شموئيل موريه
لا نكاد نجد جالية يهودية في اسرائيل اهتمت بتدوين ذكرياتهم عن حياتها في المهجر مثل أدباء يهود العراق وشعرائهم. فمعظم مؤلفاتهم الأدبية تدور حول أحداث ماضيهم في العراق وحاضرهم في اسرائيل وفي غيرها من دول الشتاتٍ، فنشروا العشرات من الكتب التي تتحدث عن حياتهم في العراق باللغات العربية والعبرية والانكليزية والافرنسية، وترجموا العديد من الكتب العربية الى اللغة العبرية والانكليزية رغبة منهم في المساهمة في تعريف الأدب العربي لقراء اللغة العبرية ليكونوا جسرا للتواصل الثقافي والأدبي بين اليهود والعرب. وفي مجال الترجمة الذاتية باللغتين العربية والعبرية فقد ساهم ادباء يهود العراق مساهمة جليلة، لا فرق بين الاديب البغدادي والبصراوي والحلي والموصلي والعمارتلي والكركوكلي والاربيلي والصندوري والعاني والشهرباني والناصري وغيرهم. واليوم بعد ان أخذ عدد كتاب العربية من بين يهود العراق في تناقص مستمر، عمد الباقون منهم الى التأليف باللغة العبرية لكي يستطيع الابناء والاحفاد الوقوف على ماضيهم في العراق، فانهمكوا في تدوين ذكرياتهم في كتبهم وقصصهم ورواية سيرهم الذاتية.
ولعل اهم ظاهرة تلفت الانتباه هو النشاط الادبي الذي يقوم به الاستاذ الاديب شاؤول حداد، الصحفي العراقي صاحب جريدة "البرهان" الادبية الانتقادية الاسبوعية التي اصدرها في بغداد بين عامي 1929-1930. فقد فاجأ الاوساط الادبية في اسرائيل بنشر قصصه باللغة العبرية بالرغم من انه تجاوز المائة عام، فهو من مواليد بغداد المعمرين في اسرائيل، إذ ولد عام 1908 ومارس الصحافة والنقد الاجتماعي والثقافي في العراق، ثم عيّن مديرا لمدرسة مسعودة شمطوب في السنك التي اصبحت فيما بعد المحطة الأخيرة قبل الهجرة الى اسرائيل، وكان اول من ادخل الالعاب الرياضية الاوروبية في المدارس اليهودية، ثم مارس التعليم في اسرائيل في مخيمات اللاجئين اليهود من العراق والبلاد العربية الأخرى، ووسم مجموعة قصصه الاولى باللغة العبرية بعنوان "زهرة الحب" وهو في سن التاسعة والتسعين، ودبجها باسلوب عبري متين سرد فيه قصصه الرائعة عن تفاصيل حياة يهود بغداد وعلاقاتهم اليومية بالاغلبية المسلمة وحياتهم بعد الهجرة الى اسرائيل والعلاقات بينهم وبين يهود المهاجر الاخرى بصورة واقعية مؤثرة، وما يزال في أوج صفاء ذهنه الوقاد وفي اوج نشاطه الثقافي والادبي، وهذا الشهر (يوليو/جزيران) نشر بالرغم من بلوغه من العمر عتيا وهو 102 سنة من حياته المديدة، روايته "الفلك الدوار" تحدث فيها عن معاناة يهود كردستان من معاملة الأكراد المسلمين ومعاملة يهود بغداد الفظة لهم. ويحدثنا المؤلف في هذه الرواية عن مصير فتاة يهودية كردية من بلدة صندور التي أقدمت على شتم واهانة اغا البلدة الكردية حين قام بقرصها بكل صفاقة وصلف من مؤخرتها، فلما هددها بالقتل انتقاما لـ"ـشرفه" لاذت بالهرب ليلا الى بغداد لتعمل خادمة عند عائلة يهودية بغدادية، فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ سطا على شرفها شابان من ابناء العائلة. وكما يحدث في مثل هذه الحالات، فقد طردتها ربة البيت عندما علمت بأنها حملت من ابنيها سفاحا ـ بدعوى انها زانية تتهم ولديها العفيفين الشريفين، اللذين لا يمكن أن يقوما بمثل هذه الفعلة الشنيعة. ثم دار الفلك دورته وتزوجت الخادمة الكردية بعد أن ولدت ابنها، من الاخ الاصغر الذي اغتصبها والذي احبته رغم فعلته الشنيعة، ثم اصبح زوجها هذا من كبار الاغنياء، الى أن دار الفلك دورته مرة أخرى وخسر ثروته بادمانه على الرهان في حلبة السباق (الريسز) في بغداد. هذا ويعكف أديبنا الاستاذ شاؤول حداد في الآونة الاخيرة على انجاز كتابه القصصي الثالث عن ذكرياته في العراق. نتمنى له الصحة والعافية وانجاز مشاريعه الادبية للحفاظ على ذكريات اطول المعمرين من يهود العراق في اسرائيل.
