لم يكن يخطر ببالي أنني قد أعود يوما.
حين أقلعت الطائرة من مطار تونس قرطاج حملتني في أحشائها جسدا دون روح. حلقت بجسمي عاليا غير أن قلبي ظل دائما مشدودا إلى الوطن.
في الحقيبة حملت معي شهائدي العلمية و بعض أحلامي . لم يسعفني الوقت حتى ألملم حوائجي الخاصة. لم يكن هروبا بقدر ما كان بديلا عن السجن الذي كان يطاردني داخل وطني.
لم أكن وقتها قادرا على استيعاب فكرة أنني قد أسجن يوما داخل وطني بتهمة التفكير الحر فقررت أن أكون حرا داخل سجني الجديد أو سجينا داخل عالم حر. عالم غير ذلك الذي تركته ورائي.
في المنفى الاختياري حرمتني الأيام أن أحضر جنازة والدي الذي مات قهرا على أخي القابع في السجن فقط لأنه أخي. نعم أنا بوصفي قلما لا يسكت و لا يستكين تسببت في سجن أخي و موت أبي. قد يكون عذاب السجن ارحم من هذا الإحساس المرير بالذنب و أنت ترى الخناق يضيق على أحب الناس إليك. مرد هذا الخناق أنني يوما لم انحني و لم اقل نعم لظلم أو قهر أو فساد.
كنتُ انشر مقالاتي تحت اسم مستعار حتى لا يتوصل إلي أعوان البوليس السياسي غير أنني لم افلح في كتمان السر طويلا. فقد توصلوا إلى كشف هويتي الحقيقية عبر مدير الجريدة التي كنت أراسلها.
الحق يقال انه بعد أن وشى بي تحت تهديداتهم اتصل ينبهني :
"هم في طريقهم إليك...عليك أن تختفي...على الأقل الآن...".
حين داهموا بيتنا لم أكن موجودا فاقتادوا أخي عوضا عني. جُبت أنا البلاد لمدة متخفيا حتى تمكنت من الحصول على اللجوء السياسي في فرنسا.
لم يستصدروا في حقي قرارا بالمنع من السفر ربما كانوا وقتها يودون أن ارحل بشكل أو باخر. المهم عندهم أن اصمت.
لم يكن صمتي ليشترى و لم يكن المنفى ليمنعني من الكتابة. انتهى بي الأمر في شقة صغيرة في ضواحي باريس. شقة آوتني لسنوات غير أنها لم تكن يوما دارا لي. تعودت أن احمل بيتي داخلي... بيتي سيظل إلى الأبد هناك مطلا على الشارع الكبير...في أرجاء البيت تفوح رائحة طبيخ أمي.
حطت الطائرة في مطار قرطاج بعد عشرين عام من الإبعاد لأنني في الأثناء حرمت حق العودة إلى الوطن و منعت من استصدار جواز سفر.
و انا احزم حقائبي هذه المرة لم أكن أتصور أنني سأستقبل بتلك الحفاوة. في المطار حملتُ على الأعناق و تبينت من بين الأصوات زغاريد أمي...لم أتمالك نفسي حين ضمتني إليها...هو خليط من الشوق من الفرح من الشجن من ألف ألف إحساس و إحساس. لم استوعب إلى الآن ذلك المهرجان الذي حظيت به في المطار بالرغم من أنني كنت إلى وقت غير بعيد نكرة في ذهن الكثيرين من أبناء شعبي.
شعبي الذي انتفض ذات 14 جانفي من سنة 2011 ليهديني حق العودة إلى الوطن.
ختام البرقاوي
تونس في 17 مارس 2011
التعليقات (0)