العمال في المصانع والطلاب في المدارس والجامعات، والفلاحون في “الغيطان”، والجنود ب”السلاح الصاحي” على حدود الوطن . تفاصيل دقيقة لجدارية عظيمة لا تزال حاضرة بقوة رغم مرور ثمانية وخمسين عاماً في الضمير الإنساني، تروي قصة ثورة أخرجت الملايين من البسطاء والمحرومين، من ظلام القهر والبؤس، إلى نور العدل والاستقلال والحرية .
ذلك النور الذي لم يتوقف مداه عند حدود “مصر العربية”، لكنه اندفع مثل موجة تسونامي عاتية، ليكنس في طريقه ممالك جور، وإمبراطوريات ظلم، وبقايا احتلال بغيض ظل جاثماً على قلوب الشعوب في العديد من بقاع العالم، وليضيء الطريق للسائرين على درب الاستقلال واستعادة الأوطان .
ثمانية وخمسون عاماً مرت على قيام ثورة 23 يوليو ،1952 ولا تزال أفكارها ومبادئها وإنجازاتها حاضرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، تداعب أحلام الملايين من كل عرق ولون، في الاستقلال والكرامة الوطنية .
ثمانية وخمسون عاماً ولا يزال الباحثون عن الحرية والعدل الاجتماعي وحق الشعوب في ثرواتها الطبيعية، يرفعون صورة جمال عبدالناصر، في الساحات والميادين، رمزاً خالداً لثورة عظيمة، لم يزدها هجوم الأعداء ومؤامرات المتآمرين، إلا قوة واعتباراً في صفحات التاريخ الحديث .
منجزات تقاوم محاولات هدمها ومحفورة في ذاكرة الملايين
أجراء تحولوا إلى ملاك لمساحات معقولة من الأراضي الزراعية، وعمال معدمون تحولوا إلى مساهمين في شركات كبرى وفرت لهم العلاج والسكن والرعاية الاجتماعية، وحفاة عراة صار لهم الحق في الحياة بعد عقود من المذلة .
على هذا النحو يتذكر ملايين المصريين ثورة يوليو بكثير من الفخر والاعتزاز،
رغم مرور 58 عاماً على قيامها في 23 يوليو/ تموز من العام 1952 . ويدينون لها بالفضل الكبير في تغيير صورة مصر الحديثة .
عمال وطلبة ومثقفون وفلاحون استطلعت “الخليج” آراءهم، فكانت إجاباتهم أشبه ببكائية حزينة على منجزات لا تزال تقاوم بضراوة محاولات هدمها، محفورة في ذاكرة الملايين .
مصريون في "نوبة حنين" إلى زمن عبدالناصر
الكاتب والروائي محمد المنسي قنديل يقول: لم يتبق من ثورة يوليو في الذاكرة سوى الأحلام الجميلة التي وعدتنا بها وأنجزت الكثير منها خلال فترة وجود الزعيم جمال عبدالناصر، تلك الفترة التي عشنا خلالها نرى مصر وهي تتقدم وتنتقل من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي ومنتج . ويضيف قنديل: تبقى أيضاً الذكريات العظيمة التي حفرتها مصر الثورة في الشأن الثقافي عبر إنشاء العديد من المؤسسات الثقافية التي وصلت إلى النجوع والكفور، إذ إن الثورة أحدثت بين ما أحدثت في مصر مداً ثقافياً منقطع النظير في الحضر والريف، فأقامت العروض المسرحية في القرى في “ليالي الحصاد” وخلقت حالة من الزخم تسترجعها مصر كلما تعرضت لأزمة من تلك الأزمات التي تلاحقها حالياً .
ويرى أستاذ العلوم السياسية وعضو مجلس الشعب المصري الدكتور جمال زهران، أن ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 تركت معاني ومكاسب معنوية لا تزال تسكن وجدان الأمة، ولا يستطيع أحد إدخالها إلى دائرة النسيان، وفي مقدمتها قيم المساواة وتكافؤ الفرص والعدل الاجتماعي والانتماء الوطني ويقول: مثل هذه القيم لا تزال حاضرة في وجدان الشعب العربي انطلاقاً من كونها قيماً إنسانية سامية يظل رمزها الزعيم جمال عبدالناصر باقياً .
ويضيف زهران: يكفي أنه كلما ذكر اسم عبدالناصر في حضور الأجيال الجديدة التي لم تعاصره ينبعث في النفس نوع من التفاؤل، وهو ما يعني أن كل ما نادى به وعمل من أجله سيظل حاضراً داخل الوجدان يتناقله جيل وراء جيل، رغم مرور ما يقرب من ستين عاماً على قيام الثورة .
ويضيف زهران: لقد كشف الغضب الشعبي في كل العواصم العربية في أعقاب العدوان “الإسرائيلي” على غزة عمق تجذر معاني وقيم ثورة يوليو، فقد انتفض الشعب العربي كله رافعاً صور زعيم الثورة في الساحات والميادين، في إشارة واضحة تقول إن عبدالناصر كان وسيظل رمزاً للصمود، وإن ثورة يوليو كانت وستظل هي التجسيد الصادق لأحلام الشعب العربي في الوحدة والاستقلال والحرية .
