يهودية الدولة: معركة قناعات لا معركة حقوق
هل تصبح إسرائيل "نموذجا" لحركات الإسلام السياسي؟
بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
في مساهمة له في كتاب صدر في ألمانيا في التسعينات عنوانه "الإسلام العدو" يطرح المثقف الفلسطيني المعروف الدكتور عزمي بشارة ملاحظة يقول فيها: "ويلاحظ أيضا أن جزءا كبيرا من إصدارات الحركة الإسلامية تكن لإسرائيل خليطا من الكراهية والإعجاب"، وهذا العبارة في الحقيقة تشكل "المفتاح الحقيقي" لفهم الإلحاح الإسرائيلي المتصاعد مؤخرا على انتزاع اعتراف عربي بإسرائيل كـ "دولة يهودية"، والرفض العربي الحاد – وإن بدا أقل صخبا – لفكرة يهودية إسرائيل.
البعض يركز على التأثيرات المحتملة لهذا الاعتراف على الحقوق الفلسطينية في الأرض وعودة اللاجئين، وهو في الحقيقة جزء صغير جدا من الحقيقة، فقضية يهودية إسرائيل تشكل في نظر أطراف عربية أوروبية كثيرة خطرا نوعيا أكبر بكثير من وجود إسرائيل نفسه. وفي الحقيقة فإن هذا الجدل ينطوي على عدة دلالات شديدة الأهمية. فهو أولا يعني أن العرب تجاوزوا نهائيا قضية الاعتراف بوجود إسرائيل من عدمه وأن خيار التسوية والتعايش أصبح شبه نهائي لا تعارضه إلا قوى سياسية ودينية محدودة.
والجدل بشأن يهودية الدولة يعني أن "هوية إسرائيل" ليس شأنا صهيونيا محضا بل من المشروع – بناء على الرفض العربي المعلن – مناقشة هويتها كموضوع إقليمي أو حتى عالمي. فالطبيعي أن قبول مبدأ مشروعية الدولة تترتب عليه بالضرورة نتائج في مقدمتها حقها في إعمال سيادتها وفي مقدمة نتائج هذه السيادة تقرير هويتها يهودية كانت أو علمانية.
ويشير هذا النقاش أيضا إلى تحول تاريخي خطير بكل معنى الكلمة هو أن إسرائيل اختارت طريقها لأول مرة منذ بدأ المشروع الصهيوني بين مشروعين تعايشا داخلها لعقود هما: المشروع الصهيوني العلماني والمشروع الصهيوني الديني. وتاريخيا كان المشروعين متكاملين "عمليا" متنافرين "أيديولوجيا"، فالصهيونية الدينية وفرت الأساس القادر على جمع الجماهير والجنود الذي شكلوا قاعدة المشروع الصهيوني، والصهيونية العلمانية كانت قادرة على التواصل مع القوى الكبرى الغربية التي وفرت الحماية والدعم للمشروع والدولة، وحتى ظهور أميركا كقوة كبرى منخرطة في الشأن العالمي بعد الحرب العالمية الثانية كانت هذه القوى علمانية.
وخلال مسيرة إسرائيل كان هناك تفاهم يسمى "الأمر الواقع" بين العلمانيين والدينيين حدد مساحات للمؤسسة الدينية (دار الحاخامية) وترك الباقي للسياسيين العلمانيين وهو اتفاق ظل الطرفان يحترمانه دائما. وقد عبر عن هذا بوضوح بقاء حزب العمل (اليساري العلماني) يحكم إسرائيل دون انقطاع منذ نشأتها حتى عام 1977 عندما وصل حزب الليكود إلى الحكم بزعامة مناحم بيجن عام 1977. وكان هذا التحول اللحظة التي نضجت فيها نتائج حرب يونيو 1967 التي يجمع المتخصصون في الشأن الصهيوني على أنها كانت البداية الحقيقية لانعطاف النخبة السياسية، في إسرائيل وأمريكا معا، نحو تغليب ما هو ديني على ما هو علماني.
وخلال السنوات التالية كان صعود اليمين الديني في أميركا يدعم التحول داخل إسرائيل إلى مزيد من تأكيد يهوديتها في "شهر عسل" سياسي متصل أعيد خلاله صياغة إسرائيل من الداخل وامتد نفوذ الحاخامات بسرعة كبيرة حتى أصبح الحاخام عوفاديا يوسف يلقب – بسبب نفوذه السياسي الاستثنائي بـ "صانع الملوك". وعلى مفترق الألفية كانت إسرائيل تشهد صراعا دينيا علمانيا شرسا وصل إلى حد العنف المتبادل وهو ما وصفه مراقب إسرائيلي آنذاك بأنه "انتفاضة الحجارة الحقيقية"، بل تعالت أصوات في إسرائيل تطالب بدولتين لليهود: علمانية ودينية.
لكن جفاف مصادر الهجرة اليهودية التقليدية لإسرائيل والتفاوت الكبير بين معدل زيادة اليهود الشرقيين والغربيين أسفر – لأول مرة عن – تحول اليهود ذوي الأصول الغربية "الإشكيناز" إلى أقلية مقابل أغلبية من اليهود الشرقيين "السفارديم". ولأسباب ثقافية وتاريخية كان السفارديم داعمين لتأكيد يهودية إسرائيل مقابل انحياز واضح من أغلبية اليهود الإشيكناز لخيار الدولة العلمانية. وقد فتش الإسرائيليون عن "صمغ" يحقق التماسك بين روس وألمان وبولنديين وإثيوبيين وهنود وعراقيين ومغاربة وبولنديين ويمنيين و....يعيشون في محيط معاد فلم يجدا – بالمنطق البراجماتي – سوى الدين!
