مواضيع اليوم

ينتقلون من المغاور إلى أكواخ من التنك والخشب في عالم آخر- نازحون الى ضواحي طرابلس

صهيب ايوب

2009-12-08 12:36:23

0

ينتقلون من المغاور إلى أكواخ من التنك والخشب في عالم آخر
نازحون من قرية مشمش العكارية إلى ضواحي طرابلس قبل 50 سنة


صهيب ايوب

 

في نهاية الطلعة المعروفة بـ "الخنّاق" في محلة ابي سمرا الطرابلسية، يقع درج صغير قد لا يخطرعلى بال احد ان وراءه يوجد عالم آخر مختلف عما يحيط به. فوسط هضبة جبلية صخرية ينبت فيها الشجر، أكواخ صغيرة مهترئة تتراكم فوق بعضها مؤلفة عالماً لا ينتمي الى الريف ولا الى المدينة في نمط العيش والسكن.


إنه عالم تسكنه عشرات العائلات في بيوت من "التنك" والخشب. يجمع هذه العائلات نسب واحد وقرابة مشتركة وانتماء موحّد الى قريتهم الام مشمش، احدى القرى النائية في قضاء عكار. وراء بؤس هذا العالم يعيش الاهالي على شيء من الإلفة النابعة من القيم والاصول والتقاليد المشتركة. انه عالم منسي ومسكون بالفرح والألم.

 

حي التنك

يدعى الحي"حي التنك"، ويطلق عليه ايضاُ وادي مشمش. وهو يقع ما بين طلعتي "الخناق" والمنار، ويخفي بين ثناياه قصة نزوح غريبة بدأت إلى احدى المغاور المنتشرة في ذاك الوادي وانتهت في مساكن متواضعة ومتراصة من اسمنت قليل وخشب وسقوف من "التنك"او"التوتيا". انها قرية بدائية انعزلت عن محيطها المختلف في عمرانه الحديث ونمط عيشه المترف، لتخلق لنفسها نمط عيش متقشفاً وهجيناً.
تستقبلك نظرات حائرة ومتسائلة عن سبب الزيارة . هل يعقل ان يكون الزائر احد ممثلي النواب المحليين، يسأل عن حال السكان آتياً لهم بمعونات اومساعدات؟ ام انه باحث اجتماعي يبحث عن اناس "مثلنا" ليملأ استمارته عن نمط "سكننا"؟ لا داعي الى التساؤل، فالكاميرا التي يحملها الزائر تدل الى كل شيء.
بضعة نسوة يقمن بتقطيع الحطب، فالطقس الماطر ينبئ بالبرودة. مظهر النساء يدل الى قوة اجسادهن. يطلبن عدم تصويرهن، وتقول احدى النسوة التي ترتدي ثوبا ريفيا رثا، إن رحلتنا في المكان لن تكون سهلة. نسير في الازقة الضيقة. ولد صغير يلاحق احدى الدجاجات "ليبيتّها" داخل الخمّ. وولد آخر حين يرانا يهرع نحو باب احد البيوت ثم يخرج برفقة والدته . ترحب بنا السيدة التي تدل لكنتها الى انها طرابلسية. تستقبلنا داخل كوخ وتحدثنا عن زواجها من احد ابناء الوادي وعن اندماجها السريع مع السكان، رغم انها ليست من قريتهم. تقول إن زوجها كان يعمل سائق سيارة عمومية، وهو من عائلة تنحدر من قرية مشمش العكارية. لكنه تربى هنا مع عائلته التي تركت القرية واستقرت في الوادي منذ اكثر من 60 عاما، مع بعض اقاربها الذين نزحوا بدورهم ليبحثوا عن احلامهم في حياة كريمة.
تضيف السيدة: "الجميع يعتبرنا بؤساء الا اننا فرحون في وجودنا هنا. ورغم تعاسة العيش نحن مقتنعون بظروف حياتنا، لا ينقصنا شيء. لدينا كل الوسائل الحديثة. نملك "دش" وتلفزيوناً من طراز jvc ومكيفاً. يرتاد اولادي المدرسة ولا اسمح لهم كثيرا بالتسكع مع اولاد الوادي لانني اريد تربيتهم تربية جيدة".
نترك كوخ السيدة لندخل كوخاً يخرج منه دخان كثيف الى جانبه معلف للابقار وغرفة من التنك تؤوي بقرتين. امام شاشة التلفزيون يتربع الحاج محمد مشاهداً نشرة اخبار الثالثة التي تبثها إحدى المحطات. قربه مدفأة حطب دخانها الكثيف يملأ الكوخ. ويقول الحاج ان "سبب تركنا القرية هو قلة فرص العمل في الشتاء، حيث يعمل معظم اهالي القرية في الزراعة ويعتمدون على مواسم الصيف التي قلّما تلبي حاجات الشتاء القارس من المازوت للتدفئة والى المونة المكلفة". يتكلم عن نزوحه بشيء من الالم فيقول: "تركنا القرية على امل أن نجد في دفء المدينة آمالنا. عملنا في "الفاعل" في بساتين الزيتون والليمون الطرابلسية لنكسب لقمة العيش وبقينا على حالنا حتى الآن".