ويشير نقيب المحامين الأسبق سامح عاشور إلى السد العالي باعتباره أحد أبرز تجليات ثورة يوليو ويقول: لا يزال السد باقياً، ليس في الذاكرة الوطنية فحسب، وإنما في عيون العالم أجمع، حتى آلاف الشركات التي تأسست في الحقبة الناصرية لم تستطع الحكومات المختلفة خلال العقود التي أعقبت رحيل عبدالناصر أن تقضي عليها، فكثير منها لا يزال عصياً على الخصخصة .
ويرى عاشور أن التطور في البعد الاجتماعي كان أبرز ما رسخه عبدالناصر في الدولة المصرية، بحيث أصبح الجميع شركاء في كافة الوظائف والمناصب، ويقول: القيمة الحقيقية التي خلفتها ثورة يوليو تكمن في قائدها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي صار ملء السمع والبصر، فلا تزال الجماهير في العالم الثالث أجمع تستدعيه كلما نزلت بها المصائب والمحن، حتى إن الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز أعلنها صريحة عندما قال: نعم أنا ناصري وأمضي على خطى عبدالناصر .
المحلل السياسي والخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام الدكتور عمرو الشوبكي يقول: تظل قيمة ثورة يوليو في أنها لا تزال باقية في الذاكرة الشعبية بما حققته من العدالة الاجتماعية والتحرر القومي والاستقلال ونزاهة الحاكم، وتلك القيم في مجملها هي التي تسكن الضمير الجمعي ويتم استدعاؤها مع الأزمات والمحن والانكسارات والانتصارات .
ويشير الشوبكي إلى أن حالة التفاوت الطبقي الذي تعيشه مصر في العقود الثلاثة الأخيرة، إلى جانب غياب فكرة العدالة ذاتها، تستدعي قيمة ثورة يوليو التي انحازت إلى فكرة العدالة الاجتماعية كركيزة أساسية في أهدافها، فهاهو الاحتلال الأجنبي يعود من جديد والصلف “الإسرائيلي” يبلغ مداه، بينما الفشل هو مصير كل المشاريع العربية الحالية بعد تراجع فكرة التضامن العربي، وفشل التنمية القُطرية في كثير من البلدان . ويضيف الشوبكي: كل هذه الظروف تستدعي دائماً الأفكار الوحدوية والقومية والتحررية التي دعت إليها ثورة يوليو، وهو ما يعني بوضوح رد الاعتبار للثورة ولأهدافها ومنجزاتها، في ظل التحديات القُطرية والإقليمية والدولية التي تواجه الوطن العربي .
ويلفت ضياء رشوان نائب مدير مركز دراسات الأهرام إلى أن قطاعاً كبيراً من المصريين لم يعايش ثورة يوليو بحكم الشريحة العمرية، حيث إن 50% من سكان مصر تتراوح أعمارهم الآن ما بين 18 30 عاماً .
ويقول: لقد وصلت ثورة يوليو إلى هؤلاء من خلال إعلام مضاد للثورة، دأب على تشويه منجزاتها، لكن ذلك لم يفلح كثيراً فالمعاناة التي يعاني منها الشعب المصري والعربي تستدعي دائماً قيم الثورة .
ويضيف رشوان: كان يجب على مصر وهي الدولة الأم أن تحافظ على قيم الثورة في الذاكرة القومية باعتبارها حدثاً تاريخياً عظيماً، مثلما فعلت فرنسا مع الثورة الفرنسية التي بقيت فوق أي جدل أو خلاف سياسي .
ويقول رشوان: لا يزال قطاع كبير من الشعب المصري يحتفظ لثورة يوليو في ذاكرته بإنجازاتها مدافعاً عنها وعلى ما تبقى من شركات القطاع العام والتعليم المجاني والحد الأدنى للملكية الزراعية .
عصام سلامة عبدالغني البالغ من العمر (31 عاماً) ينظر إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر باعتباره رمز الحرية والاستقلال، ويقول: لا تزال صورته حاضرة في ذاكرة الشعب العربي، ولا يزال الرجل الوحيد الذي يمكن أن تلتف حوله الشعوب، خاصة في ما يتعلق بقضاياها المصيرية .
ويقول عصام: إن جيله من الشباب الرافض لحالة التراجع التي تعيشها الأمة العربية، كثيراً ما يرفع صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في كثير من التظاهرات التي تتعلق بقضية الصراع العربي الصهيوني، إذ لا يزال عبدالناصر هو الزعيم الذي جسّد حلم أمته في الوحدة والعدالة الاجتماعية والحرية والاستقلال .
وتتذكر رانيا صادق سامي خريجة جامعية وتبلغ من العمر (25 عاماً) معركة تأميم قناة السويس التي تعتبرها واحدة من أكبر المعارك التي خاضتها ثورة 23 يوليو/ تموز ،1952 وتقول: يكفي للثورة المصرية أنها نجحت في توجيه ضربة قوية للامبراطورية البريطانية التي قيل عنها إنها لا تغيب عنها الشمس .
وتضيف رانيا: لم تكن معركة التأميم هي المعركة الوحيدة للثورة، فقد أعقبتها معارك أخرى أبرزها تمصير الاقتصاد المصري، من أجل تحقيق الاستقلال الوطني والكرامة الوطنية المصرية والعربية .
وتضيف رانيا: برغم صغر سني فإنني أجد في نموذج ثورة 23 يوليو عام 1952 وما أنجزته على الصعيد الوطني والإقليمي السبيل في توحد كافة الأمة لنهضتها وعزتها في مواجهة محاولات تراجعها وتخلفها عن ركب التقدم والازدهار ويخرجها من حالة الاستسلام والعجز عن الفعل .
يتذكر عاطف حسن فرغلي (فلاح) من محافظة قنا في صعيد مصر، كيف احتضنه والده وهو لا يزال صبياً صغيراً وهو في غاية السرور قائلاً له: الآن أصبحنا ملاكاً بعد أن كنا أجراء عند الباشا .
ويضيف عاطف: يومها سألت والدي عن سر هذا التغير في حياتنا، فقال لي إن عبدالناصر وزع علينا الأرض في مشروع اسمه الإصلاح الزراعي . ويقول عاطف: كان والدي من الأجراء الذين كانوا يعملون في الزراعة لدى أحد كبار الملاك، وبعد أن تسلم ثلاثة أفدنة زراعية تغيرت حالتنا الاقتصادية والمعيشية تماماً .
ويحسب للثورة حسبما يرى عاطف فرغلي، أنها أعطت قيمة حقيقية للعدل الاجتماعي، بإصدارها سلسلة من القوانين التي أنصفت الفلاحين وشيدت المدارس لأبنائهم يتلقون فيها العلم وكذلك الوحدات الصحية الريفية لتعالج أبناء الفلاحين .
عاطف الذي يعيش في قرية يطلق عليها “الجارة” يقول: لولا الثورة لكان معظم سكان قريتي من “العبيد” لدى الباشا الإقطاعي .
سعيد محمد علي، عامل بشركة النصر للسيارات، يقول: القطاع العام هو أبرز منجزات ثورة يوليو التي لا تزال باقية حتى اليوم، ويكفي أنه استوعب طوال العقود الماضية ملايين العمال وأصحاب الحرف الصناعية وفتح أبوابه أمام قطاعات كبيرة من الشعب المصري ليحد من البطالة ويساهم في إنعاش الاقتصاد القومي للبلاد .
ويضيف سعيد: فكرة بناء القطاع العام التي تبنتها الثورة واكبها تأسيس بنية تحتية للعمال تحميهم، من بينها تشييد المساكن الشعبية التي لا تزال تعبر تعبيراً صادقاً عن مرحلة الثورة التي وفرت العمل والمسكن، ويكفي لثورة يوليو أنها خلفت قوانين تحمي العمال وحددت ساعات العمل وشملتهم بكافة الرعاية التأمينية والصحية والتعليمية . كل تلك المنجزات لم تكن فقط في ذاكرة المواطنين لكن كثيراً منها لا يزال في إطار المكاسب الملموسة التي يتمتع بها المجتمع المصري .
ويقول سعيد: لقد أنصفت قوانين يوليو الاشتراكية الطبقة الوسطى من المجتمع المصري، حيث شارك العمال في إدارة الشركات من خلال انتخاب ممثلين عنهم في مجال الإدارة ودخل العمال (البرلمان) بعد أن حرموا طويلاً قبل الثورة من حقهم في الترشح، وحصنت ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 حق العمال في تمثيل نصف مقاعد البرلمان من خلال مادة دستورية .
وتحتفظ الصيدلانية فاطمة حامد بدوي بصور عديدة للزعيم جمال عبدالناصر داخل صيدليتها الكائنة في شاع محمود بسيوني بوسط القاهرة، وتحتفظ كذلك بكثير من الإعزاز والتقدير للثورة وقائدها، وتقول: يتذكر المصريون اليوم جيدا قيمة التعليم المجاني الذي منحته الثورة لأبناء الشعب، وتضيف الدكتورة فاطمة: لولا ثورة 23 يوليو لما تلقى الملايين من أبناء الفقراء والبسطاء تعليمهم الذي كان مقتصراً على أبناء الأغنياء والقادرين .
وتضيف: لولا ما أنجزته الثورة في مجال التعليم لما ظهر علماء أمثال أحمد زويل وغيرهم، فجميعهم من نتاج ثورة يوليو، وأعتقد أن الحكومات المصرية التي جاءت إلى سدة الحكم عقب رحيل عبدالناصر فشلت في الإجهاز على هذه القيمة الإنسانية، حيث شيدت الثورة العديد من الجامعات المصرية في الأقاليم بعد أن كانت الجامعات مقتصرة على القاهرة والإسكندرية .
القاهرة - “الخليج”:-منقول
التعليقات (0)