ولم يتصور أحد من علمانيي إسرائيل أبدا أن يتحول الدين من "وسيلة" إلى دعامة وحيدة.
وقد لعب مركب من الأسباب دورا رئيسا في قبول الطرفين تأجيل حسم قضية الهوية، فمن ناحية كان كل طرف يأمل في أن تنتصر وجهة نظره في النهاية انتصارا حاسما ومن ثم راهن على الوقت، ومن ناحية أخرى كان الخوف من صراع يهودي يهودي يعزز هذا الخيار. وهناك من ناحية أخرى أن حدود دولة إسرائيل لم تكن موضع إجماع إسرائيلي أبدا، فكان مدرسة "صهيونية الأراضي" التي تطمح إلى دولة من النهر إلى البحر حتى لو ضمت سكان عربا، و"الصهيونية الديموجرافية" التي كانت تعطي أولوية لنقاء السكان بغض النظر ن الخرائط. ولهذه الأسباب جميعا بقيت إسرائيل منذ إنشائها دون دستور، ذلك أن إصدار دستور كان يعني حسم أهم قضيتين خلافيتين: الهوية والحدود.
وخلال فترة رئاسته الوزارة في إسرائيل حاول أن يقود إسرائيل (1999 – 2001) لتعبر هذا المفترق باتجاه اختيار هوية علمانية وأعلن فعلا عدة مرات عن مشروع لإعداد دستور علماني لإسرائيل وهو ما فشل في تمريره فشلا ذريعا بسبب تصاعد نفوذ القوى الدينية في إسرائيل. ومنذ يوم 4 – 6 – 2003 ويهودية الدولة مطلب "رسمي" أميركي/ إسرائيلي، فقد وقف الرئيس جورج دبليو بوش يومها ليقول: "الولايات المتحدة اليوم ملتزمة بقوة، وأنا ملتزم بقوة ضمان أمن"إسرائيل" كدولة يهودية تنبض بالحياة".
وما تثيره التحولات الجديدة في إسرائيل من قضايا تتجاوز آثاره بكثير ملفات التفاوض الفلسطينية الإسرائيلية، بل إنها عن عمق التأثيرات الثقافية والدينية لهذا الصراع، فمن ناحية، يعني قبول العرب بإسرائيل كـ "دولة يهودية" أول تحول من نوعه من الثورة الفرنسية التي أرست مبدأ الفصل التام بين الدين والحياة العامة وبالتالي سيكون العالم قد شهد للمرة الأولى نشوء دولة على أساس ديني وهو ما يشكل أمرا مرفوض تمام الرفض في أوروبا التي تعتبر قوى رئيسة فيها أنها "حارس لقيم الثورة"، ومن ناحية أخرى سيعنى هذا الاعتراف استحضارا غير مسبوق للبعد الديني في الصراع على فلسطين بكل ما يعنيه ذلك من تبعات خطيرة.
ويضاف إلى ما سبق أن إسرائيل التي أنشئت تلبية لأشواق دينية عند اليهود للعودة إلى أرض يقدسونها دينيا سيعطي مشروعية لإنشاء الدول على أساس ديني، وبالتالي سيعطي مشروعية لسعي الحركات الإسلامية لإزالة الأنظمة الحاكمة في بلادها لبناء نظم حكم إسلامية بدلا منها. وإذا مددنا الخط على استقامته فسنكتشف أن مثل هذا التحول سيكون مقدمة – مجرد مقدمة – لمرحلة تالية من الإحياء الديني ستجعل هدفها إعادة الخلافة الإسلامية كسلطة جامعة لشعوب الأمة، وإذا كان اليهود قد عادوا بعد حوالي 4 آلاف سنة إلى الأرض التي يقدسونها وتمكنوا من تأسيس "دولة يهودية"، فمال الذي يمنع المسلمين في التفكير الجدي في إعادة تأسيس سلطة كانت موجودة قبل أقل من مئة سنة؟
وهنا سيكون على أطراف كثيرة عربية وأوروبية أن تستشعر الخطر الشديد، فالخلاف حول يهودية إسرائيل ليس خلافا على الحقوق أو الحدود، بل هو خلاف على القناعات التي تحكم تأسيس الدول وقواعد إدارتها، وهو خلاف كلف العالم كثيرا في حالات سابقة، فالتحول في أوروبا الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية كلف الأوروبيين عشرات الملايين من القتلى وعقودا متتالية من الحروب الشرسة انتهت بصلح وستفاليا الشهير (1648). وفي مرحلة تالية تسبب الخلاف الأطلسي/ السوفيتي حول شكل التنظيم السياسي والاقتصادي للدولة سبعة عقود من القلق النووي. واليوم يعود "صراع القناعات" ليطرح نفسه بقوة في منطقة ملتهبة من العالم.
منشور بمجلة الوطن العربي الأسبوعية الباريسية عدد رقم 1687 بتاريخ: 1 يوليو 2009.
التعليقات (0)