يـــوم تحــلاق اللِّمَـــمْ
مصعب المشرّف
3 أكتوبر 2018م
يوم تحلاق اللِّمَمْ . وإن كان قد جاء يوم فصل من أيام العرب ؛ وسببا في إنتهاء حرب البسوس . وخلده شاعر المعلقات وبني قيس "طــرفـةَ بن العبد" بقصيدة ميمية عصماء تقول مقدمتها:
سـائلوا عنا الذي يعرفنا ...... بقوانا يوم تحلاق اللِّمَمْ
يوم تُبدي البِيض عن أسْوُقها .... وتلف الخيل أعراج النعم
.... فإننا نرى هذا اليوم اليوم يتكرر لدينا في شوارع الخرطوم . ولكن بطريقة منقلبة رأساً على عقب.... وبدلاً من أن يتسبب "يوم تحلاق اللم " السوداني في إنهاء حالة . إذا به يتسبب في بداية حالة أخرى من الهلع ونشـأة أجواء ضبابية مُبهَمَة.
إمتلأت وسائل التواصل والمواقع التفاعلية الأسبوع الماضي إذن ؛ بصور ومقاطع فيديو لجنود يقومون بحلق شعر رؤوس بعض المراهقين ؛ الذين رمى بهم يومهم ذاك التعيس والحظ العاثر في الزمان والأماكن التي نشط فيها هؤلاء الجنود المجهولون ، الذين كانوا يرتدون الزي الرسمي لقوات الدعم السريع.
كانت حلاقة الرؤوس بطريقة بشعة . إستخدم فيها الجنود السكاكين الحادة . وبما أدى في معظم الأحيان إلى إحداث جروح وإسالة دماء من تلك الرؤوس اليانعة ؛ بلا داع يدعو لمثل هذه الشراسة في التعامل مع يافعين مدنيين مسالمين.
بداية ذهبت جميع التعليقات إلى القول بأنه هؤلاء الجنود ينتمون إلى قوات الدعم السريع .... وهو ما أثار تساؤلات عن إختصاصات هذه القوات . وهل هي مكلفة بالقيام بمهام إنصرافية صغيرة كهذه ، لا تتعلق ولا ترقى ألى الأسباب والمهام القتالية الجسيمة التي تم إنشاؤها ن أجلها ؟ أم أن الأمر فيه لبس . وأن هؤلاء الجنود إن كانوا حقاً بنتمون إلى الدعم السريع إنمـا تصرفوا هنا بمحض إجتهادهم الشخصي دون تعليمات من قيادتهم؟
ثم هل كان تصرفهم الشخصي هذا مجرد ردود أفعال لما ذهب إليه الظن بأن أمثال هؤلاء الشباب هم الذين ساندوا وناصروا برنامج "شباب توك" في دعواه المبطنة للهجوم على الإسلام . وبما يؤدي إلى الإيهام وتغذية الإنطباع لدى الجهلاء بأن أسباب التحرش والإغتصاب وزواج القاصرات ... وتحديد الإطار العام لأذواق وموضات الـزي والمظهر الأنيق المحتشم هي إملاءات دينية بحتة؟
لم تترك قيادة الدعم السريع الأمر بنمو على شكوك الناس . فسارعت إلى الإعلان والتأكيد بأنها لم تصدر أوامر بملاحقة المراهقين والشباب في الأسواق والأماكن العامة وحلق رؤوسهم .... وأن قوات الدعم السريع لديها من المهام الأمنية القومية ما يجعل ساعات وقتها أثمن من ذلك.
وكان من جراء هذا النفي الذي أكدته قيادة قوات الدعم السريع , أن توجهت الأنظار إلى وزارة الداخلية . ولكن سرعان ما أصدرت الوزارة بياناً حاسماً أكدت فيه عدم تورطها أو تورط محموعة من منسوبيها بهذا العمل.
وما بين نفي هؤلاء وأولئك ، إزدادت الظنون وتوسعت الشكوك ، ونشأت تساؤلات تمحورت حول قول الناس:
"هل تشهد البلاد حالة من حالات الفوضى ، ونزول مجموعات مسلحة غير نظامية ولا منضبطة إلى الشارع العام ؛ ترتدي أزياء قوات نظامية لفرض قناعاتها "الخاصة بها" بالقوة على الغير؟".....
نعم إنقسمت الآراء حول هؤلاء الشباب والمراهقين ما بين متفهم ومستهجن لجهة الأزياء وطريقة تربية الشعر والتجمعات تحت ظلال النيم . والتصرفات المائعة وتوابعها الخليعة على شارع النيل في العراء أو داخل المركبات على نحو يذكرنا بعصور الهيبيين من جيل الرفض الذين إجتاحت موجتهم عواصم الغرب الأوروبي بعد الثورة الطلابية الفرنسية عام 1968م ، وتبعتها موجة الشعر المهمل والقميص الملتصق بالحسد والبنطلون الشارلستون الضيق المحزّق ؛ وأغاني الجاز ورقصة الكاروشة وسط شباب الشرق الأوسط وأفريقيا ... أو بما عرف بموضة الخنفس لدى العرب و الآفرو لدى الأفارقة.
