كانت تظنه يحمل إليها زجاجة عطر ، اعتقدت ذلك ، أصابها نزق الأطفال …مرحت في بهو الغرفة …دندنت …ضحكت كطفل يعبث بلا نهاية ، كانت هدية يلفّها في جريدة ذابلة ، تشوه بداخلها أعمدة الشعر و نصوص أخرى أصابها الانكماش ، ومقطوعات تشبه الكتابة ، بلّلها غضب التجار و المارين و حملة القذارة ثمّ باعوها بلا ثمن و لم تعد صالحة للقراءة ، في أسفلها نقاط تبحث عن استمرار ، صفعتها ريح من زوايا المدينة ، تكسرت لفاتها المتآكلة ، فضحتها أعمدة مشوهة، تنتهي بأسماء مستعارة ماكرة ، خشيت التبهديل … ، تناقلها فراغ الشقاوة ، امتنعت عن إقامة الأحلام التي اعتادت على ممارستها هناك ، و الصحبة يمارسون عادة الضحك ، اعتادوا على ذلك…كل ذات مغرب أسود ، لم تكن الحقيقة التي علمها منها ، كانت إقامتها في بيت قديم متشابه ، بابها من معدن الغفلة ، يصرخ من بعيد ، أدركت أنّه هو و لا يمكن أن يكون غيره لكثرة حضوره هذا الوقت المتأخر من الليل ، يحضن زجاجته و رائحة البول تفوح من تحته ، لابد أنّ الزجاجة التي يحملها قد فعلت فعلها ، جعلته يحلم كثيرا ، أسرعت إلى الباب …كان بعيدا …تركت الباب مترددة …عادت إلى غرفتها تستر ما بقي من عورتها …كان صوته يقترب من الباب ، يكرر أغنية مثقلة ، حروفها مفككة …تصرخ…تقهقه ،
يقول بملء فيه : أشهد أنّي كسرت زجاجتي ، بعد أن بُلت فيها و أهديتك عطرها تكوني أنت حبيبتي ، قد لا تفهمين هذا الكلام يا حبيبتي ، وساوسك تراكمت هذا المساء و ستبقى كلّ مساء ، و الآن فهمتك ، فأنت تريدينك وحدك في هذا البيت الخرب و كلّ النّساء تعالمن و تعلّمن خبث نوار الدفلى … ، و يتحدثن عنك خفية ، و لما يبصرنك إلا و أنت تهمسين في كل أذن وراء حائط دورة المياه !!! و يُهمس في أذنك التي لم تعد تسمع بوضوح ، و يطعن فيك بكل الأشياء التي أحببتها و لما تفهمي أنّها تلاشت مع أول نسمة عابرة هذا الصباح الجميل و اتجهت إلى مكان …لا يمكنك أن تدركي نهايته ، حتى و إن وضعت نظارات العمق و الخبث … و ستظل لعبة المراوغة التي تمارسينها تراوغك ، فتسقطي بين يدي ، و زجاجة العطر قد ساح ما بقي منها على صدرك المشوه و لم أعد أرغب فيه ، أصابه تجعد الحيزبون ، لن تعجبك صراحتي ، فأنت كهذا الركام النتن ستظل قراءتك لكتابي موجعة حتى يدركك الموت ، و يفصل بين رائحة الوجع و قهر الكبت ، ركام آخر من الجنون و العبث و الانهيار المفاجئ في شوارع المدينة ، قرأت كتابك مثلما قرأت كتاب النّساء ذات يوم و قال لي الشيخ الموقر : “كيد النسا كيدين و من كيد واحد جيت هارب ، يتحزمو بلفاع و يتكلمو بالعقارب…”، و لا عجب أن أراك أفعى لعوبا أيضا ، تحسنين عزف صوتك المبحوح ، الذي تظنينه محبوبا !!! و يبكيك أحيانا مشهد العابرين في صمت و أنت تتألمين و لا تستألمين ، أصابني منك قلق ، و أنت تجوبين أزقة المدينة وحدك ، تختصمين مع ذاتك ، و في كل خطوة تنظرين إلى وجهك الذي أقلقك في المرآة ، و ظنّك العابرون تهمسين إلى حبيبك في هاتفك الذي لم يكن حبيبك الذي تنتظرين ، و اعتاد هؤلاء و أولئك منك هذا و غيره كثير …تعلمت منك يا حبيبتي شيئا واحدا “أن أنظر إليك بشفقة و أنت تتهاوين “و حبال العصمة تتباعد بمد بصرك الذي لم يعد يبصر…
حبيبتي لم أعد أفهمك و أنت تشاطرينهم جميعا همومهم ..أدركت حينئذ أنّ النفاق لديك يشبه الحرقة و العشق و الهيام ، و التخلص منه ضرب من الموت…أنشدت قصائد موسومة بـ ” أغنيات منافقة “.
حبيبتي …ألم يتعبك هذا العناء و أنت تحصين النازلات و الصاعدات لتبلغي عنان الجبال و قد مزقتك استثناءات كثيرة ، ذات اليمين و ذات الشمال ، تجاوزتك صفوف كنتِ تظنينها على منأى منهم و على قرب منك ، لكنّ عطرك الفواح الذي ألفيته لم يعد صالحا ، غمرته عطور الحي و أبادته…و أغنيتك المملة تعفنت وإن حاولت إطراب كلّ الرجال و استرضاء كلّ النّساء…، لأنّ الحي لم يعد تطربه أغنيتك المبتذلة…و عروضك الماكرة و إن تظاهرت بالطيبة و الوداعة ، و هاتفك لا يشتغل إلا مع ما يشبهه أو يشبهك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المأثور لـ “عبد الرحمن المجذوب” شيخ حكيم من أصل مغربي
له كتاب يضم ماثورا عظيما في الحياة و تفاصيل المرأة و الرجل ،و الخير و الشر ، و الحق و الباطل…..
التعليقات (0)