وتشاء الصدف ان يقوم المؤرخ ابنير يعقوب يارون من مواليد بغداد ومن عائلة فتيا الشهيرة، بنشر كتابه الرابع وفاء لعهد قديم قطعه للرئيس الثاني لدولة اسرائيل وهو السيد اسحق بن تصفي مؤسس معهد بن تصفي لدراسة الجاليات اليهودية في الشرق، حين طلب من المؤلف تدوين تاريخ يهود مدينة "صندور" الكردية. وأخيرا افلح المؤلف في الوفاء بعهده ونشر كتابه معتمدا على ما دونه في مذكراته عن زيارته لهذه البلدة في الاربعيانيات من القرن الماضي وعلى المقابلات التي أجراها مع يهود صندور الذين لا يزالون يتكلمون الارامية في اسرائيل ويحافظون على عاداتهم، وتقاليدهم، وموسيقاهم واعيادهم الخاصة بهم. وهكذا افلح الاستاذ يارون في انقاذ تاريخ هذه المدينة الكردية بتسجيله من ذاكرة سكانها الاصليين القاطنين اليوم في مناطق اسرائيل الجبلية، وقد تبوأ بعضهم المناصب المهمة واصبح بعضهم من كبار المقاولين في بناء دور السكن والمعاهد الدراسية وانشاء الطرق والجسور وهم يعيشون في تجمعات ليهود كردستان ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم ويفخرون بانتمائهم الى اقدم جالية يهودية في العالم، ومن زعمائهم اليوم السيد الياهو بن يوسف وهو رئيس اتحاد يهود كردستان في اسرائيل والسيد اكرم برزاني أحد نشطائهم وافرايم عفروني الذي زار كردستان العراق عدة مرات، ومن بين شعرائهم الذين ينظمون الشعر باللغة العبرية الشاعر الصندوري الاصل يعقوب يعقوب. والعجيب انهم لا يعرفون انفسهم بانهم عراقيون بل أكرادا، ولا يعترفون بالتقسيم الجغرافي البريطاني-الفرنسي- التركي، كعراقيين أو ايرانيين او اتراك أو سوريين، مدعين انه تقسيم استعماري جاء نتيجة لطمع البريطانبين في نفط العراق.
وكان الاديب والمربي فكتور درور- معلم، المدير السابق لمدرسة الاهالي الابتدائية المسائية في بغداد وهو اليوم من ادباء مدينة اور- يهودا، التي تحتوى على عدد كبير من تجمعات يهود العراق والكثير من المجمعات التجارية فيه تدعى باسماء عراقية، مثل سوق بغداد الصغيرة، ومطعم اكو ماكو، والمخبز العراقي لصنع اقراص الخبز العراقي والكورك، ومطعم سعيد العراقي ومطعم نادرة للطبخات العراقية البيتية والمتخصصة بالباجة والكبة بانواعها، وكان الاديب فكتور معلم قد سبق الكثير من الادباء في تدوين ذكرياته عن بغداد خلال النصف الاول من القرن العشرين في ثلاثة كتب باللغة العبرية، آخرها "رأيت، سمعت، وعانيت"، تحدث فيه عن تجاربه في الحياة وعمّا شاهده وسمعه من النوادر والحكايات الطريفة عن ايام العز في بغداد وعن المحسوبية بين ابناء الاغنياء والمتنفذين في العراق. وحين يعود بذاكرته الى أيام الملك فيصل الأول، يروى من بين طرائفه حكايه وقوع الآنسة جرترود بيل، عشيقة الملك فيصل الاول كما يقال، في غرام فتى يهودي وسيم من موظفي القطار ودعوتها له الى مقصورتها الخاصة بها في قطار بغداد وتوددها اليه وهلعه عندما راودته عن نفسه اقتداء بزليخة عشيقة سيدنا يوسف الصديق، فقال لها الفتى اليهودي الغشيم ببرودة وسذاجة تكاد تكون غاية في الرقاعة، بإن عليه أولا ان يطلب اذنا من المدير العام الانكليزي للسكك الحديدية العراقية السيد ويبستر، فإذا وافق الأخير على رغبة الخاتون المبجلة، فسيلبي طلبها عن طيب خاطر وينصاع لأوامرها، فغضبت لرقاعته و"لزّمَته باب القطار" وألقت به من مقصورتها الى قارعة رصيف محطة بغداد وهي تلاحقه بكل المسبات العراقية التي تعلمتها اثناء خدمتها الجليلة للامبراطورية البريطانية في العراق. أما النادرة الطريفة الاخرى التي يرويها فكتور معلم فهي حكاية نشل ساعة الجيب الذهبية من المفوض آدم الوادي وهو اخو شاكر الوادي الوزير العراقي سابقا اثناء شرائه لبطاقة الدخول الى السينما. فاشتكى الى احد العرفاء الذين كانوا قرب السينما وطلب منه أن يتحرى عن النشال الذي "ضربه ابجيب"، فقال له، آسف يا سيدي، من الواضح إن اسماعيل النشال لم يتعرف على حضرتكم وسأخبره بالامر، ثم غاب العريف بضع دقائق وأعاد الساعة الذهبية الى صاحبها. ومثل هذه النوادر معروفة في الكتب التي تروى عن احوال العامة في العراق في القرون الوسطى، فقد كان شيخ طائفة النشالين والحرامية مسؤولا في بعض الاحيان عن رد المسروقات في حالات خاصة.
