من أدب المقاومة العراقية
يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (13)
هل يدرك جنود الاحتلال أن خلف أبواب هذه البيوت فتاة شابة كبرت بسرعة، شاخت قبل أونها؟
ميدل ايست اونلاين
بقلم: كلشان البياتي
كانت ضيفة أمي، امرأةٌ غريبة عني، لم يتسن لي رؤيتها قبل هذا الوقت، لم تكن من قريبات أمي ولا من صديقاتها، والوجوه الغريبة أصبحت تثير التساؤل بعد الاحتلال .. من عساها أن تكون؟ زيارة امرأة لبيتٍ فيها فتيات عازبات كثر قبل الاحتلال كانت تفسر تفسيراًً واحداً لا ثانية له (جاءت لتخطب لابنها)، لكني استبعدتُ هذه الفكرة. همست نبيلة زوجة شقيقي إنها زائرة تنتظر عاصي لمساعدتها في إنجاز معاملة جواز سفر.
غيرتُ ملابسي، عدت لأجلس معهنّ، استأذنت والدتي لتذهب وتتمدد قليلاً لأنها أخذت علاج الضغط والسكر وتحتاج أن تخلد إلى الراحة قليلاً. قدمتني أمي إلى الزائرة (هذه سرى العانس). اندهشت المرأة فبادرت إلى الرد لتنقذ الموقف وتخرج الزائرة من دهشتها: هي التي تقدم نفسها للآخرين بأنها عانس. وقالت: سرى تشعر بالعنوسة منذ أن جاء هؤلاء الأميركان (واحتلونا).
غادرت أمي وأصداء حديثها داعب أحاسيس الزائرة فتهادت قطرات من دموع عينيها على وجنتيها سرعان ما أسعفنتي فطنتي أن المرأة عانس مثلي. وقبل أن تستعيد نبضها لتبث كلاماً إلى الفضاء الذي تكهرب، قرأتُ في عينييها ذلك الانكسار الذي لا تتلألأ على وجه أحد إلا وجوه العانسات.
قالت سليمة وهي تتأوه من ألم العنوسة وأحزانها: رفضت الزواج لأعتني بوالديّ المريضين، توفي والدي وبقيت أعتني بوالداتي المريضة، الطاعنة في السن. كنت البنت الوسطى في البيت، تزوجت الكبرى والصغرى من شقيقاتي وتزوج الولدان وعزلا في بيتٍ مستقل، فتحملت مسؤولية العناية بهما لوحدي. كنا نعيش أنا وأمي في بيت والدي لكن أمي ماتت.
بعد وفاة أمي، تشاجر أشقائي على موضوع الإرث، فقرروا بيع البيت لتقاسم الميراث، حينها فقط شعرت أني عانس، وأني أمسيت وحيدة، أشقائي متزوجون ومنشغلون بأسرهم. صرت بلا ماوئ، أتنقل بين بيوت أشقائي، من بيت إلى آخر، أشعر بالغربة بينهم كأنهم لا يمتون لي بصلة رغم أنهم يكنون لي بالمودة. لكن العانس تشعر بالذل ولاسيما بعد وفاة الوالدين، وتشعر بالانكسار، تتآكل من الداخل، ساعة ندم تصاحبها ساعة الشعور بالإهانة؛ فالإحساس أنك تعيش في منزل أحد لست من أسرته، إحساس بشع وقاتل.
أشعر بخطأ قراراتي، وأشعر بالإحباط والندم. وكلمة (لو) تحاصرني من كل الاتجاهات: لو كنت متزوجة، لكان لي بيت وأسرة وزوج استظل بفيئه.
تأخر عاصي، وكانت سليمة قد قصدته لإصدار جواز سفر سريع لها، قالت إنها تريد السفر إلى سوريا لغرض إجراء عملية جراحية لها، وعاصي يتمكن من إصدار جواز سفر في ثلاثة أيام فقط، لكن مقابل مبلغ أربعمائة دولار لا ينقص دولار.
قالت سليمة إنها ستدفع المبلغ لأنها مضطرة فهي بحاجة إلى جواز سفر، وقالت إنها أودعت معاملة رسمية في الجوازات قبل ثلاثة أشهر ولازالت تنتظر. وعاصي تمكن من إصدار جواز سفر لصديقتها وفاء. وأخبرتها وفاء باستحالة حصولها على الجواز دون أن تدفع مبلغ نقدي.
حلّ المساء، فاحت رائحة الرمال، صدر أصوات ارتطام ووقوع أثقال قوية على الأرض، كانت عاصفة رملية قوية قد هبّت في الخارج فقلبت أشياء على بعضها وتهاوت أشياء أخرى. تكدست ذرات الرمال الناعمة داخل الغرف والصالة نافذاً من الثقوف والفتحات تحت الأبواب. صبغت جدران الغرفة وفضاءها باللون الأحمر، لون الدم. الأجواء هذه ذكرتني بأجواء العراق أيام الغزو، فما أن اقتحمت الدبابات الأميركية بغداد وداست سرفاتها شوارع بغداد حتى هبت العواصف الترابية من كل الجهات، وانقطع الماء عن البيوت، والكهرباء، وتوقف البث الإذاعي، وعزلنا عن العالم الخارجي. نجتمع قرب المدافئ ونتأمل وجوه بعض. وعندما كنا ناوي إلى غرف نومنا، كنا ننتحب بصمت، وتسيل الدموع من أعيننا مثل زخات المطر.