والطريف أن جماعات الإخوان المسلمين كانت تهاجم موجات الآفرو وأياء المراهقين وقناعاتهم خلال فترة نهاية الستينات وعقد السبعيات من القرن الماضي. وتوجه أصابع الإتهام إلى قناعات الشيوعية ودعوات العلمانية "المتحللة" ؛ والإبتعاد عن تطبيق شرع الدين الإسلامي الحنيف ..... ثم هاهي تقف اليوم عاجزة عن مواجهة هذه الموجة التي تجتاح فئات كثيرة من مراهقي وشباب المجتمع الذين ولدوا ونشأؤا وترعرعوا في فترة حكم الإخوان المسلمين منذ إنقلاب يونيو 1989م وحتى تاريخه.
ولكن من جانب آخر قد لا نتفق مع أدبيات كوادر المعارضة السياسية المنظمة ؛ التي تزعم أن هؤلاء الصبية والشباب إنما هم أبناء الطبقة الحاكمة اليوم من الإخوان المسلمين وحلفائهم ، وأثرياء الغفلة والملياريرات الجُـدُدْ ... ذلك أنهم لو كانوا كذلك لما كانت هذه المجموعة التي حلقت لهم قد تجرأت على فعل ذلك ، خوفاً من ملاحقات أهلهم وبطشهم.
ولا حاجة إذن بالغوص والتوسع في أن أسباب ظاهرة هؤلاء الشباب إنما تعود في أغلبها إلى حالة العطالة في الحاضر ، واليأس من مستقبل لا يتبينون فيه معالِم.
البيانات الرسمية "المُعتَبَرة" التي صدرت عن قيادتي الدعم السريع ووزارة الداخلية هي محل تقدير وتفهمها الشارع والمواطن العادي ...... ولكن لا يزال المطلوب إجراء تحقيقات دقيقة لمعرفة من هم هؤلاء الجنود .. من أين أتــوا ... وإلى أي جهة ينتمون؟ ... وهل قاموا بهذه الحملة من تلقاء أنفسهم أم غير ذلك؟
في الماضي وربما حتى يونيو 1989م . كانت مثل هذه الحملات يصحبها قاضي مدني مبتديء . وهو الذي يصدر الأوامر لضابط الشرطة بمتى وكيف يتصرف والأداة العقابية (السلاح) التي يستخدمها..... وضابط الشرطة يتولى توجيه ضابط الصف بنقل الأوامر إلى الجنود .... وهكذا كان يتم التنسيق على نحو غاية في السلاسة والمهنية ومراعاة لحقوق الإنسان. وبما يحفظ للحكومة هيبتها ومصداقيتها في أفئدة الناس
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن مثل هذه الحملات حين تأتي وفق طط وبرامج مجتمعية واضحة ؛ يجب أن تسبقها ندوات وورش . وتنبيه على أرضية "قد أعذر من أنذر" .... وأن لا تمثل الشرطة فيها دور الخصم والحكم .... وبما معناه أن تأتي هذه الحملات الإنضباطية تحت إشراف قضاة محاكم من وزارة العدل وبعيدا عن العشوائية . ويتولى تنفيذها قوات النظام العام ؛ بوصفها المأمورة والمكلفة بضبط الشارع المدني في أوقات السلم وصيانة الآداب العامة .. إلخ مما هو معروف عن مهام شرطة النظام العام ........ ثم وبعد إعتقال المتسيب ينبغي تقديمه إلى ساحات محاكم "مخالفات" مستعجلة . وهي الكفيلة بإصدار الأحكام المناسبة . والأمر بتنفيذها من فورها على نحو إحترافي نظامي بما يصون كرامة المواطن ، ويحفظ للقانون إحترامه بين الناس .... وربما لو أحيل أمثال هؤلاء الشباب والمراهقين لمحاكم قضائية مستعجلة . لكانوا قد أمروا بحلاقة رؤوسهم على أيدي حلاقين محترفين بإستخدام أدوات حلاقة متعارف عليها ولا مساس فيها بحقوق الإنسان . وحتى لا تتسبب الإهانات في غرس الأحقاد الدفينة فيهم . أو قطع الطريق على عودتهم إلى الطريق القويم والتفكير السليم الذي وله الحمد هو الديْدَنُ والصفة الغالبة على شبابنا وصبيتنا حفظهم الله من كل سوء ، وجعلهم ذخيرة لمستقبل أفضل وأياماً خيراً مما نحن فيه.
التعليقات (0)