ترجمة قصص الاديب خالد القشطيني ضمن مجموعة ترجمات عبرية من اللغة العربية
وبين الكتب العديدة التي صدرت في شهر يونيو/ أيار الماضي لأدباء من مواليد بغداد هي باقة جديدة من روائع الشعر العربي الحديث مترجمة الى اللغة العبرية مع مقالات وتعليقات على القصائد المترجمة بعنوان "الشعر - الاستعمار الجميل، من شعر الجيران"، (تل أبيب، عتون 77، 2010) بقلم عاشق اللغة العربية، الاستاذ تسفي كباي الديبلوماسي والمستشرق المتمرس بالترجمة من اللغتين العربية والعبرية وسفير اسرائيل السابق في دابلين ونائب مدير وزارة الخارجية الاسرائيلية سابقا. تعد هذه المجموعة المترجمة من افضل الترجمات العبرية من اللغة العريية. فبينما امتازت الترجمات السابقة بترجمة الشعر العربي بتصرف وبلغة عبرية شاعرية، بحيث لا تراعى فيها الدقة، فتصبح قصيدة عبرية جديدة، بينها وبين النص العربي والترجمة العبرية بون شاسع، وهناك ايضا ترجمات حرفية تذهب بجمال اللغة العربية الشاعرية. أما ترجمة السيد كباي الى العبرية فهي تجمع بين أمانة الترجمة وروعتها، الى جانب تعليقات مهمة على القصائد مع ذكر المصادر وتاريخ نشر النص العربي. وقد انعكست مهمة الديبلوماسي على مختارات الاستاذ كباي لمواضيع القصائد التي ترجمها، فانصبت على قصائد النقد السياسي والثقافي والاجتماعي للمجتمع العربي في الشعر والادب، اكثر من اهتمامه بالشعر كفن شعري خالص ذي رسالة جمالية بعيدة عن السياسة والاصلاح الأجتماعي والحضاري. لذلك نجد ان حصة الاسد في هذه المجموعة كانت من نصيب الشاعر السوري نزار قباني (ص 23-79)، هذا الشاعر الذي حارب بالكلمة والذي بقي حتى آخر لحظة من حياته يترنم بالمرأة العربية وانتصاره لحريتها في الحب انتقاما لاخته التي انتحرت لتعبر عن ثورتها على تكبيل عواطفها في اختيار حبيبها، كما عاش في صدام دائم مع الدكتاتوريات العربية واسرائيل التي اتهمها باغتصاب فلسطين عبر الحروب التي شنتها الدول العربية لاسترجاعها، لذلك نرى ان عنوان الكتاب المترجم مقتبس من عنوان قصيدة لنزار قباني هي "الشعر – الاستعمار الجميل" وفيها ينقد شاعرنا ولع العرب بلغتهم وشعرهم. وقد تميزت هذه الترجمة بمقدمات مقتضبة يحلل فيها المترجم القصائد ليقربها الى فهم القارئ العبري ويظهر فيها المغزى الذي يرمي اليه الشعراء، في نقدهم لحكوماتهم ومجتمعهم بجرأة بالغة، فعبروا عن موقفهم المعارض لتمسك المجتمع العربي بالقديم ودعوتهم الى تبني حضارة إنسانية جديدة بقيم روحية جديدة. وهي تعليقات وايضاحات مهمة تشرح للقارئ العبري ما غمض عليه من موقف الشعراء العرب من السياسة والصراع الحضاري بين الديمقراطية والاستبداد، وقد اهمل الشعراء العبريون اليوم هذا الموقف الاصلاحي، فالشعر العبري الحديث يرى نفسه امتدادا للشعر الغربي الذي يهتم بالنفس والذات الداخلية للشاعر ووحدته في الوجود وفرادته في الكون وسيادته لمصيره. كما قارن الشاعر بين قصيدة الشاعر الفرنسي جاك برفير "إفطار" وقصيدة نزار قباني "مع جريدة" ليدلل على انفتاح الشاعر على الشعر الافرنسي الواقعي، بالاضافة الى ترجمة قصيدة "بلقيس" التي يعبر فيها الشاعر عن آلآمه لمصرع زوجته العراقية في الحرب الاهلية في بيروت، وترجمته لقصائد اخرى تعكس موقف قباني المعارض للتطبيع مع اسرائيل في اعقاب إتفاقية أوسلو والتي نشرت في جريدة الحياة عام 1996.
