلام يحيط بالناس بكل مكان ، المكان معتم كامل الاظلام ، درجة الحرارة في الاسفل تكاد تكون فرن ، والهواء يكاد يكون معدوما ، وصراخ الاطفال وبكائهم ، وعصبية الاهل وتوترهم ، وضيق المكان ..كلها كانت تتجمع كأنه بشكل مقصود لقتل اخر امل في البقاء او الصمود ..
الكثير من الناس ، بعد فترة رفض البقاء في هذا المكان ، واصر على الخروج الى ظهر الارض كما ينبغي للانسان ان يكون وهو على قيد الحياة ، وكانوا يرددون :
اذا بدنا نموت نموت واحنا واقفين ..مش ندفن حالنا واحنا بعدنا طيبين .
وراحت بعض الاخبار التي تصدر من الطابور الخامس ..تنهال على الناس ..فلان قتل ..فلان جرح .. بيت فلان قصف ..
كانت لحظات ..من اقس لحظات العمر التي اتذكرها ، ولا تعدلها أي لحظة حتى يوم ان خرجنا من فلسطين ، فيومها لا اتذكر اشياء ذات اهمية لحظة الخروج الا اننا نمنا في العراء ..ولا يوجد في ذاكرتي اصوت للمدافع او الرصاص .. لكن الصورة الاكثر ترددا هي :
منظر الجنود العرب وهم ينسحبون ، او يهجمون ، لست ادري ، ولكن اتذكر انهم كانوا يرافقونا في رحلة الحروج ، كما اتذكر الشاحنات التي كانت تحملهم ، اتذكر انني كنت اقول لهم عبارة لست ادري ممن سمعتها ومن كان يرددها : الله ينصركم .. الله ينصركم .. وكالعادة ذهب دعائي لهم ادراج الرياح فلم ينتصروا وخروجوا مهزومين منهزمين كما خرجنا نحن مطرودين لاجئين .
التعليقات (0)