خرجت من البيت لأتمشى إلى السوق التجاري الواقع نهاية الشارع، أثارت انتباهي البيوت الشاهقة التي بنيت بتراص جميل، تتدلى من أسوارها المتسلقات الخضراء. سألت نفسي وأنا اجتاز باباً بعد باب: يا ترى كم عانسا تختفي خلف هذه الأبواب؟ يا ترى هل يدرك جنود الاحتلال، (جنود التحرير والديمقراطية والفجر الجديد لاحقاً) - كما يطلقون على أنفسهم في قواميسهم وهم يجتازون الشارع الرئيسي الموازي لمنزلنا - أن خلف أبواب هذه البيوت، وهذه الجدران والأسوار، هناك فتاة شابة كبرت بسرعة، شاخت قبل أونها، فتاة تشعر أنها عانس كلما مروا من أمامها، أو صادفتهم في طريقٍ ما، هل يدركون إنهم سلبوا منها الشعور بالانتعاش والنشوة والمرح والبراءة والأنوثة، وحلها محلهم شعور باليأس، بالعجز. فتاة أحلامها كلها أصبحت مشاريع مؤجلة لحين زوالهم من الأرض.
انتهى المسلسل التركي المبلج (الغريب) الذي تعرضها قناة amc4 الفضائية. تابعت مسلسلا تركيا آخر (عليا) تعرضها القناة ذاتها، فرشت أسناني، ووضعت كريما على وجهي، ثم استلقيت في الفراش. خطوات أكررها نفسها كل ليلة قبل النوم. حياة روتينية ليس فيها أي شيء جديد سوى تلك الحالات الطارئة التي تحدث بين ليلة وأخرى، مداهمة البيوت وشن حملة اعتقالات أو فرض حظر تجوال في المنطقة أو سقوط قذيفة أو انفجار سيارة ملغمة أو اختطاف أحد من المنطقة أو اغتياله.
انتهى الوقت المخصص لتشغيل (المولد) الذي أصبح (نوارة كل بيت) وصار الاستغناء عنه مثل الاستغناء عن أرواحنا، عمّ الظلام أرجاء البيت، وساد صمت، ثم انبعثت صوت سيارة شرطة وهي تمرق مسرعة من الباب تابعها أزيز طائرة خطفت مسرعة هي الأخرى من فوق البيوت.
رنّ جرس الجوال وكنت نسيت أن أغير درجة النغمة إلى الصامت كيلا يوقظ صوته العالي والداتي التي تنتبه لأي صوت وتنهض مرعوبة، ثم إني امتنع عن الرد على أي اتصال يأتيني بعد الثانية عشرة إلا الاتصالات الطارئة والخاصة، مضت تلك الليالي التي كنت أسهر فيها قرب الهاتف الأرضي، حيث كنا غرباء عن الجوال، لا نراه حتى في أحلامنا البسيطة، انتظر أن يتصل زيد ونتبادل معاً أحاديث الحب إلى صياح الديك في الفجر، تماماً كما تفعل أية فتاة مع شاب تهواه، كنا نتحدث ساعات طويلة دون أن نخشى على انقطاع المكالمة بسبب (الرصيد) ومسجات التحذير (أسف لا يمكنك الاتصال، رصيدك لا يكفي).
اليوم امتنع عن الرد على أي رقم غريب لا أعرفه، احسب ألف حساب قبل أن أجيب فربما أتلقى اتصالاً عن كارثة حلت بأحد أفراد الأسرة، أو يكون الاتصال فخاً رسمته إحدى فرق الموت التي نسمع عنها في شوارع بغداد، لكن وبسبب إلحاح المتصل، وغرابة الرقم الذي ظهر على الشاشة، اضطررت أن افتح الخط، بيدٍ ترتجف وقلبٍ يخفق ولسان تبتهل إلى الله (سترك يا رب)، اجعله اتصال سعدٍ لا نحس، أتأمل عقارب الساعة في الجوال فيأخذني الوجوم وينعقد لساني، من الذي يتصل في ساعة متأخرة تقف عقاربها عند الثانية والنصف ليلاً؟
افتح الخط وأنا اقرأ (المعوذات) في قلبي وإذا بصوت عائشة زوجة راسم المقيمين في السويد منذ سنة ونصف السنة. اقتحمني صوتها وأنا مغمضة العينين، قالت عائشة: حبيبي سرى أنا آسفة أيقظتك من النوم، راسم يسلم عليك، دكتور سعيد ابن عمه مرشح بالبرلمان (هالله الله بي).
كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
بغداد المحتلة العانس
التعليقات (0)