 

الحياة في المغارة

رجل في الثمانين من آل الكردي. يخبرنا قصة النزوح الاولى. فهو من اوائل النازحين في خمسينيات القرن الماضي. يقول إن شباناً من قرية مشمش عزموا على الرحيل، "وكنت واحدا منهم. سكنا في البداية في المغاور المجاورة للوادي ونصبنا خيماً كالبدو. دام سكننا في المغارة مدة سبع سنوات، ثم بدانا في بناء هذه البيوت الصغيرة من التنك. في المغاور كنا نشعل النيران ونستخدمها في الطبخ والتدفئة والحماية من الوحوش. مبالغ ضئيلة من العمل عند المزارعين، مكنت بعضنا من شراء قطعة أرض صغيرة، فشيدنا بيوت التنك على اراضٍ مشاع تملكها البلدية". ويؤكد الحاج ان تبدلاً طرأ على حياة الناس هنا، فلم يظلوا فقراء كبداية نزوحهم من القرية. فالابناء يرسلون الاموال لاهاليهم من بلاد الاغتراب في استراليا ويساعدونهم في مصاريف العيش هنا. فمن المعروف ان ابناء مشمش هم من اكثر ابناء عكار هجرة الى استراليا حيث توجد هناك احياء تعرف باسماء عائلاتهم.
المغاور اليوم تستخدم مكانا للدجاج والابقار التي تقوم النسوة برعيها والافادة من حليبها في صناعة الاجبان والالبان وبيعها في الجوار. وبعض سكان الأكواخ تقصد بناتهم الجامعة اللبنانية في القبة ويدرسن في اختصاصات مجدية.

 

العلاقة بالقرية الام

يحافظ سكان الوادي ذوو الاصول العكارية على لهجتهم الريفية الخاصة بقرية مشمش، رغم ان غالبية ابناء الوافدين الى الوادي لا يعرفون عن قريتهم سوى بعض القصص. المسنون لا تزال تربطهم بقريتهم الام زيارات متقطعة. يتحدث الحاج احمد الحولي (اكبرعائلة نازحة إلى الوادي) عن زيارته لمشمش قائلا: "اقوم بزيارة الضيعة في فصل الصيف حيث اعتني بموسمي التفاح والاجاص واقوم ببيعهما لاكسب المال". رجل آخر قال إنه لا يزور مشمش إلا في الاعياد ومواسم الافراح والعزاء. وسكان الوادي هم من عائلات حولي وكردي وحسني وقمر الدين وضناوي وعيشة الذين لا تزال قيود سجلاتهم في مشمش. وتخالط هذه العائلات ايضا عائلات من فنيدق من ال عمشة (او كما يعرفون عياش) والسيد. وتسكن في الحي عائلة مؤلفة من رجل عجوز وزوجته من آل النداوي من وادي خالد في عكار.
حين تطلع الشمس على ذلك الوادي في كل صباح ينطلق ضجيج خفيف يخالطه صياح الديكة ونقيق الدجاجات وخوار الابقار، حيث لا تغيب عن سكان الوادي "نوتة " العيش القروي في بدائيته وبساطته. انها قرية تنعزل عن المحيط الذي يسيّجها بابنيته الاسمنتية، فيعيش اهلها في سعادة غامضة.


  




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !