(1)
نكّست رأسها وكأنّ الذنب ذنبها
ها قد ارتدت ثوب العار الذي نسجته الأيدي القذرة
وارتسمت لحظة النهاية أمام عينيها اللتين ارتدتا لون الدموع
لم يعد لوعودهم بالحرية والقضاء على الطغيان إلا لون رمادي كالح كوجه الشارع الذي ألفته منذ زمن
لم يعد الشارع شارعاً , ولن يكون الأخوة أخوة
ولم تكن هي من الطيور التي هاجرت بحثا عن بقعة أمان ولم تكن من الغربان التي اقتسمت الجيفة مع الضباع
كانت حمامة هدلت يوماً عند نافذة الرشيد في أمان فاغتالتها يد غادرة لم تعرف الرشيديوماً ولم ترع الذمم
(2)
لن يعود!!
أقسمت في سرها ان تنتظره
حتى لو تحولت الجدائل التي بلون السنابل إلى لون الطحين
وحتى لو انثنت القامة الهيفاء كماالنخل لتغدو كماالعرجون القديم أو الهلال
أقسمت أن تقف أمام شطّ النهر وتنتظره
علّ المياه القادمة من الشمال تحمله
بل لعلها تحملها هي إليه في الجنوب
أقسمت أن ترتدي الحزن حتى يعود
وأن تكرههم كل يوم , وكل ساعة وكل دقيقةٍ حتى آخر العمر من الأعماق
أقسمت وأقسمت وأقسمت
وارتدت عباءتها السوداء وانطلقت لتنفيذ اليمين
(3)
باسمك اللهمّ أموت وباسمك اللهمّ أحيا
لم تعد تدر ي أكان هذا دعاء النوم أم دعاء الخروج من البيت
اللهم احفظني عن يميني وعن شمالي ومن أمامي ومن خلفي…
اللهم إن أمتّني, فاجعل موتي شهادة , وإن ابقيتني فاحفظني
اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي
اللهم إني أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها
رحلة العذاب اليومية
ولقمة العيش الصعبة المهينة بشروطٍ أشدُّ إهانةً مما تحتمله حرةٌ مثلها
ولهيب الجنون المتصاعد من المصاعب حولها
كأنّ لا أحد هناك يحفل بأمرها
كأنّ لا أحد يفكر فيها
كأنها لم تكن شيئا مذكورا
(4)
{وإذا الموؤدة سئِلَت بأي ذنبٍ قتلت}
كانت الحفرةُ أضيق مما أراد فانهمك في توسيعها
الرمال التي تناثرت من حوله ولهيب الجو جعلاه يشعر بالمزيد من الحنق
والمزيد المزيد من العطش
طرد صور لعب الطفولة جانبا
ونحّى بعيدا ذكريات حوارات الصفاء
كل ما تذكره الآن وجه العار الذي ينتظره إن هي بقيت على قيد الحياة
لم يكن من الممكن ان تظل حيّة!!
حتى لو لم يكن الذنب ذنبها!!
حتى لو كانت مظلومة!!
حتى لو لم يستطع- هو- الدفاع عنها أو الاقتصاص من الجاني !!
المهم الآن أن تتسعَ الحفرة لها ولعارها
(5)
ارتدى المنصور جبّته, وانتعل أبو حنيفة النعمان خفّيه, وانطلقا نحو الرشيد
لم تكن بغداد كما عهداها
ولم تعد كما سكناها
إلا أن نغمة الحزن القديمة فيها عرّفتهم الطريق
فعرجا على مواطن الحزن والبكاء والعويل
كل تلك الأضرحة!!
كل تلك المقامات!!
لم تعد بغداد عاصمة الخلافة, لقد أصبحت عاصمة الحزن والنكبة
أسلم هولاكو زمام الدم لمن بعده
وارتدى عليّ فيها قميصَ المسيح
وتسمّت كل مدنها بغدادا
فما عدت تعرف الكوفة من البصرة , من كربلاء والنجف
هكذا عرفها الاثنان, وصلا إليها ثم تاها فيها
ولم يسمع عنهما أحد بعد ذلك شيئا
أما الرشيد الذي لم يصله ذانك الاثنين فكأنّ الموتَ أعاقه عن سماع صراخات الحرائر فما أسرج خيله ولا شهرَ سيفه
وأما المآذن فما عاد لأذانها ذلك التغريد , ولم تعد العصافير تسكن قبابها بأمان
لم يبق إلا أمل وحلم تسامت فكرته في الأفق لوحةً بهيةَّ الألوان
أن تسكن الجراح وترحل الغربان التي استوطنت نخل المدائن
لليلى في العراق ألف تحية
ودعاء
وسلام
التعليقات (0)