ولم يحظ باقي الشعراء الكبار، كمحمود درويش وأدونيس سوى ببضع صفحات عبروا فيها عن رفضهم للواقع العربي عامة، وقد اختار المترجم الشاعر المهجري ايليا ابو ماضي كمثال للشعر الفلسفي العربي في ملحمته الرائعة "الطلاسم" التي تعكس حيرة الانسان من الوجود ومغزى الحياة.
أما التجديد في هذا الديوان فهو ترجمة القصائد التي غنتها مطربة الشرق أم كلثوم وهي أغان تعود عليها ذوق الاسرائيليين واولعوا بها، كقصيدة "أنت عمري" لاحمد شفيق كمال، و"الف ليلة وليلة" لمرسي جميل، ورباعيات الخيام. ويقول الشاعر العبري ألموج بيهار، عن اثر قصيدة أم كلثوم "أمل حياتي"، في ابيات نشرها تحت عنوان "أمل هي تقوة" مفسرا فيها معنى الكلمات العربية بالعبرية (عن مجلة أبريون <هودج>، مجلة حوض البحر الأبيض المتوسط، رقم 114، ربيع 2010، لمحررها إيرز بيطون من مواليد المغرب):
أمل، هي تقوة. حياتي، هي حياي.
وعندما تلتقيان
بين شفتي أم كلثوم
وأذني
عطش شديد يحفر آبارا
في قلبي.
وانهى المترجم هذا القسم الشعري بترجمة قصائد لشعراء من جزيرة العرب الذين لم يتعرف عليهم قراء العبرية بعد، وهم الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح من الكويت والشاعر قاسم حداد من البحرين والشاعر اللبناني محمد علي فرحات والشاعر السعودي احمد ابو دهمان الذي ينقد العقلية الغيبية، والشاعر اليمني الشهير الدكتور عبد العزيز المقالح عاشق اليمن السعيد و مناظرها الخلابة وجبالها الخضراء، وهو من بين الشعراء العرب القلائل الذين لا يلتزمون بالنقد السياسي والاجتماعي والحضاري.
وقد احسن المترجم في جعل مسك الختام لكتابه الممتع، باختياره ثلاث قصص قصيرة للصحفي والاديب العراقي الكبير الاستاذ خالد القشطيني نزيل لندن، لكي يقف القارئ العبري على موقف الكتاب العرب اللاجئين في اوروبا من يهود العراق. والاستاذ القشطيني هو أمير المنتديات الادبية والاجتماعية في الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة في انكلتره، وقد دأب في كتاباته المنشورة في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية وفي قصصه وذكرياته باللغة الانكليزية والعربية، على تدوينها بواقعية وبأمانة عن يهود العراق معبرا فيها عن الشعور بالذنب الذي يطارد بعض المثقفين العراقيين لما حل بيهود العراق المسالمين من الحيف وظلم في العراق. فهو يكثر في حديثه الممتع عن حبهم لمسقط رأسهم وذكائهم وتسامحهم وحسن معاشرتهم للمسلمين وأمانتهم واخلاصهم للعراق، الامر الذي جعل علية القوم من العائلات اليهودية في لندن تتنافس على ضيافته لدماثة اخلاقه وكنوز ذكرياته عنهم وحبه لسماع قصصهم عن "أيام الخير" في العراق، جنان الخلد أيام زمان، قبل أن يطردهم الطغاة منها وحينينهم الطاغي اليها.
ولا يسعنا هنا سوى شكر المترجم على مشروعه الثقافي الموجز بالرغم من أنه لم يشمل جميع كبار الشعراء والادباء العرب، إلا انه افلح في تقديم نبذة مختصرة للقارئ العبري، نأمل ان يقوم بتقديم نماذج جمالية وفلسفية منوعة لباقي كبار الشعراء العرب في ترجماته في المستقبل.
نقلا عن ايلاف
التعليقات (0)